فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما قاله ابن شوذب: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم بدر، جعل يتصدى له، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله.
وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو كان أبو عبيدة حيًا لاستخاره، قال سعيد: وفيه نزلت هذه الآية.
وفيه وجهان:
أحدهما: أنه خارج مخرج النهي للذين آمنوا أن يوادوا من حادّ الله ورسوله.
الثاني: أنه خارج مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادون من حادّ الله ورسوله، وكان هذا مدحًا.
{أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} فيه أربعة أوجه:
أحدها: معناه جعل في قلوبهم الإيمان وأثبته، قال السدي، فصار كالمكتوب.
الثاني: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان.
الثالث: حكم لقلوبهم بالإيمان.
الرابع: أنه جعل في قلوبهم سمة للإيمان على أنهم من أهل الإيمان، حكاه ابن عيسى.
{وأيدهم بروح منه} فيه خمسة أوجه:
أحدها: أعانهم برحمته، قاله السدي.
الثاني: أيدهم بنصره حتى ظفروا.
الثالث: رغبهم في القرآن حتى ءامنوا.
الرابع: قواهم بنور الهدى حتى صبروا.
الخامس: قواهم بجبريل يوم بدر.
{رضي الله عنهم} يعني في الدنيا بطاعتهم.
{ورضوا عنه} فيه وجهان:
أحدهما: رضوا عنه في الآخرة بالثواب.
الثاني: رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم يكرهوه.
{أولئك حزب الله} فيهم وجهان:
أحدهما: انهم من عصبة الله فلا تأخذهم لومة لائم.
الثاني: أنهم أنصار حقه ورعاة خلقه وهو محتمل.
القول الثاني: ما روى ابن جريج أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وقد سمع أباه أبا قحافة يسب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط على وجهه، فقال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أو فعلته؟ لا تعد إليه يا أبا بكر».
فقال والله لو كان السيف قريبًا مني لضربته به، فنزلت هذه الآية.
القول الثالث: ما حكى الكلبي ومقاتل أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها}
أما سبب نزولها، فروي عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة فكلَّمتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله: أبلى شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات.
فأما تفسيرها، فقوله تعالى: {قد سمع الله} قال الزجاج: إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين، لأنهما من حروف طرف اللسان، وإظهار الدال جائز، لأنه وإِن قرب من مخرج السين، فله حيّز على حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى: حروف الصفير.
وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال:
أحدها: خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، والقرظي.
والثاني: خولة بنت خويلد، رواه عكرمة.
عن ابن عباس.
والثالث: خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية.
واسم زوجها: أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار.
قال ابن عباس: كان الرجل إِذا قال لامرأته في الجاهلية: أنتِ عليَّ كظهر أمي، حرُمَتْ عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات.
فأما مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كلمَّا قال لها: «قد حرمتِ عليه» تقول: والله ما ذكر طلاقًا، فقال: «ما أُوحي إليَّ في هذا شيء»، فجعلت تشتكي إلى الله.
وتشتكي بمعنى: تشكو.
يقال: اشتكيت ما بي، وشكوته.
وقالت: إن لي صبية صغارًا، إِن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا.
فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام.
قال عنترة في فرسه:
لو كان يدْري ما المُحاورَةُ اشْتكى ** ولكانَ لو عَلِم الكلامَ مُكلِّمي

قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {يظَّهَّرون} بفتح الياء، وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف.
وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بفتح الياء، وتشديد الظاء، وبألف، وتخفيف الهاء.
وقرأ عاصم {يُظاهِرون} بضم الياء، وتخفيف الظاء والهاء، وكسر الهاء في الموضعين مع إِثبات الألف.
وقرأ ابن مسعود {يتظاهرون} بياءٍ، وتاءٍ، وألف.
وقرأ أبي بن كعب {يتظَهَّرون} بياءٍ، وتاءٍ، وتخفيف الياء، وتشديد الهاء من غير ألف.
وقرأ الحسن، وقتادة، والضحاك {يظهرون} بفتح الياء، وفتح الظاء، مخففة، مكسورة الهاء مشددة.
والمعنى: تقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا {ما هنَّ أمهاتِهم} قرأ الأكثرون بكسر التاء.
وروى المفضل عن عاصم رفعها.
والمعنى: ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم {إن أمهاتهم} أي ما أمهاتهم {إلا اللائي وَلَدْنَهُم} قال الفراء: وانتصاب، (الأمهات) هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله {ما هُنَّ بأمهاتهم} ومثله: {ما هذا بشرًا} [يوسف: 31]، المعنى: ما هذا ببشرٍ، فلما أُلقيت الباء أُبقي أثرها، وهو: النصب، وعلى هذا كلام أهلِ الحجاز.
فأما أهل نجد، فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، وقالوا: {ما هن أمهاتُهم} و{ما هذا بشرٌ} أنشدني بعض العرب:
رِكابُ حُسَيْلٍ آخِرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ ** وَنَاقَةُ عَمْروٍ مَا يُحَلُّ لَها رَحْلُ

وَيَزْعُمُ حَسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ ** وَمَا أَنْتَ فَرْعٌ يا حُسَيْلُ وَلاَ أَصْلُ

قوله تعالى: {وإنهم} يعني: المظاهرين {ليقولون منكرًا من القول} لتشبيههم الزوجات بالأمهات، والأمهات محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات.
{وزورًا} أي: كذبًا {وإن الله لَعَفُوٌ غَفُورٌ} إِذ شرع الكفارة لذلك.
قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} اللام في (لما) بمعنى (إلى) والمعنى: ثم يعودون إلى تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء.
قال الفراء: معنى الآية: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا.
وقال سعيد بن جبير: المعنى: يريدون أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرَّموه على أنفسهم.
وقال الحسن، وطاووس، والزهري: العَود: هو الوطء.
وهذا يرجع إلى ما قلناه.
وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه طلاقها فيه فلا يطلقها.
فإذا وجد هذا، استقرت عليه الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وان سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة.
وقال داود: هو إِعادة اللفظ ثانيًا، لأن ظاهر قوله تعالى: {يعودون} يدل على تكرير اللفظ.
قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة.
وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا كما ادَّعَوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبلُ، وسميت الآخرةُ معادًا، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها.
قال الهذلي:
وعَادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ** سِوى الحَقِّ شيئًا واسْتَرَاحَ العَواذِلُ

وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: {وإِلى الله ترجع الأمور} [البقرة: 210] قال ابن قتيبة: من توَّهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد.
وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يطلِّقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} يريد في الجاهلية {ثم يعودون لما قالوا} في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام، {فتحرير رقبة} قال المفسرون: المعنى: فعليهم، أو فكفارتهم تحرير رقبة، أي: عتقها.
وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان.
قوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} وهو: كناية عن الجماع على أن العلماء قد اختلفوا: هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان.
وقال أبو الحسن الأخفش: تقدير الآية {والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة} لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.
فصل:
إذا وطئ المظَاهِرُ قبل أن يكفِّر أَثِمَ، واستقرَّت الكفارة.
وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار والكفارة.
واختلف العلماء فيما يجب عليه إِذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيب، وطاووس، ومجاهد، وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة واحدة.
وقال الزهري، وقتادة، في آخرين: عليه كفارتان.
فإن قال: أنت عليَّ كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضيِّ اليوم، هذا قول أصحابنا، وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي.
وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو مظاهر أبدًا.
واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من أمة ظهار، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي.
وقال سعيد بن جبير، وطاووس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو ظهار.
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون مظاهرًا من أمته، ولكن تلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إِذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفارة الظهار.
واختلفوا فيمن ظاهر مرارًا، فقال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس، فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى: وعلى قول أصحابنا: يلزمه كفارة واحدة، سواء كان في مجلس، أو في مجالس، ما لم يكفِّر، وهذا قول مالك.