فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}
قوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} في (إذْ) هذه ثلاثة أقوالٍ، أحدها: أنها على بابِها من المُضِيِّ. والمعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامةِ الصلاةِ، قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّها بمعنى (إذا) كقوله: {إِذِ الأغلال} [غافر: 71] وقد تقدَّم الكلامُ فيه. الثالث: أنها بمعنى (أن) الشرطيةِ وهو قريبٌ مِمَّا قبلَه، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين (أن) و(إذا) معروفٌ. ورُوي عن أبي عمرو {خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} بالياءِ مِنْ تحتُ. والمشهورُ عنه بتاءِ الخطاب كالجماعة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}
قوله: {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ}: يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها مستأنفةٌ لا موضعَ لها من الإِعراب. أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّصِ. ولا من الكافرين الخلَّصِ، بل كقوله: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143]. فالضميرُ في {ما هم} عائدٌ على الذين تَوَلَّوا، وهم المنافقون. وفي {منهم} عائدٌ على اليهود أي: الكافرين الخُلَّص. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعل {تَوَلَّوا} والمعنى: على ما تقدَّم أيضًا. والثالث: أنها صفةٌ ثانيةً لـ: {قومًا}، فعلى هذا يكون الضميرُ في {ما هم} عائدًا على {قومًا}، وهم اليهودُ. والضميرُ في {منهم} عائدٌ على الذين تَوَلَّوا يعني: اليهودُ ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من المنافقين، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون، قاله ابن عطية. إلاَّ أنَّ فيه تنافُرَ الضمائرِ؛ فإن الضميرَ في {ويَحْلِفون} عائدٌ على الذين تَوَلَّوْا، فعلى الوجهين الأوَّلَيْن تتحد الضمائرُ لعَوْدِها على الذين تَوَلَّوا، وعلى الثالث تختلفُ كما عَرَفْتَ تحقيقَه.
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ أي: يعلمون أنه كذِبٌ فيَمينُهم يمينٌ غموسٌ لا عُذْرَ لهم فيها.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)}
قوله: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}: مفعولان لـ: {اتَّخذوا}. وقرأ العامة: {أَيْمانَهم} بفتحِ الهمزةِ جمع يمين. والحسن بكسرِها مصدرًا. وقوله: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ} قد تقدَّمَ في آل عمران.
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
قوله: {استحوذ}: جاءَ به على الأصلِ، وهو فصيحٌ استعمالًا، وإنْ شَذَّ قياسًا. وقد أَخْرجه عمرُ رضيَ اللَّهُ عنه على القياس فقرأ {استحاذ} كاستقام، وتقدَّمَتْ هذه المادةُ في سورةِ النساءِ عند قوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ} [النساء: 141].
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}
قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ}: يجوز أَنْ يكونَ {كَتَبَ} جرى مَجْرَى القَسَم فأُجيبَ بما يُجاب به. وقال أبو البقاء: وقيل: هي جوابُ {كَتَبَ} لأنَّه بمعنى قال. وهذا ليس بشيءٍ لأنَّ (قال) لا يَقْتضِي جوابًا فصوابُه ما قَدَّمْتُه. ويجوزُ أَنْ يَكون {لأَغْلِبَنَّ} جوابَ قسمٍ مقدرٍ، وليس بظاهر.
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
قوله: {يُوَادُّونَ}: هو المفعولُ الثاني لـ: {تَجِدُ} ويجُوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لواحدٍ بمعنى صادَفَ ولقي، فيكون {يوادُّون}. حالًا أو صفةً لـ: {قومًا}. والواوُ في {ولو كانوا} حاليةٌ وتقدم تحريرُه غيرَ مرة. وقدَّم أولًا الآباءَ لأنهم تجبُ طاعتُهم على أبناءِهم، ثم ثّنَّى بالأبناءِ لأنهم أَعْلَقُ بالقلوب وهم حَبَّاتُها:
فإنما أَوْلادُنا بَيْنَا ** أكبادُنا تَمْشِي على الأرضِ

الأبياتُ المشهورة في الحماسةِ، ثَلَّثَ بالإِخوان لأنهم هم الناصرُون بمنزلة العَضُدِ من الذِّراع. قال:
أخاك أخاك إنَّ مِنْ لا أخا له ** كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ

