فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}:

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {شَهِيدَيْنِ} رتّب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فَنٍّ شهيدين إلا في الزِّنَا، على ما يأتي بيانه في سورة النساء. وشهيدٌ بناءُ مبالغة؛ وفي ذلك دلالةٌ على من شهد وتكرر ذلك منه، فكأنه إشارة إلى العدالة.
والله أعلم. اهـ.

.قال ابن العربي:

جَعَلَهَا فِي كُلِّ فَنٍّ شَهِيدَيْنِ، إلَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ قَرَنَ ثُبُوتَهَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، تَأْكِيدًا فِي السَّتْرِ. اهـ.

.قال الفخر:

الإضافة في قوله: {مّن رّجَالِكُمْ} فيه وجوه:
الأول: يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون.
والثاني: قال بعضهم: يعني الأحرار.
والثالث: {مّن رّجَالِكُمْ} الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مِّن رِّجَالِكُمْ} نَصُّ في رَفضْ الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم.
وقال مجاهد: المراد الأحرار، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطْنَب فيه.
وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد، فقال شُريح وعثمان البَتِّى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلًا؛ وغلَّبوا لفظ الآَية.
وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد؛ وغلَّبوا نقص الرق، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قال عليه الرحمة:
وقوله: {من رجالكم} أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنّهم رجال، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير.
وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا.
وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم.
والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام.
فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي.
فإنّ الأديان السالفة لم تتعرّض لاحترام حقوق المخالفين، فتوَهَم أَتْباعهم دحضها.
وقد حكى الله عنهم أنّهم قالوا: ليس علينا في الأمّيين سبيل.
وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصّها ببني إسرائيل، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب، ولم نر في دين من الأديان التصريحَ بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام، فكيف نعتدّ بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه، فماذا يرجَى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصْرانية تابعة لأحكام التوراة.
على أنّ تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبليّ فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالًا فيما يأمرهم به في شأنهم.
وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل.
وفي البخاري، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز.
وما روي عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري: أنّ نفرًا من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرّقوا بها، فوجدوا أحدهم قتيلًا، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكَوْا إليه، فقال لهم: تأتون بالبيّنة على من قتله قالوا: ما لنا بيّنة، قال: فتحلف لكم يهودُ خمسين يمينًا قالوا: ما يُبالُون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون، فكرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمَه ووَدَاه من مال الصدقة.
فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الأنصار في اليهود: إنّهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون.
فإن قلت: كيف اعتدتّ الشريعة بيمين المدّعى عليه من الكفار، قلت: اعتدّت بها لأنّها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى، فرأتْها الشريعة خيرًا من إهمال الدعوى من أصلها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة، لكن إذا علم يقينًا؛ مثل ما روي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: «ترى هذه الشمس فاشهد على مِثلها أو دع».
وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطىء.
نعم يجوز له وَطْءُ امرأته إذا عرف صوتها؛ لأن الإقدام على الوطءِ جائز بغلبة الظن؛ فلو زُفّت إليه امرأة وقيل: هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول.
ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذْف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخْبَر عنه؛ لأن سبيل الشهادة اليقين، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن؛ ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى؛ ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه.
فهذا مذهب هؤلاء.
والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمّل بصيرًا لا وجه له، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن العلماء من قبِل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت؛ لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حدّ اليقين، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصّوَر والألوان.
وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.
قلت: مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت.
قال ابن قاسم: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت؟ قال قال مالك: شهادته جائزة.
وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشُرَيح الكندي والشَّعْبي وعطاء بن أبي رَبَاح ويحي بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ؛ وَلَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كَانَ كَقَوْلِهِ مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرِ: الْحُرِّيَّةِ وَذَلِكَ لِمَا فِي فَحْوَى الْخِطَابِ مِنْ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا قَوْله تَعَالَى: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وَذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَالْخِطَابُ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْغَيْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْحُرِّيَّةَ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرِ مِنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِحْرَازَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} يَعْنِي الْأَحْرَارَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فَلَمْ يَدْخُلْ الْعَبِيدُ فِي قَوْله تعالى: {مِنْكُمْ}؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ جَمِيعًا، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ وَقَدْ أَمَرَ بِاسْتِشْهَادِ الْأَحْرَارِ فَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قَالَ: الْأَحْرَارُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَا ذَكَرْت إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا ثَبَتَ بِفَحْوَى خِطَابِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَحْرَارُ.
وَكَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَمْرًا مُقْتَضِيًا لِلْإِيجَابِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْرَارِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إسْقَاطُ شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ إسْقَاطُ الْعَدَدِ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ بُطْلَانَ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين؛ هذا قول الجمهور.
{فَرَجُلٌ} رفع بالابتداء، {وامرأتان} عطف عليه والخبر محذوف.
أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما.
ويجوز النصب في غير القرآن، أي فاستشهدوا رجلًا وامرأتين.
وحكى سيبويه: إنْ خنجرًا فخنجرًا.
وقال قوم: بل المعنى فإن لم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذرٍ مّا فليستشهد رجلًا وامرأتين.
فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل.
وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأن الأموال كثر الله أسباب تَوْثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلْوَى بها وتكررها؛ فجعل فيها التَوثُّق تارة بالكتْبَة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال.
ولا يتوهّم عاقل أن قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} يشتمل على دَيْن المهر مع البُضْع، وعلى الصلح على دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدَّيْن، بل هي شهادة على النكاح.
وأجاز العلماء شهادتهنّ منفردات فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ للضرورة.
وعلى مثل ذلك أُجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة.
وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح. اهـ.