فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} يعني: البعث بعد الموت.
{يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} يعني: يتخذون خلة وصداقة مع الكافرين.
نزلت في (حاطب بن أبي بلتعة) وفيه نزل {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} ثم قال عز وجل: {وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} يعني: لا تتخذوا مع الكافرين صداقة، وإن كانوا من أقربائه.
ثم قال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} يعني: الذين لا يتخذون مع الكافرين صداقة.
هم الذين جعل في قلوبهم الإيمان يعني: التصديق {وَأَيَّدَهُمْ}، يعني: أعانهم {بِرُوحٍ مّنْهُ} أي: قَوَّاهم بنور الإيمان وبإِحياء الإيمان، وذلك يوصلهم إلى الجنة، {وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار}، يعني: في الآخرة {خالدين فِيهَا}، يعني: في الجنة.
{رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} بإيمانهم وطاعتهم، {وَرَضُواْ عَنْهُ} بالثواب والجنة.
{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} يعني: جند الله.
{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون}، يعني: جند الله هم الناجون، الذين فازوا بالجنة وبنعمة الله تعالى وفضله؛ والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قَدْ سَمِعَ الله قول التي تُجَادِلُكَ}:
تخاصمك وتحاورك وتراجعك {فِي زَوْجِهَا} وهي امرأة من الأنصار ثمّ من الخزرج، واختلفوا في اسمها ونسبها، فقال ابن عباس: هي خولة بنت خولد. وقال أبو العالية: خويلة بنت الدليم. وقال قتادة: خويلة بنت ثعلبة. وقال المقاتلان: خولة بنت ثعلبة ابن مالك بن خزامة الخزرجية من بني عمرو بن عوف.
عطية عن ابن عباس: خولة بنت الصامت.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه، «عن عائشة رضي الله عنها أنّ اسمها جميلة، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وذلك أنّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فنظر إلى عجزها، فلمّا انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها، وكان امرءًا فيه سرعة ولمم. فقال لها: أنتِ عليَّ كظهر أُمّي. ثم ندم على ما قال، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلاّ قد حرمتِ عليَّ. قالت: لا تقل ذلك، ائتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله. فقال: إني أجدني استحي منه أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله. قال: سليه.
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: يا رسول الله، إنّ زوجي أوس بن الصامت تزوّجني، وكنت شابّة جميلة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق وكبرت سنّي ظاهر منّي وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإيّاه ينعشني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه. فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا، وإنّه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه. فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونقصت له بطني. فقال رسول الله (عليه السلام): ما أراك إلاّ وقد حرمتِ عليه ولم أومر في شأنك بشيء»
.
فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها رسول الله (عليه السلام): «حرمت عليه» هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي، اللهمّ، فأنزلْ على لسان نبيّك.
وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر فقالت: انظر في أمري، جعلني الله فداك يا نبيّ الله. فقالت عائشة: اقصري حديثك ومحادثتك، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه أخذه مثل السبات؟ فلمّا قضى الوحي قال: «ادعي زوجك». فجاء، فقرأ ما نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {قَدْ سَمِعَ الله قول التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ثم بيّن حكم الظهار، وجعل فيه الكفّارة، فقال سبحانه: {الذين يُظَاهِرُونَ} إلى آخرها، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلّها، إنّ المرأة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليَّ بعضه، إذ أنزل سبحانه: {قَدْ سَمِعَ الله} الآيات.
فلمّا نزلت هذه الآيات وتلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «هل تستطيع أن تعتق رقبة؟». قال: إذن يذهب مالي كلّه. الرقبة غالية وأنا قليل المال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟». قال: والله يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني. قال: «فهل تستطيع أن تطعم ستّين مسكينًا؟». قال: لا والله، إلاّ أن تعينني على ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي معينك بخمسة عشر صاعًا، وأنا داع لك بالبركة».
فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعًا واجتمع لهما أمرهما.
