فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {ولو كانوا آباءهم} إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة.
ثم إن الذي يُحَادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهرًا بذلك معلنًا به، أو متجاهرًا بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوةٍ دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته قال تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة: 9] ولم يرخَّص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتّقاء شرّهم إن كان لهم بأس قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران: 28].
وأما من عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شَرّه عن المسلمين، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8].
ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بيّن شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البرّ والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} [الممتحنة: 8] وأن لكل منهما حالتها.
فـ: {لو} وصلية وتقدم بيان معنى {لو} الوصلية عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره.
وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن أهل الإِيمان الكامل لا يوادُّون من فيه معنى من محادّة الله ورسوله بخرق سياج شريعته عمدًا والاستخفاف بحرمات الإِسلام، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدّين وينبئ عن ضُعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإِعراض عن أدلة الاعتقاد الحق، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإِسلامي الحق.
فعن الثوري أنه قال: كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجَور.
وعن مالك: لا تجالِسْ القدرية وعَادِهم في الله لقوله تعالى: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}.
وقال فقهاؤنا: يجوز أو يجب هجران ذي البدعة الضالّة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة.
وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصفٌ من نوع المعنى ذي الحكم الثابت.
وهذا يرجع إلى أنواع من الشبَه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه.
وقد استدل أئمة الأصول على حُجِّيّة الإِجماع بقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنم}
[النساء: 115] مع أن مهيع الآية المحْتج بها إنما هو الخروج عن الإِسلام ولكنهم رأوا الخروجَ مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلِّهم فيه شَبه اتّباع غير سبيل المؤمنين.
{عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ}.
الإِشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم {يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}.
والجملة مُستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سابقًا وآنفًا، وما توعدهم الله به أنه أعدّ لهم عذابًا شديدًا ولهم عذاب مهين، وأنهم حزب الشيطان، وأنهم الخاسرون، مما يَستشرِف بعده السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك.
وهم المؤمنون الذين لا يوادُّون من حادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكتابة الإِيمان في القلوب نظير قوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21].
وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره، أي هم المؤمنون حقًا الذين زين الله الإِيمان في قلوبهم فاتّبعوا كمالَه وسلكوا شُعبه.
والتأييد: التقوية والنصر.
وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} في سورة [البقرة: 87]، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرّر بالإِتيان بفعل المضيّ للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه.
والروح هنا: ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره، وروحٌ من الله: عنايته ولطفه.
ومعاني الروح في قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} في سورة [الإِسراء: 85]، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها.
ورضَي الله عنهم حاصل من الماضي ومحقّق الدوام فهو مِثل الماضي في قوله: {وأيدهم}، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه، وحاصل في المستقبل بنوال رضا الله عنهم ونوال نعيم الخلود.
وأما تحويل التعبير إلى المضارع في قوله: {ويدخلهم جنات} فلأنه الأصل في الاستقبال.
وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه}.
وقوله: {أولئك حزب الله} إلى آخره كالقول في {أولئك حزب الشيطان} [المجادلة: 19].
وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم.
وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقين يغبطونهم فيخلصون الإِسلام.
وشتان بين الحزبين.
