فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حديث يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قال: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعَانَ زَوْجَهَا حِينَ ظَاهَرَ مِنْهَا بِعِذْقِ مِنْ تَمْرٍ وَأَعَانَتْهُ هِيَ بِعِذْقٍ آخَرَ، وَذَلِكَ سِتُّونَ صَاعًا، فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقْ بِهِ».
اخْتَلَفُوا فِي الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ؟ فَقال أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجَامِعُ حَتَّى يُطْعِمَ إذَا كَانَ فَرْضُهُ الطَّعَامَ. وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ عَنْ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا.
وَرَوَى الْمُعَا في وَالْأَشْجَعِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُطْعِمَ، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُظَاهِرِ بَعْدَمَا ذَكَرَ عَجْزَهُ عَنْ الصِّيَامِ: «ثُمَّ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ» وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ قَبْلَ عِتْقِ الرَّقَبَةِ وَجَبَ بَقَاءُ حَظْرِهِ إذَا عَجَزَ؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَجِدَ الرَّقَبَةَ قَبْلَ الْإِطْعَامِ فَيَكُونَ الْوَطْءُ وَاقِعًا قَبْلَ الْعِتْقِ.
كَيْفَ يُحَيِّي أَهْلَ الْكِتَابِ قال اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ؛ إذْ أَتَى عَلَيْهِمْ يَهُودِيٌّ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَدْرُونَ مَا قال؟» قالوا سَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قال: «قال سَامٌ عَلَيْكُمْ» أَيْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ وَقال نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقولوا عَلَيْك أَيْ عَلَيْك مَا قُلْتَ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحُسَيْنِ قال: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ».
قال أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ فِي حديث أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِقولهِمْ السَّامُ أَنَّكُمْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّ السَّامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قال: نَرَى أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْمُشْرِكِ السَّلَامَ وَلَا نَرَى أَنْ نَبْدَأَ.
وَقال مُحَمَّدٌ: وَهُوَ قول الْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قال: صَحِبْنَا عَبْدَ اللَّهِ فِي سَفَرٍ وَمَعَنَا أُنَاسٌ مِنْ الدَّهَاقِينِ، قال: فَأَخَذُوا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ هَذَا تَكْرَهُ؟ قال: إنَّهُ حَقُّ الصُّحْبَةِ قال أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَقَدْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقولوا وَعَلَيْكُمْ» قال أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا كَرِهَ الِابْتِدَاءَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِكَرِهِ أَنْ نَبْدَأَ بِهِ الْكَافِرَ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلهَا، وَلَا يُكْرَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْمُكَافَأَةِ.
قال اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى قال: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ قال: قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ: أَخْتَلِفُ إلَى طَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ؟ قال: نَعَمْ، إذَا كَانَتْ لَك إلَيْهِ حَاجَةٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} قال قَتَادَةُ: كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُمْ تَفَسَّحُوا. وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَجْلِسُ الْقِتَالِ.
قال قَتَادَةُ: {وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا} قال: إذَا دُعِيتُمْ إلَى خَيْرٍ. وَقِيلَ: اُنْشُزُوا أَيْ ارْتَفِعُوا فِي الْمَجْلِسِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالرِّفْعَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ يَرْفَعُ مَجْلِسَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ لَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ فَضْلَهُمْ وَمَنْزِلَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقال تعالى: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.
وَكَذَلِكَ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَرَتَّبَ أُولِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ؛ إذْ جَعَلَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الَّتِي تَلِي النُّبُوَّةَ.
وقوله تعالى: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: قال عَلِيٌّ: إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَصَرَفْتُهُ فَكُنْتُ إذَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ نُسِخَتْ.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: إنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} كَفَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الْآيَةَ.
فَوَسَّعَ لَهُمْ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ.
أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ أَمَامَ مُنَاجَاتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يَجِدُ.
وَالثَّانِي: الرُّخْصَةُ فِي الْمُنَاجَاةِ لِمَنْ لَا يَجِدُ الصَّدَقَةَ بِقولهِ: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الصَّدَقَةَ.
وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الصَّدَقَةِ أَمَامَ الْمَسْأَلَةِ بِقولهِ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قولهِ: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الْآيَةَ، قال عَلِيٌّ: «مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي حَتَّى نُسِخَتْ وَمَا كَانَتْ إلَّا سَاعَةً».
قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال أَبُو بَكْرٍ: الْمُحَادَّةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَدٍّ وَحَيِّزٍ غَيْرِ حَدِّ صَاحِبِهِ وَحَيِّزِهِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْلَ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حَدٍّ غَيْرِ حَدِّنَا، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ مُنَاكَحَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاكَحَةَ تُوجِبُ الْمَوَدَّةَ، قال اللَّهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}.
آخِرُ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة المجادلة فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقول وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةٍ:
المسألة الْأُولَى:
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَمَاعِ اللَّهِ تعالى لِلْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قولا أَوْ غَيْرَهُ، لَا يَخْتَصُّ بِسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَالْأُصُولِ، وَكَذَلِكَ أَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَعَلُّقُ سَمِعْنَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُنَا، وَلَكِنَّ الْبَارِي تعالى أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَعَلُّقِ رُؤْيَتِنَا بِالْأَلْوَانِ، وَسَمْعِنَا بِالْأَصْوَاتِ؛ وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ فِيمَا خَصَّ وَالْقُدْرَةُ فِيمَا عَمَّ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله تعالى: {تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا}: وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُجَادِلَةِ وَحَقِيقَتُهَا وَجَوَازُهَا فِي طَلَبِ قَصْدِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ، وَأَمْرِ اللَّهِ بِهَا، وَنَسْخِهِ وَتَخْصِيصِهِ لَهَا وَتَعْمِيمِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُجَادِلَةِ: وَفِيهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ: قِيلَ هِيَ خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ.
وَقِيلَ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ دُلَيْجٍ.
وَقِيلَ: بِنْتُ الصَّامِتِ.
وَأُمُّهَا مُعَاذَةُ؛ كَانَتْ أَمَةً لِابْنِ أُبَيٍّ.
وَفِيهَا قال اللَّهُ تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الْآيَةَ.
وَقِيلَ: خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَهِيَ أَشْبَهُهَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهِيَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ قال: فَجَنَحَ إلَيْهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهَا، وَتَنَحَّى النَّاسُ عَنْهَا، فَنَاجَاهَا طَوِيلًا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ فَقالوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَبَسْت رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ.
قال: أَتَدْرُونَ مَنْ هِيَ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، سَمِعَ اللَّهُ قولهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ؛ فَوَاَللَّهِ لَوْ قَامَتْ هَكَذَا إلَى اللَّيْلِ لَقُمْت مَعَهَا إلَى أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ، وَأَنْطَلِقَ لِأُصَلِّيَ ثُمَّ أَرْجِعَ إلَيْهَا.
وَقالتْ عَائِشَةُ: تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيخفى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ، وَعَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ؛ قُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُك}.
وَنَصُّهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قالتْ لَهُ: وَاَللَّهِ مَا أَرَاك إلَّا قَدْ أَثِمْت فِي شَأْنِي، لَبِسْت جِدَّتِي، وَأَفْنَيْت شَبَابِي، وَأَكَلْت مَالِي، حَتَّى إذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاحْتَجْت إلَيْك فَارَقْتنِي.
قال: مَا أَكْرَهَنِي لِذَلِكَ، اذْهَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْظُرِي هَلْ تَجِدِينَ عِنْدَهُ شَيْئًا فِي أَمْرِك؟ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَلَمْ تَبْرَحْ حَتَّى نَزَلَ القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا} فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْتِقْ رَقَبَةً».
قال: لَا أَجِدُ ذَلِكَ.
قال: «صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ».
قال: لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ.
قال: «أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا».
قال: لَا أَجِدُ.
فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَعِيرًا، وَقال: «خُذْ هَذَا فَأَطْعِمْهُ».
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ سَعِيدًا أَتَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ، كَانَ رَجُلًا ميطا فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ، فَرَآهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بِرِيقِ الْقَمَرِ، وَرَأَى بَرِيقَ خَلْخَالِهَا وَسَاقِهَا فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا، وَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقال لَهُ: «أَتَيْت بِهَذَا يَا أَبَا سَلَمَةَ ثَلَاثًا؟» فَأَمَرَ النَّبِيُّ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً.
قال: مَا أَمْلِكُ غَيْرَ رَقَبَتِي هَذِهِ.
فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ.
قال: إنَّمَا هِيَ وَجْبَةٌ.
قال: «صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ».
قال: مَا مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ.
قال: فَأَتَى النَّاسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقِنَاعٍ فِيهِ تَمْرٌ.