فذلك قوله: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ}، قد ذكرنا اختلاف القراء في هذا الحرف في سورة الأحزاب.
{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} قرأ العامّة بخفض التاء ومحلّه نصب، كقوله سبحانه: {هذا بَشَرًا} [يوسف: 31]. وقيل: (بأمهاتهم). وقرأ المفضّل بضمِّ التاء. {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنكَرًا مِّنَ القول وَزُورًا} أي كذبًا، والمنكر: الذي لا تعرف صحّته. {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}
{والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ}، اعلم أنّ الألفاظ التي يصير المرء بها مظاهرًا على ضربين: صريح، وكناية. فالصريح هو أن يقول: أنتِ عليَّ كظهر أُمّي، وكذلك إذا قال: أنتِ عليَّ كبطن أمّي أو كرأس أمّي أو كفرج أمّي، وهكذا إذا قال: فرجك أو رأسك أو ظهرك أو صدرك أو بطنك أو يدك أو رجلك عليَّ كظهر أُمّي، فإنّه يصير مظاهرًا، وكلّ ذلك محلّ قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو بطنك طالق فإنّها تطلق، والخلاف في هذه المسألة بين الفريقين كالخلاف في الطلاق.
ومتى ما شبّهها بأمّه أو بإحدى جدّاته من قبل أبيه وأُمّه كان ذلك ظهارًا بلا خلاف. وإن شبّهها بغير الأمّ والجدّة من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالإبنة والأخت والعمّة والخالة ونحوها، كان مظاهرًا على الصحيح من المذاهب. فصريح الظهار هو أن يشبّه زوجته أو عضوًا من أعضائها بعضو من أعضاء أُمّه، أو أعضاء واحدة من ذوات محارمه.
والكناية أن يقول: أنتِ عليَّ كأُمّي، أو مثل أمّي أو نحوها، فإنّه يعتبر فيه نيّته. فإن أراد ظهارًا كان مظاهرًا وإن لم ينو الظهار لا يصِرْ مظاهرًا.
وكلّ زوج صحّ طلاقه صحّ ظهاره، سواءً كان عبدًا أو حرًا أو ذمّيًا أو دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، أو كان قادرًا على جماعها أو عاجزًا عنه. وكذلك يصحّ الظهار من كلّ زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، أو عاقلة أومجنونة، أو رتقاء أو سليمة، أو صائمة أو محرمة، أو ذمّية، أو مسلمة، أو في عدّة يملك رجعتها.
وقال أبو حنيفة: لا يصحّ ظهار الذمّيّ. وقال مالك: لا يصحّ ظهار العبد، قال بعض العلماء: لا يصحّ ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: إذا طلّق الرجل امرأته طلقة رجعيّة ثم ظاهر فإنّه لا يصحّ.
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالواْ} اعلم أنّ الكفارة تلزم بالظهار وبالعود جميعًا، ولا تلزم بأحدهما دون الآخر. كما أنّ الكفارة في باب اليمين تجب باليمين والحنث جميعًا معًا، فإذا عاد في ظهاره لزمته الكفّارة.
واختلف العلماء والفقهاء في معنى العود؛ فقال الشافعي: العود الموجب للكفّارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار وتمضي مدّة يمكنهُ أن يطلّقها فلم يطلّقها. وقال قتادة: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالواْ} يريد أن يغشاها ويطأها بعدما حرّمها. وإليه ذهب أبو حنيفة، قال: إن عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عودًا.
وقال مالك: إن وطئها كان عودًا، وإن لم يطأها لم يكن عودًا.
