فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لن تغنى} أي: بوجه من الوجوه {عنهم أموالهم} أي: في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره {ولا أولادهم} أي: بالنصرة والمدافعة {من الله} أي: أغناه مبتدأ من الملك الأعلى {شيئًا} ولو قل جدًّا فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفذ ومضى لا يدفعه شيء تكذيبًا لمن قال منهم: لئن كان يوم القيامة لنكوننّ أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننجونّ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا {أولئك} أي: البعداء من كل خير {أصحاب النار هم} أي: خاصة {فيها} أي: خاصة {خالدون} أي: دائمون لازمون إلى غير نهاية.
وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر أي: واذكر يوم {يبعثهم الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {جميعًا} فلا يترك أحدًا منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان قبل موته {فيحلفون} أي: فيتسبب عن ظهور القدرة التامّة لهم ومعاينة ما كانوا يكذبون به أنهم يحلفون {له} أي: لله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين ونحو ذلك {كما يحلفون لكم} في الدنيا أنهم مثلكم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يحلفون لله تعالى يوم القيامة كذبًا كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وهو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين. {ويحسبون} أي: في القيامة بأيمانهم الكاذبة {أنهم على شيء} أي: يحصل لهم به نفع بإنكارهم وحلفهم، وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء، لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار والأول أظهر والمعنى: أنهم لشدّة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله تعالى فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسًا ولا قمرًا ولا صنمًا ولا اتخذنا من دونك إلهًا» قال ابن عباس رضي الله عنهما: صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا: {ويحسبون أنهم على شيء} وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بفتح السين، والباقون بكسرها {ألا إنهم هم الكاذبون} المحكوم بكذبهم في حسبانهم هم والله القدرية ثلاثًا.
{استحوذ} أي: استولى {عليهم الشيطان} مع أنه طريد ومحترق ووصل منهم إلى ما يريده وملكهم ملكًا لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وصار هو محيطًا بهم من كل جهة غالبًا عليهم ظاهرًا وباطنًا من قولهم حذت الأبل وحذذتها إذا استوليت عليها، والحوذ أيضًا: السوق السريع ومنه الأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه، واستحوذ مما جاء على الأصل وهو ثبوت الواو دون قلبها ألفًا {فأنساهم} أي: فتسبب عن استحواذه عليهم أن أنساهم {ذكر الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {أولئك} أي: البعداء البغضاء {حزب الشيطان} أي: أتباعه وجنوده وطائفته وأصحابه {ألا إنّ حزب الشيطان} أي: الطريد المحترق {هم الخاسرون} أي: العريقون في هذا الوصف؛ لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.
{إن الذين يحادون الله} أي: يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفؤ له، فعل من ينازع آخر في الأرض فيغلب على طائفة ليجعل لها حدًا لا يتعداه خصمه {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته {أولئك} أي: البعداء البغضاء {في الأذلين} أي: في جملة من هو أدل خلق الله تعالى.
واختلف في معنى قوله عز وجل: {كتب الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له فقال أكثر المفسرين أي: قضى الله عز وجلّ {لأغلبن} وقال قتادة: كتب في اللوح المحفوظ، وقال الفراء: كتب بمعنى قال وقوله تعالى: {أنا} تأكيد {ورسُلي} أي: من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
وقال مقاتل: قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عددًا وأشدّ بطشًا من أن تظنوا فيهم فنزل {لأغلبن أنا ورسلي}.
ونظيره قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون} [الصافات].
وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الياء والباقون بالسكون {إن الله} أي: الذي له الأمر كله {قويّ} أي: على نصر أوليائه {عزيز} أي: لا يغلب عليه في مراده.
ثم نهى تعالى عن موالاة أعداء الله تعالى بقوله سبحانه: {لا تجد} أي: بعد هذا البيان {قومًا} أي: ناسًا لهم قوة على ما يريدون {يؤمنون} أي: يجددون الإيمان ويديمونه {بالله} أي: الذي له صفات الكمال {واليوم الآخر} الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل الذي هو محط الحكمة {يوادّون} أي: يحصل منهم ودّ لا ظاهرًا ولا باطنًا {من حادّ الله} أي: عادى بالمناصبة في حدود الملك الأعلى {ورسوله} فإن من حادّه فقد حادّ الذي أرسله بل لا تجدهم إلا يحادّونهم لا أنهم يوادّونهم.
وزاد ذلك تأكيدًا بقوله تعالى: {ولو كانوا آباؤهم} أي: الذين أوجب الله تعالى إلا بناء طاعتهم في المعروف، وذلك كما فعل أبو عبيدة بن الجراح حيث قتل أباه عبد الله بن الجرّاح يوم أحد {أو أبناءهم} أي: الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم، كما فعل أبو بكر «فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة وقال: دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» {أو إخوانهم} أي: الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخزف سعد بن أبي وقاص غير مرّة فراغ منه روغان الثعلب فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: أتريد أن تقتل نفسك.