فالخسران لحزب الشيطان، والفلاح لحزب الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا} نزلت في قوم من المنافقين تولوا قومًا من اليهود وهم المغضوب عليهم، وقال الطبري: {ما هم} يريد به المنافقين و{منكم} يريد به المؤمنين و{منهم} يريد به اليهود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143]، ومع قوله عليه السلام: «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكافرين بقلبه»، ولكن هذه الآية تحتمل تأويلًا آخر وهو أن يكون قوله: {ما هم} يريد به اليهود، وقوله: {ولا منهم} يريد به المنافقين فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن لأنهم تولوا قومًا مغضوبًا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابًا. وقوله: {يحلفون} يعني المنافقين لأنهم كانوا إذا وقفوا على ما يأتون به من بغض النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه وموالاة عدوه حلفوا أنهم لا يفعلون ذلك واستسهلوا الحنث، ورويت من هذا نوازل كثيرة اختصرتها إيجازًا وإذا تتبعت في المصنفات وجدت كقول ابن أبي لئن رجعنا إلى المدينة وحلفه على أنه لم يقل وغير ذلك، والعذاب الشديد هو عذاب الآخرة. وقرأ جمهور الناس: {أيمانهم} جمع يمين. وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {إيمانهم}، أي يظهرونه من الإيمان والجنة: ما يتستر به ويتقي المحذور، ومنه المجن: وهو الترس: وقوله: {فصدوا عن سبيل الله} يحتمل أن يكون الفعل غير متعد كما تقول صد زيد، أي صدوا هم أنفسهم عن سبيل الله والإيمان برسوله، ويحتمل أن يكون متعديًا أي صدوا غيرهم من الناس عن الإيمان ممن اقتدى بهم وجرى في مضمارهم، ويحتمل أن يكون المعنى {فصدوا} المسلمين عن قتلهم، وتلك {سبيل الله} فيهم لكن ما أظهروه منا لإيمان صدوا به المسلمين عن ذلك، والمهين: المذل من الهوان.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)}
روي أن المنافقين فخروا بكثرة أموالهم وأولادهم وأظهروا السرور بذلك، فنزلت الآية معلمة أن ذلك لا غناء له عنهم ولا مدفع بسببه. والعامل في قوله: {يوم يبعثهم}، {أصحاب} على تقدير فعل، وأخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية أنه ستكون لهم أيمان يوم القيامة وبين يدي الله يخيل إليهم بجهلهم أنها تنفعهم وتقبل منهم، وهذا هو حسابهم {أنهم على شيء}، أي على فعل نافع لهم، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي: قال النبي عليه السلام: «ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله، فتأتي القدرية مسودة وجوههم زرقة أعينهم، فيقولون والله ما عبدنا شمسًا ولا قمرًا ولا صنمًا ولا اتخذنا من دونك وليًا»، قال ابن عباس: صدقوا والله ولكن أتاهم الإشراك من حيث لا يعلمون، ثم تلا ابن عباس هذه الآية، وقوله تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان} معناه: تملكهم من كل جهة وغلب على نفوسهم، وهذا الفعل مما استعمل على الأصل فإن قياس التعليل يقتضي أن يقال: استحاذ، وحكى الفراء في كتاب اللغات أن عمر رضي الله عنه قرأ: {استحاذ}. و{يحادون} معناه: يعطون الحد من الأفعال والأقوال، وقال بعض أهل المعاني: معناه يكونون في حد غير الحد الذي شرع الله تعالى، ثم قضى تعالى على محاده بالذل وأخبر أنه كتب فيما أمضاه من قضائه وقدره في الأزل أنه يغلب هو ورسله كل من حاد الله والرسل. وقرأ نافع وابن عامر: {ورسليَ} بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها. وقال الحسن وغيره: ما أمر الله تعالى قط رسولًا بالقتال إلا وغلبه، وظفره بقوته وعزته لا رب سواه، وقال غيره: ومن لم يؤمر بقتال فهو غالب بالحجة.
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله تعالى حق الإيمان ويلتزم شعبه على الكمال يواد كافرًا أو منافقًا. ومعنى يواد: يكون بينهما من اللطف بحيث يود كل واحد منهما صاحبه، وعلى هذا التأويل قال بعض الصحابة: اللهم لا تجعل لمشرك قبلي يدًا فتكون سببًا للمودة فإنك تقول وتلا هذه الآية، وتحتمل الآية أن يريد بها لا يوجد من يؤمن بالله والبعث يواد {من حاد الله} من حيث هو محاد لأنه حينئذ يود المحادة، وذلك يوجب أن لا يكون مؤمنًا.
ويروى أن هذه الآية نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة ومخاطبته أهل مكة، وظاهر هذه الآيات، أنها متصلة المعنى، وأن هذا في معنى الذم للمنافقين الموالين لليهود، وإذا قلنا إنها في أمر حاطب جاء ذلك أجنبيًا في أمر المنافقين، وإن كان شبيهًا به، والإخوان هنا إخوة النسب، كما عرف الإخوة أنه في النسب، وقد يكون مستعملًا في إيخاء الود، و{كتب في قلوبهم الإيمان} معناه: أثبته. وخلقه بالإيجاد، وذهب أبو علي الفارسي وغيره من المعتزلة، إلى أن المعنى جعل في قلوبهم علامات تعرف الملائكة بها أنهم مؤمنون، وذلك لأنهم يرون العبد يخلق إيمانه، وقد صرح النقاش بهذا المذهب، وما أراه إلا قاله غير محصل لما قال. وأما أبو علي فعن بصيرته، وقرأ جمهور القراء {كَتَب} على بناء الفعل للفاعل، و{الإيمان} بالنصب، وقرأ أبو حيوة وعاصم في رواية المفضل عنه {كُتِبَ} على بناء الفعل للمفعول، و{الإيمانُ} بالرفع، وقوله: {أولئك} إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية، لأن المعنى لكنك تجدهم لا يوادون من حاد الله، وقوله تعالى: {بروح منه} معناه: بهدى ولطف ونور وتوفيق إلهي ينقدح من القرآن، وكلام النبي عليه السلام، وقيل: المعنى بالقرآن لأنه روح، قيل: المعنى بجبريل عليه السلام، والحزب الطريق الذي يجمعه مذهب واحد، والمفلح: الفائز ببغيته، وباقي الآية بين. اهـ.