فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
بدل أو عطف بيان من: {الصراط المستقيم} وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم، لفائدتين:
الفائدة الأولى: المقصود من طلب الصراط المستقيم:
أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدي إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله.
الفائدة الثانية: كيف يتمكن معنى الصراط في القلوب؟
ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضًا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساوٍ لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافًا لمن حاول التفاضل بينهما، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهدًا يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر.
قال في الكشاف: فإن قلت ما فائدة البدل؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير. اهـ. فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله: وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل: {اهدنا الصراط المستقيم} اهدنا صراط الذين، وسماه تكريرًا لأنه إعادة للفظ بعينه، بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع.
وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان لِيُبنى عليه ما يُراد تعلقه بالاسم الأول أسلوب بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلولَه بمحلِّ العناية وأنه حبيب إلى النفس، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كرامًا} [الفرقان: 72] وقوله: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} [القصص: 63] فإن إعادة فعل: {مروا} وفعل: {أغويناهم} وتعليق المتعلِّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تَجِدُ له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به.
قال ابن جني في شرح مشكل الحماسة عند قول الأحوص:
فإذَا تزولُ تزول عن مُتَخَمِّطٍ ** تُخْشَى بَوَادِرُه على الأَقرانِ

محال أن تقول إذا قُمتَ قُمتَ وإذا أقْعُدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذَا تزولُ تزوللِ لما اتصل بالفعل الثاني من حَرْف الجر المفادة منه الفائدةُ، ومثله قول الله تعالى: {هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} وقد كان أبو علي يعني الفارسي امتنع في هذه الآية مما أخذناه اهـ.
قلت ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار: {أغويناهم} بدلًا من: {أغوينا} وجعله استئنافًا وإن كان المآل واحدًا. وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، تنويه بشأنهم خلافًا لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين.
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه {صراط الذين أنعمت عليهم} دون بقية أوصافه تمهيدًا لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلانًا كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى الله عليه وسلم «كما صليتَ على إبراهيم»، فيقول السائلون: {اهدنا الصراط المستقيم} الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهممًا بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى: {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة} [الممتحنة: 6]، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرئ من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلًا وتعوذًا.
والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه، والفعل كسمع ونصر وضرب.
والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها.
فالمراد من النعمة في قوله: {الذين أنعمت عليهم} النعمةُ التي لم يَشُبْها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سُوأَى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيَّ منها والكسبيَّ، والرُّوحانيَّ والجثماني، ويشمل النعم الأخروية.
والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلِّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلًا بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وُهب لأجله.
فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ فيكون في إبدال: {صراط الذين} من: {الصراط المستقيم} معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعَم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم.
والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة.
وإنما يلتئم كون المسؤول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دينَ الإسلام الذي جاء من بعدُ باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سَنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى، فسألوا دينًا قويمًا يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياءُ والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم، ولذلك وصف الله كثيرًا من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية، ولْنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدرُ غيرُ المسكر منه مباحًا وإنما يحرم السُّكر أوْ لا يحرم أصلًا غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أَتْبَاعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولًا في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانَه والتي لم يبلغ إلى نهايتها.
والقول في المطلوب من: {اهدنا} على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون: {اهدنا} لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام.
والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترَى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.

.قال الفخر:

فصل في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}:

.فوائد: معنى قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ}:

.الفائدة الأولى: المشهور أن {المغضوب عليهم} هم اليهود:

المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] والضالين: هم النصارى لقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل} [المائدة: 77] وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينًا من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، ويحتمل أن يقال: المغضوب عليهم هم الكفار، والضالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 6] ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا} [البقرة: 8] فكذا هاهنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: {وَلاَ الضالين}.

.الفائدة الثانية: المشهور أن {الضالين} هم النصارى:

لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبًا، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.

.الفائدة الثالثة: الملائكة والأنبياء عليهم السلام مأمورون باتباع الصراط المستقيم:

قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} يدل على أن أحدًا من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق، لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا الاهتداء بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولما كان ذلك باطلًا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام.

.الفائدة الرابعة: في الغضب:

الغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، واعلم أن هذا على الله تعالى محال، لكن هاهنا قاعدة كلية، وهي أن جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والغيرة، والمكر والخداع، والتكبر، والاستهزاء لها أوائل، ولها غايات، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الأضرار، وأيضًا، الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.

.الفائدة الخامسة: قول المعتزلة في معنى غضب الله على اليهود:

قالت المعتزلة: غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلمًا من الله تعالى، وقال أصحابنا: لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين، وحينئذٍ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد، أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك محال.

.الفائدة السادسة: اشتمال أول الفاتحة على الحمد لله وآخرها على الذم للمعرضين عن الإيمان:

أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له، وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته، وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى، ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.