فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}
{بين يدي نجواكم}: استعارة والمعنى: قبل نجواكم.
وعن ابن عباس وقتادة: أن قومًا من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير جاحة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحًا لا يرد أحدًا فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة.
وهذا الحكم قيل: نسخ قبل العمل به.
وقال قتادة: عمل به ساعة من نهار.
وقال مقاتل: عشرة أيام.
وقال عليّ كرم الله وجهه: ما عمل به أحد غيري أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة.
وقرئ: {صدقات} بالجمع.
وقال ابن عباس: هي منسوخة بالآية التي بعدها.
وقيل بآية الزكاة.
{أأشفقتم}: أخفتم من ذهاب المال في الصدقة أو من العجز عن وجودها تتصدقون به؟ {فإذ لم تفعلوا}: ما أمرتم به {وتاب الله عليكم}: عذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات.
{الذين تولوا}: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: هم اليهود، عن السدي ومقاتل، «أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن أبي بن سلول، وكان أزرق أسمر قصيرًا، خفيف اللحية، فقال عليه الصلاة والسلام: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام له: فعلت، فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه»، فنزلت.
والضمير في {ما هم} عائد على {الذين تولوا}، وهم المنافقون: أي ليسوا منكم أيها المؤمنون، {ولا منهم}: أي ليسوا من الذين تولوهم، وهم اليهود.
وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه» وقال ابن عطية: يحتمل تأويلًا آخر، وهو أن يكون قوله: {ما هم} يريد به اليهود، وقوله: {ولا منهم} يريد به المنافقين، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن، لأنهم تولوا مغضوبًا عليهم، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابًا. انتهى.
والظاهر التأويل الأول، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم.
والضمير في {ويحلفون} عائد عليهم، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف.
وعلى هذا التأويل يكون {ما هم} استئنافًا، وجاز أن يكون حالًا من ضمير {تولوا}.
وعلى احتمال ابن عطية، يكون {ما هم} صفة لقوم.
{ويحلفون على الكذب}، إما أنهم ما سبوا، كما روي في سبب النزول، أو على أنهم مسلمون.
والكذب هو ما ادعوه من الإسلام.
{وهم يعلمون}: جملة حالية يقبح عليهم، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا، فالمعنى: وهم عالمون متعمدون له.
والعذاب الشديد: المعد لهم في الآخرة.
وقرأ الجمهور: {أيمانهم} جمع يمين؛ والحسن: {إيمانهم}، بكسر الهمزة: أي ما يظهرون من الإيمان، {جنة}: أي ما يتسترون به ويتقون المحدود، وهو الترس، {فصدوا}: أي أعرضوا، أو صدوا الناس عن الإسلام، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان، وقتلهم هو سبيل الله فيهم، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم.
{لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا}: تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران.
{فيحلفون له}: أي لله تعالى.
ألا ترى إلى قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} {كما يحلفون لكم} أنهم مؤمنون، وليسوا بمؤمنين.
والعجب منهم، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا، {ويحسبون أنهم على شيء}: أي شيء نافع لهم.
{استحوذ عليهم الشيطان}: أي أحاط بهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم واستولى عليها، وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى: {ألم نستحوذ عليكم} في النساء، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها، وجمعها غالبًا لها، ومنه كان أحوذيًا نسيج وحده.
وقرأ عمر: {استحاذ}، أخرجه على الأصل والقياس، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال.
{فأنساهم ذكر الله}: فهم لا يذكرونه، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم؛ و{حزب الشيطان}: جنده، قاله أبو عبيدة.
{أولئك في الأذلين}: هي أفعل التفضيل، أي في جملة من هو أذل خلق الله تعالى، لا ترى أحدًا أذل منهم.
وعن مقاتل: لما فتح الله مكة للمؤمنين، والطائف وخيبر وما حولهم، قالوا: نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عددًا وأشد بطشًا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}: {كتب}: أي في اللوح المحفوظ، أو قضى.
وقال قتادة: بمعنى قال، {ورسلي}: أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة.
{إن الله قوي}: ينصر حزبه، {عزيز}: يمنعه من أن يذل.
{لا تجد قومًا}، قال الزمخشري، من باب التخييل: خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قومًا مؤمنين يوادون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله.
وزاد ذلك تأكيدًا بقوله: {ولو كانوا آباءهم}. انتهى.
وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم، فنهاهم عن موادتهم.
وقال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا} ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم أتى ثالثًا بالإخوان لأنهم بهم التعاضد، كما قيل:
أخاك أخاك إن من لا أخًا له ** كساع إلى الهيجاء بغير سلاح

ثم رابعًا بالعشيرة، لأن بها التناصر، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه، كما قال:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ** في النائبات على ما قال برهانًا

وقرأ الجمهور: {كتب} مبنيًا للفاعل، {في قلوبهم الإيمان} نصبًا، أي كتب الله.
وأبو حيوة والمفضل عن عاصم: {كتب} مبنيًا للمفعول، و{الإيمان} رفع.
والجمهور: {أو عشيرتهم} على الإفراد؛ وأبو رجاء: على الجمع، والمعنى: أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى، وهو الهدى والنور واللطف.
وقيل: الروح: القرآن.
وقيل: جبريل يوم بدر.
وقيل: الضمير في منه عائد على الإيمان، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله.
قيل: والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة.
وقيل: الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود.