وقال أصحاب الظاهر: إن كرّر اللفظ كان عودًا وإن لم يكرّر لم يكن عودًا. وهو قول أبي العالية، وظاهر الآية يشهد له، وهو قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالواْ} أي إلى ما قالوا،
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}؛ لأنّ الله سبحانه قيّد الرقبة بالإيمان في كفّارة القتل وأطلق في هذا الموضع، ومن حكم المطلق أن يحمل على القيد. وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أي يتجامعا، فالجماع نفسه محرّم على المظاهر حتى يكفّر، فإن وطئ قبل التكفير فقد فعل محرّمًا، ولا تسقط عنه الكفّارة بل يأتي بها على وجه القضاء، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها، فإنّه لا يسقط عنه إتيانها بل يلزمه قضاؤها. وسواء كفّر بالإعتاق أو الصيام أو الإطعام فإنّه يجب عليه تقديم الكفّارة، ولا يجوز له أن يطأها قبل الكفّارة.
وقال أبو حنيفة: إن كفّر بالإطعام جاز له أن يطأ ثم يطعم ولم يخالف في العتق والصيام.
فهذا حكم وطء المظاهر قبل التكفير.
وأمّا غير الوطء من التقبيل والتلذّذ فإنّه لا يحرم في قول أكثر العلماء. وهو قول الحسن وسفيان، والصحيح من مذهب الشافعي. وقال بعضهم: عنى به جميع معاني المسيس؛ لأنّه عامّ وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه.
{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ}: تؤمرون به، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة ولا ثمنها، أو يكون مالكًا للرقبة إلاّ إنّه محتاج إليها لخدمته، أو يكون مالكًا للثمن ولكن يحتاج إليه لنفقته أو كان له مسكن يسكنه، فله الانتقال إلى الصوم.
وقال أبو حنيفة: ليس له أن يصوم وعليه أن يعتق الرقبة وإن كان محتاجًا إليها وإلى ثمنها، فإن عجر عن الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} فإنْ أفطر في أثنائها بغير عذر قطع التتابع وعليه أن يستأنف شهرين متتابعين. وإن أفطر بعذر المرض أو السفر، فاختلف الفقهاء فيه، فقال قوم: لا ينقطع التتابع وله أن يبني ويقضي الباقي، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال آخرون: ليس له أن يبني بل يلزمه أن يستأنف ويبتدئ، وهو قول النخعي وأصحابه، والأصحّ من قولي الشافعي.
وإن تخلّل صوم الشهرين زمان لا يصّح فيه الصوم عن الكفّارة كالعيدين وأيام التشريق وأيام شهر رمضان، فإنّ التتابع ينقطع بذلك ويجب الاستئناف.
ولو وطئ المظاهر في الشهرين، نظرَ؛ فإن وطِئها نهارًا بطل التتابع وعليه الابتداء، وإن وطِئها ليلا لم يبطل التتابع. وقال أبو حنيفة: سواء وطئ ليلا أو نهارًا فإنّه يبطل التتابع وعليه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين.
{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} الصيام، وعدمُ الاستطاعة مثلُ أن يخاف من الصوم لعلة أو لحوق ومشقّة شديدة ومضرّة ظاهرة، {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} لكلّ مسكين مدّ من غالب قوت بلده، والخلاف فيه بين الفريقين كالاختلاف في زكاة الفطرة. {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{إِنَّ الذين يُحَادُّونَ}: يخالفون ويعادون {الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ}: أُهلكوا وأُخّروا وأُحربوا {كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ} قراءة العامّة بالياء لأجل الحائل، وقرأ أبو جعفر القارئ (تكون) بالتاء لتأنيث النجوى، والأول أفصح وأصحّ {مِن نجوى} متناجين {ثَلاَثَةٍ}، قال الفراء: إن شئت خفضت الثلاثة على نعت النجوى وإن شئت أضفت النجوى إليها، ولو نصبت على أنّها حال لكان صوابًا. {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} بالعلم يسمع نجواهم ويعلم فحواهم، {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ}، قراءة العامّة بالنصب في محلّ الخفض عطفًا. وقرأ يعقوب وأبو حاتم (أَكْثَرَ) بالرفع على محلّ الكلام قبل دخول {مِنْ}، وقرأ الزهري (أَكْثَرَ) بالباء، {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.