وإنَّ ابنَ عمِّ المَرْءِ فاعْلَمْ جناحُه ** وهل ينهَضُ البازي بغير جَناح؟

ثم رَبَّع بالعشيرةِ، لأنَّ بها يسْتغاثُ، وعليها يُعْتمد. قال:
لا يَسْألون أخاهم حين يَنْدُبُهُم ** في النائباتِ على ما قال بُرْهانا

وقرأ أبو رجاء {عشيراتِهم} بالجمع، كما قرأها أبو بكر في التوبة كذلك. وقرأ العامة: {كَتَبَ} مبنيًا للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، {الإِيمانَ} نصبًا وأبو حيوةَ وعاصمٌ في رواية المفضل {كُتِبَ} مبنيًا للمفعول، {الإِيمانُ} رفعٌ به. والضميرُ في {منه} للَّهِ تعالى. وقيل: يعودُ على الإِيمان؛ لأنه رُوحٌ يَحْيا به المؤمنون في الدارَيْنِ. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في كتب:
قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} يعنى القرآن سمّى كتابًا لما جُمع فيه من القصص والأَمر والنَّهى والأَمثال والشرائع والمواعظ، أَو لأَنه جُمع فيه مقاصد الكتب المنزلة على سائر الأَنبياء.
وكلُّ شيء جمعت بعضه إِلى بعض فقد كتبته.
وقوله تعالى: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أي أَنزل الله في كتابه أَنكم لابثون إِلى يوم القيامة.
وقوله عزَّ وجلَّ: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي حُكْم.
وقال القتبىّ في قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي يحكمون، يقولون نحن نفعل بك كذا وكذا، ونطردك ونقتلك، وتكون العاقبة لنا عليك.
وقوله تعالى: {أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} أي ثبَّت.
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي فرض وأوجب.
وقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} مصدر أَريد به الفعل، أي كتب الله عليكم، وهذا قول حذَّاق النحويين.
وقال الكوفيُّون: هو منصوب على الإِغراءِ بعليكم، وهو بعيد؛ لأَنَّ مَا انتصب على الإِغراءِ لا يتقدّم على ما قام مقام الفعل وهو (عليكم)، ولو كان النَّص: عليكم كتاب الله لكان النَّصب على الإِغراءِ أَحسن من المصدر.
واكتتبتُ الكتابَ: كَتَبْتُهُ، ومنه قوله تعالى: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا}.
ويقال: اكتتب فلان فلانًا: إِذا سأَله أَن يكتُب له كتابًا في حاجة، وعليه فَسَّر بعضهم: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} أي استكتبها.
ابن الأَعرابىّ: سمعت أَعرابيًّا يقول: اكتتبت فم السِقاءِ فلم يَستكتب لى، أي لم يَسْتَوْكِ لجفائه وغِلظه.
وكاتبت العبد (فهو يكاتب).
والمكاتَب: العبد يكاتَب على نفسه بثمنه، فإِذا سعى فأَدّاه عَتَق.
وأَصلها من الكتابة، يراد بها الشرط الذي يُكتب بينهما.
ابن الأَعرابىّ: الكاتب عندهم: العالم، وبه فسَّر قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}.
والكِتاب: القَدَر، قال النَّابغة الجعدىّ:
يا ابنة عمِّى كتاب الله أَخرجنى ** عنكم فهل أَمنعنَّ اللهَ ما فعلا