وقتل محمد بن سلمة الأنصاري أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير {أو عشيرتهم} أي: الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما قتل عمر خاله العاصي وهشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
وعن الثوري: أنّ السلف كانوا يرون أنّ الآية نزلت فيمن يصحب السلطان ا. ه.
ومدار ذلك على أنّ الإنسان يقطع رجاء من غير الله تعالى، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصًا في إيمانه.
تنبيه:
قدّم الآباء أوّلًا لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها، ثم ثلث بالأخوان لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع. قال الشاعر:
أخاك أخاك إن من لا أخا له ** كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وإن ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ** وهل ينهض البازي بغير جناح

ثم ربع بالعشيرة لأنّ بها يستغاث وعليها يعتمد، والمعنى: أنّ الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطروحًا بسبب الدين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجرّاح لما قتل أباه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قتل خاله العاصي ابن هشام يوم بدر روي «أنها نزلت في أبي بكر، وذلك أنّ أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه صكةً سقطت منها أسنانه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: أو فعلت، قال: نعم، قال: لا تعد إليه، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًا لو كان السيف مني قريبًا لقتلته» فهؤلاء لم يوادّوا أقاربهم.
قال القرطبي: استدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم، قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم. وعن عبد العزيز بن أبي دواد: أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلا الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر} الآية».
{أولئك} أي: العالو الهمة {كتب} أي: أثبت قاله الربيع بن أنس رضي الله عنه، وقيل: خلق، وقيل: جعل كقوله تعالى: {فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران]
أي: اجعلنا، وقوله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} [الأعراف]
وقيل: {كتب في قلوبهم الإيمان} [طه]
بما وفقهم فيه وشرح له صدرهم، أي: على قلوبهم كقوله تعالى: {في جذوع النخل} وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. قال البيضاوي: وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزاء الثابت في القلب يكون ثابتًا فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. {وأيدهم} أي: وقوّاهم وشدّدهم وشرّفهم {بروح} أي: نور شريف جدًّا يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من نور العلم والعمل {منه} أي: من الله تعالى أحياهم به فلا إنفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات، فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهرًا وباطنًا، فعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسراج، فلا تجد شيئًا أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه لا بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه، أوداهن مبتدعًا في عقيدته نزع الله تعالى نور التوحيد من قلبه.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نصرهم على عدوّهم، وسمى تلك النصرة روحًا، لأنّ بها يحيا أمرهم. وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه: بالقرآن وحججه، وقال ابن جريج: بنور وبرهان وهدى، وقيل: برحمة، وقيل: أيدهم بجبريل عليه السلام {ويدخلهم جنات} أي: بساتين تستر داخلها من كثرة أشجارها.
وأخبر عن ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي قصورها {الأنهار} فهي بذلك كثيرة الرياض والأشجار وقال تعالى: {خالدين فيها} لأنّ ذلك لا يلذ إلا بالدوام، وقال تعالى: {رضي الله} أي: الملك الأعظم {عنهم} لأنّ ذلك لا يتم إلا برضا مالكها الذي له الملك كله {ورضوا عنه} أي: لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون {أولئك} أي: الذين هم في الدرجات العلى من العظمة لكونهم قصروا ودّهم على الله تعالى، علمًا منهم بأنه ليس الضرّ والنفع إلا بيده {حزب الله} أي: جند الملك الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ألا إنّ حزب الله} أي: جند الملك الأعلى، وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم {هم المفلحون} أي: الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضا من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الإنفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد.
فائدة: هذه السورة نصف القرآن عددًا، وليس فيها آية إلا وفيها ذكر الجلالة الكريمة مرة أو مرتين أو ثلاثًا. وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنّ من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله تعالى يوم القيامة» حديث موضوع. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْمًا} أي: والوهم.
قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود.
وقال السديّ، ومقاتل: هم اليهود تولوا المنافقين، ويدلّ على الأوّل قوله: {غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} فإن المغضوب عليهم هم اليهود، ويدلّ على الثاني قوله: {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} فإن هذه صفة المنافقين، كما قال الله فيهم: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143] وجملة: {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} أي: يحلفون أنهم مسلمون، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجيب من فعلهم، وجملة: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} بسبب هذا التولي والحلف على الباطل {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الأعمال القبيحة {اتخذوا أيمانهم جُنَّةً} قرأ الجمهور: {أيمانهم} بفتح الهمزة جمع يمين، وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقيًا من القتل، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم، كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم.