فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله} أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى فحصونهم مبتدأ، {ومانعتهم} خبر مقدم، والجملة خبر {إن} وكان الظاهر لمقابلة {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في (النظم الجليل) للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء بمانعتهم.
و{حصونهم} مقدمًا فيه الخبر على المبتدأ؛ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، فجيء بضمير هم وصير اسمًا لأن وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوّى على ما في (الكشف).
وشرح الطيبي، وفي كون ذلك من باب التقوّى بحث، ومنع بعضهم جواز الإعراب السابق بناءًا على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلًا، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون {حُصُونُهُم} فاعلًا لمانعتهم لاعتماده على المبتدأ.
وجوز كون {مَّانِعَتُهُمْ} مبتدأ خبره {حُصُونُهُم}، وتعقب بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل، وكانت {حُصُونُهُم} على ما قيل: أربعة الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة، وزاد بعضهم الوخدة وبعضهم شقا، والذي في (القاموس) أنه موضع بخيبر أو واد به {فأتاهم الله} أي أمره سبحانه، وقدره عز وجل المتاح لهم {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} ولم يخطر ببالهم؛ وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة، وقيل: ضمير {ءاتاهم} و{لَمْ يَحْتَسِبُواْ} للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، وفيه تفكيك الضمائر.
وقرئ {فآتاهم الله}، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف أي فآتاهم الله العذاب أو النصر {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذا ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم.
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب {وَأَيْدِي المؤمنين} حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التحريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم، وبهذا الاعتبار عطفت {أَيْدِي المؤمنين} على أيديهم وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم فيخربون على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير {قُلُوبِهِمْ} أو لا محل لها من الإعراب، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه.
أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.
وقرأ قتادة، والجحدري، ومجاهد، وأبو حيوة، وعيسى وأبو عمرو {يُخْرِبُونَ} بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول، وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضع خرابًا وذهب عنه، فالإخراب يكون أثر التخريب، وقيل: هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة.
وبالهمزة أخرى {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى الصائرة سببًا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه.
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع، ولذا قال ابن عباس في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ثبتت مشروعية العمل بالقياس، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى: {إِنَّ في ذلك لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبصار} [آل عمران: 13] {وَإِنَّ لَكُمْ في الأنعام لَعِبْرَةً} [النحل: 66] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال: إنه غير معتبر، ولو كان القياس هو الاعتبار لم يصح هذا السلب سلمان لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم: إنه إذا قال لوكيله: أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم، وإن كان أسود، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاض حيث أطلق لما حسن قولهم: اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورًا به من جهة ما فيه من الانتقال وهو القياس.
والآيتان على ذلك ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرًا إلى كونه قائسًا، وإنما صح ذلك نظرًا إلى أمر الآخرة، وأطلق النفي نظرًا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق.
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال: قالوا: إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي، وسوق الآية للاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية.
{وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء} أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع {لَعَذَّبَهُمْ في الدنيا} بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا وبرزوا، ويقال أيضًا: جلاهم؛ وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه: الجلأ مهموزًا من غير ألف كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح.
وأخوه علي بن صالح.
وطلحة، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف، وقد صرح بذلك الرضى، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابُ النار} استئناف غير متعلق بجواب {لَوْلاَ} أي أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة؛ فليس تمتعهم أيامًا قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة.
{ذلك} أي ما نزل بهم وما سينزل {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} وفعلوا ما فعلوا من القبائح {وَمَن يُشَاقّ الله} وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال، والاقتصاد على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق قوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وهذه الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأيًا مّا كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل: ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكل من يشاق الله تعالى كائنًا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذًا لهم عقاب شديد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكيرٌ للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر على ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير فكأنه قال سبحوا لله كما سَبح له ما في السماوات والأرض.
وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابهم لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها.
والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد (1)، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها: {ما في السماوات والأرض وها هنا قال ما في السموات وما في الأرض} لأن فاتحة سورة الحديد تضمنت الاستدلال على عظمة الله تعالى وصفاته وانفراده بخلق السماوات والأرض فكان دليل ذلك هو مجموع ما احتوت عليه السماوات والأرض من أصناف الموجودات فجمع ذلك كله في اسم واحد هو {ما} الموصولة التي صلتها قوله: {في السماوات والأرض}.
وأما فاتحة سورة الحشر فقد سيقت للتذكير بمنة الله تعالى على المسلمين في حادثة أرضية وهي خذلان بني النضير فناسب فيها أن يخص أهل الأرض باسم موصول خاص بهم، وهي {ما} الموصولة الثانية التي صلتها {في الأرض}، وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها.
وأوثر الأخبار عن {سبح لله ما في السموات وما في الأرض} بفعل المضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير.
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}
يجوز أن تجعل جملة {هو الذي أخرج الذين كفروا} إلى آخرها استئنافًا ابتدائيًا لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره، ولِمَا يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإِخراج العجيب.
ويجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في الأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنتها فاتحة السورة من أهل أحوالهما.
ويجوز أن تجعل مبينة لجملة {وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 1] لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزّه وحكمته.
وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير.
وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإِخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير.