فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}:

.قال الفخر:

المعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية. اهـ.
وقال الفخر:
الضلال في قوله: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه بمعنى النسيان، قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ذهب عنهم.
الثاني: أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له، والوجهان متقاربان، وقال أبو عمرو: أصل الضلال في اللغة الغيبوبة. اهـ.
وقال الفخر:
قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي {فَتُذَكّرَ} بالتشديد والنصب، وقرأ حمزة بالتشديد والرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب، وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل، والتشديد أكثر استعمالًا، قال تعالى: {فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ} [الغاشية: 21] ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعديًا بهمزة الأفعال، وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله: {فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} أن تجعلها ذكرًا يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد، وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء، قال: إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها، لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين، ويدل على ضعفه وجهان الأول: أن النساء لو بلغن ما بلغن، ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن، فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى.
الوجه الثاني: أن قوله: {فَتُذَكّرَ} مقابل لما قبله من قوله: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسرًا بما يقابل النسيان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {أن تضل} قرأه الجمهور بفتح همزة أنْ على أنّه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أنْ، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلّل لقصد إقناع المكلّفين، إذ لا نجد في هذه الجملة حكمًا قد لا تطمئنّ إليه النفوس إلاّ جعْلَ عوضضِ الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصُرح بتعليله.
واللام المقدرة قبل أنْ متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان، وقرأوه بنصب {فتذكّر} عطفًا على {أن تضلّ}، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار إنْ شرطية وتضلّ فعل الشرط، وبرفع تذكرُ على أنّه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأنّ الفاء تؤذن بأنّ ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكّرها الأخرى على نحو قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95].
ولما كان أن تضلّ في معنى لضلال إحداهما صارت العلّة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك بل العلّة هي ما يترتّب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرّع عليه قوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} لأنّ فتذكّر معطوف على تضلّ بفاء التعقيب فهو من تكملته، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} [البقرة: 266]، ونظيره كما في الكشاف أن تقول: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعِّمَه، وأعددت السلاح أن يجيءَ عدوّ فأدْفَعَه.
وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال: أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها.
ووجَّهه صاحب الكشاف بأنّ فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلّل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله.
وادّعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة: أنّ من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة وكان للعلة علة قَدّموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معًا بعبارة واحدة.
ومثَّله بالمثال الذي مثَّل به الكشاف، وظاهر كلامه أنّ ذلك مُلتزم ولم أره لِغيره.
والذي أراه أنّ سبب العدول في مثله أنّ العلة تارة تكون بسيطة كقولك: فعلت كذا إكرامًا لك، وتارة تكون مركّبة من دفع ضُر وجلب نَفْع بدفعِه.
فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازًا في الكلام كما في الآية والمثالين.
لأنّ المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة، فلذا أخِذ بقولها حَقُّ المشهود عليه وقُصد تذكير المرأة الثانية إياها، وهذا أحسن مما ذكره صاحب الكشاف.
وفي قوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول فتذكّرها الأخرى، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعيّن شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتَهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحدًا، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحًا سواء كان قوله إحداهما المظهر فاعلًا أو مفعولًا به، فلا يظنّ أن كَون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلًا ينافي كونه إظهارًا في مقام الإضمار لأنّه لو أضمر لكان الضمير مفعولًا، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنّه التفتازاني لأنّ المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتّحاد المعنى.
وهو موجود في الآية كما لا يخفى.
ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيّرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرّض لها المتقدمون، قال التفتازاني في شرح الكشاف: ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما، ولا خفاء في أنّه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكِّرة هي الناسية إلاّ أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس، ويصح أن يقال: فتذكرها الأخرى، فلابد للعدول من نكتة.
وقال العصام في حاشية البيضاوي نكتة التكرير أنّه كان فصل التركيب أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت، فلما قدّم إن ضلّت وأبرز في معرض العلّة لم يصح الإضمار أي لعدم تقدم إمعاد ولم يصح أن تضلّ الأخرى لأنّه لا يحسن قبل ذكر إحداهما أي لأنّ الأخرى لا يكون وصفًا إلاّ في مقابلة وصف مقابل مذكور فأبدل بإحداهما أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما ولم يغيّر ما هو أصل العلّة عن هيأته لأنّه كأن لم يقدم عليه، {أن تضلّ إحداهما} يعني فهذا وجه الإظهار.
وقال الخفاجي في حاشية التفسير قالوا: إنّ النكتة الإبهام لأنّ كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم يعني أنّه أظهر لئلاّ يتوهم أنّ إحدى المرأتين لا تكون إلاّ مذكِّرة الأخرى، فلا تكون شاهدة بالأصالة.
وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجّهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال:
يا رأس أهل العلوم السادةِ البرره ** ومَن نداه على كل الورى نَشَره

ما سِرُّ تَكْرَار إحدَى دون تُذْكِرُها ** في آية لذوي الأشهاد في البقره

وظاهر الحال إيجاز الضمير على ** تكرار إحداهما لو أنّه ذكره

وحَمل الإحدى على نفس الشهادة في ** أولاهما ليس مرضيًا لدى المهره

فغُص بفكرك لاستخراج جوهره ** من بحر علمك ثم ابعث لنا درره

فأجاب الغزنوي:
يا من فوائده بالعلم منتشره ** ومَن فضائله في الكون مشتهره

تَضلَّ إحداهما فالقولُ محتمل ** كِلَيهما فهي للإظهار مفتقره

ولو أتى بضمير كان مقتضيا ** تعيين واحدة للحكم معتبره

ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ فهو كما ** أشرتُم ليس مرضيا لمن سبَره

هذا الذي سمح الذهن الكليل به ** واللَّهُ أعلم في الفحوى بما ذكره

وقد أشار السؤال والجواب إلى ردّ على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره؛ إذ جعل إحداهما الأولَ مرادًا به إحدى الشهادتين، وجعل تضلّ بمعنى تتلف بالنسيان، وجعل إحداهما الثاني مرادًا به إحدى المرأتين.
ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار، وهو تكلّف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه، فينزّه تخريج كلام الله عليه، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله: ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ إلخ.
والذي أراه أنّ هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه مَعاد الضمير لَو أضمر، وذلك يرشّح الجملة لأن تَجري مَجرى المثل.
وكأنّ المراد هنا الإيماء إلى أنّ كلتا الجملتين علّة لمشروعية تعدّد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنّة لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى.
فقوله أن تضلّ تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة، وقوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ}:

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألاّ تأبَى إذا دُعِيتَ إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دُعِيت إلى أدائها؛ وقاله ابن عباس.
وقال قتادة والربيع وابن عباس: أي لِتَحَمُّلها وإثباتها في الكتاب.
وقال مجاهد: معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك.
وأسند النقاش إلى النبي النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسّر الآية بهذا؛ قال مجاهد: فأما إذا دُعِيت لتشهد أوّلًا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا؛ وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم.
وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود؛ فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تُراد بقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضروهما عند الحاكم، على ما يأتي.
وقال ابن عطية: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب؛ فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعوّ مَنْدُوب، وله أن يتَخَلَّف لأدنى عُذْر، وإن تخلق لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له.
وإذا كانت الضرورة وخِيفَ تعطل الحق أدنى خوف قوِي النَّدب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لاسيما إن كانت مُحَصَّلة وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد؛ لأنها قِلادة في العُنق وأمانة تقتضي الأداء.
قلت: وقد يستلوح من هذه الآية دليلٌ على أن جائزًا للإمام أن يُقيم للناس شهودًا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلاَّ تحمل حقوق الناس حفظًا لها، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبَطَلت.
فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا. والله أعلم.
فإن قيل: هذه شهادة بالأُجرة؛ قلنا: إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والوُلاة وجميع المصالح التي تَعِنَّ للمسلمين وهذا من جملتها. والله أعلم.
وقد قال تعالى: {والعاملين عَلَيْهَا} [التوبة: 60] ففرض لهم. اهـ.