وقيل: نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، كان منه سب للرسول صلى الله عليه وسلم، فصكه أبو بكر صكة سقط منها، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «أوفعلته»؟ قال: نعم، قال: «لا تعد»، قال: والله لو كان السيف قريبًا مني لقتلته. وقيل: في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد.
وقال ابن شوذب: يوم بدر، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة يوم بدر.
وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه، قال: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالًا من بني فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام.
انتهى، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام.
وقد رتب المفسرون {ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم، والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ}
تعجيب منْ حالِ المنافقينَ الذين كانُوا يتخذونَ اليهودَ أولياءَ ويناصحونَهُم وينقلونَ إليهم أسرارَ المؤمنينَ أيْ ألمْ تنظُرْ {إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ} أيْ والوْا {قوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} وَهُمْ اليهودُ كَمَا أنبأ عَنْهُ قولهِ تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} لأنهم منافقونَ مذبذبونَ بينَ ذلكَ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ منْ فاعِلِ {تولُوا} {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} أي يقولونَ والله إنَّا لمسلمونَ وهو عطفٌ عَلى {تولَّوا} داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على تكرر الحلفِ وتجددِّهِ حسبَ تكررِ ما يقتضيهِ وقولهِ تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حالٌ منْ فاعِلِ {يحلفونَ} مفيدةٌ لكمال شناعةِ ما فعلُوا فإنَّ الحلفَ عَلى مَا يُعلمُ أنَّه كذبٌ في غايةِ القُبحِ وفيهِ دلالةٌ على أنَّ الكذبَ يعمُّ ما يعلمُ المخبرُ عدمَ مطابقتهِ للواقعِ وما لا يعلمُه. رُوي أنَّه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ كانَ في حجرةٍ من حجراتِه فقال: «يدخلُ عليكُم الآن رجلٌ قلبُه قلبُ جبارٍ، وينظرُ بعينِ شيطانٍ. فدخلَ عبدُ اللَّهِ بن نَبْتَل المنافقُ، وكان أزرقَ، فَقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: علامَ تشتمني أنتَ وأصحابُك؟ فحلفَ بالله ما فعلَ فقال عليِه الصلاة والسلامُ: فعلتَ. فانطلق فجاءَ بأصحابُه فحلفُوا بالله ما سبُّوه فنزلتْ».
{أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسببِ ذلكَ {عَذَابًا شَدِيدًا} نوعًا من العذابِ متفاقمًا {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيما مَضَى منَ الزمانِ المتطاولِ فتمرنُوا على سوءِ العمل وضرُوْا به وأصرُّوا عليه.
{اتخذوا أيمانهم} الفاجرةَ التي يحلفونَ بِهَا عندَ الحاجَةِ وقرئ بكسرِ الهمزةِ أيْ إيمانُهُم الذي أظهروه لأهل الإسلامِ {جَنَّةُ} وقايةً وسترةً دونَ دمائِهم وأموالِهم فالاتخاذُ على هذهِ القراءة عبارةٌ عن التسترِ بما أظهروه بالفعلِ وأمَّا عَلى القراءة الأولى عبارةٌ عن إعدادِهم لأيمانِهم الكاذبةِ وتهيئتِهم لَها إلى وقتِ الحاجةِ ليحلفوا بِهَا ويتخلصُوا من المؤاخذةِ لا عنِ استعمالِها بالفعلِ فإنَّ ذلك متأخرٌ عنِ المؤاخذة المسبوقةِ بوقوعِ الجنايةِ والخيانةِ، واتخاذُ الجُنَّةِ لابد أنْ يكونَ قبلَ المؤاخذةِ وعن سبَبِها أيضًا كَمَا يعربُ عنْهُ الفاءُ في قولهِ تعالى: {فَصَدُّواْ} أي الناس {عَن سَبِيلِ الله} في خلالِ أمنهِم بتثبيطِ من لقوْا عنِ الدخولِ في الإسلامِ وتضعيفِ أمرِ المسلمينَ عندهُمْ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وعيدٌ ثانٍ بوصفٍ آخرَ لعذابِهم وقيلَ: الأولُ عذابُ القبرِ وَهَذا عذابُ الآخرةِ. {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله} أي منْ عذابِه تعالى: {شَيْئًا} منَ الإغناءِ رُوي أنَّ رجلًا منهم قال: لنُنصَرَنَّ يومَ القيامَةِ بأنفسنا وأموالِنا وأولادِنا {أولئك} الموصوفونَ بما ذكرَ منَ الصفاتِ القبيحةِ {أصحاب النار} أيْ ملازمُوهَا ومقارنُوهَا {هُمْ فِيهَا خالدون} لا يخرجونَ منها أبدًا {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا} قيلَ: هو ظرفٌ لقولهِ تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} {فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أيْ لله تعالى يومئذٍ على أنهُمْ مسلمونَ {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} فِي الدُّنيا {وَيَحْسَبُونَ} في الآخرةِ {أَنَّهُمْ} بتلكَ الأيمانِ الفاجرةِ {على شَيْء} من جلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ كما كانُوا عليهِ في الدُّنيا حيثُ كانوا يدفعونَ بِهَا عنْ أرواحِهم وأموالِهم ويستجرونَ بها فوائدَ دنيويةً {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} البالغونَ في الكذبِ إلى غايةٍ لا مطمحَ وراءَها حيثُ تجاسرُوا عَلى الكذبِ بينَ يَدي علاَّمِ الغيوبِ وزعمُوا أنَّ أيمانَهُم الفاجرةَ تروجُ الكذبَ لديهِ كَمَا تروجُهُ عندَ الغافلينَ.