قال بعض المفسِّرين: ورد الكتاب في القرآن لمعان:
1- بمعنى اللَّوح المحفوظ: {كِتابٌ سَبَقَ}، {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}، {فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}.
2- بمعنى التوارة: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}.
3- بمعنى الإِنجيل: {قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}.
4- بمعنى كتاب سليمان إِلى بلقيس: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}.
5- بمعنى القرآن المجيد: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا}، {وَهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، وله نظائر.
6- كتاب الرَّحمة والمغفرة: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ}، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.
7- بمعنى الكتابة المعروفة: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
8- بمعنى تاريخ أَرباب السَّعادة: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}.
9- بمعنى تاريخ أَرباب الشقاوة: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}.
10- بمعنى الرِّزق المعلوم في العمر والمدَّة: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}.
11- بمعنى فريضة الطَّاعة: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}.
12- ديوان الأَعمال والأَفعال المعروضُ على المطيع والعاصى، يوم تشيب فيه النواصى: {كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ}، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقرأ كِتَابَكَ}.
والكتاب في الأَصل: اسم للصّحيفة مع المكتوب فيها.
ويعبَّر عمَّا ذكرنا من الإِثبات والتقدير والإِيجاب والفرض بالكتابة، ووجه ذلك أَنَّ الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب.
والإِرادة مبدأ، والكتابة منتهًى، ثم يعبَّر عن المبدإِ بالمنتهى إِذَا قُصد تأكيده.
قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي}.
وقوله: {وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي في حكمه.
وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ}، أي أَوحينا وفرضنا.
قال: ويعبَّر بالكتابة عن القضاء المُمْضَى وما يصير في حكم الممضى، وحُمل على هذا قوله: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}.
وقوله: {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} إِشارة إِلى أَن ذلك مثبت له ومجازًى به.
وقوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}، أي اجعلنا في زمرتهم إِشارة إِلى قوله: {فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}.
وقوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي قدّره وقضاه؛ وذكر (لَنَا) ولم يقل: علينا تنبيهًا أَنَّ كل ما يصيبنا نعدّه نعمة لَنَا، ولا نعدُّه نقمة علينا.
وقوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، قيل معناه: وهبها الله لكم، ثمَّ حَرَّمها عليكم بامتناعكم من دخولها وقبولها، وقيل: كتب لكم بشرط أَن تدخلوها وقرئ: (عليكم) أَو أَوجبها عليكم.
وإِنما قال (لكم) تنبيهًا أَنَّ دخولهم إِيَّاها يعود عليهم بنفع عاجل وآجل؛ فيكون ذلك لهم لا عليهم، و.
{لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي في علمه وحكمه، وقوله: {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ}، أي في حكمه.
ويعبَّر بالكِتاب عن الحُجَّة الثابتة من جهة الله، نحو قوله: {ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ}، وقوله: {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} إِشارة إِلى العلم والتحقيق والاعتقاد.
وقوله: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} إِشارة في تحرِّى النِّكاح إِلى لطيفة، وهى أَنَّ الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح ليُتحرَّى به طلب النَّسل الذي يكون سببًا لبقاءِ نوع الإِنسان إِلى غاية قدَّرها، فيجب للإِنسان أَن يتحرَّى بالنكاح ما جعل الله على حسب مقتضَى العقل والدِّيانة، ومَن تحرَّى بالنكاح حفظ النسل وحظَّ النفس على الوجه المشروع فقد انتهى إِلى ما كتب الله له، وإِلى هذا أَشار من قال: عنى بـ (ما كتب الله لكم) الولدَ.
ويعبَّر بالكتابة عن الإِيجاد، وعن الإِزالة والإِفناءِ بالمحو، قال تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} نبَّه أَن لكلِّ وقت إِيجادًا، فهو يوجد ما تقتضى الحكمة إِيجاده، ويزيل ما تقتضى الحكمة إِزالته.
ودلَّ قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} على نحو ما دلَّ عليه قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.
وقوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}، فالكتاب الأَول كتبوه بأَيديهم المذكورُ بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، والثاني التوراة، والثالث لجنس كتب الله تعالى كلِّها، أي ما هو من شيء من كتب الله تعالى وكلامه.
وقوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}، قيل: هما عبارتان عن التوارة سمِّيت كتابًا باعتبار ما ثبت فيها من الأَحكام، وفرقانًا باعتبار ما فيها من الفرق بين الحقِّ والباطل.
وقوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} تنبيه أَنَّهم يختلقونه ويفتعلونه.
وقوله: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} أَراد بالكتاب هاهنا ما تقدّم من كُتُب الله دون القرآن؛ أَلا ترى أَنه جعل القرآن مصدِّقا له.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}، منهم من قال: هو القرآن، ومنهم من قال: هو وغيره من الحُجج والعلم والعقل.
وقوله: {قال الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ}، قيل: أَريد علم الكتاب، وقيل علم من العلوم التي آتاها الله سليمان في كتابه المخصوص به، وبه سُخِّر له كلُّ شيءٍ.
وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي بالكتب المنزلة، فوضع المفرد موضع الجمع، إِمَّا لكونه جنسًا، كقولك: كثر الدرهم بأَيدى الناس، وإِمَّا لكونه في الأَصل مصدرًا، والله أَعلم. اهـ.