فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

وَآيَةُ الدَّيْنِ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الِاحْتِيَاطِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ الْمَرْضِيِّينَ وَالرَّهْنُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعَهُ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنَفْيُ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَفِي التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَذَهَابُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا وَشُهُودًا أَوْ كِتَابًا أَوْ رَهْنًا بِمَا عَلَيْهِ وَثِيقَةٌ فِي يَدِ الطَّالِبِ، قَلَّ الْخِلَافُ، عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ خِلَافَهُ وَبَخْسَهُ لِحَقِّ الْمَطْلُوبِ لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَظْهَرُ كَذِبُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَثِيقَةٌ وَاحْتِيَاطٌ لِلطَّالِبِ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُمَا جَمِيعًا فِي دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ بَخْسَ حَقِّ الطَّالِبِ صَلَاحَ دِينِهِ وَفِي جُحُودِهِ وَبَخْسِهِ ذَهَابَ دِينِهِ إذَا عَلِمَ وُجُوبَهُ؛ وَكَذَلِكَ الطَّالِبُ إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَشُهُودٌ أَثْبَتُوا مَا لَهُ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَجَحَدَ الطَّالِبُ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مُقَابَلَتِهِ بِمِثْلِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَيْدِهِ حَتَّى رُبَّمَا لَمْ يَرْضَ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِهِ فِي أَضْعَافِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ وَذَلِكَ مُتَعَالَمٌ مِنْ أَحْوَالِ عَامَّةِ النَّاسِ.
وَهَذَا نَظِيرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَجْهُولَةِ الْقَدْرِ وَالْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ وَالْأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَافِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا يُسْكِرُ فَيُؤَدِّي إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالِاخْتِلَافِ وَالشَّحْنَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لِنَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالْعَدَاوَةِ وَلِمَا فِي ارْتِكَابِهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، فَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ وَانْتَهَى إلَى أَوَامِرِهِ وَانْزَجَرَ بِزَوَاجِرِهِ حَازَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ وَالْعُقُودِ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهَا تَارَةً بِالشَّهَادَةِ وَتَارَةً بِالرَّهْنِ، دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} وَقَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} الْآيَةَ.
فَهَذِهِ الْآيُ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَبْذِيرِهِ وَتَضْيِيعِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حَدَّثَنَا بَعْضُ مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي الرِّوَايَةِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ إضَاعَةَ الْمَالِ وَلَا قِيلَ وَلَا قَالَ».
وَحَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ وَرَادٍّ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ: اُكْتُبْ إلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَحَدٌ قَالَ: فَأَمْلَى عَلَيَّ وَكَتَبْت: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ثَلَاثًا وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ. فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي حَرَّمَ فَعُقُوقُ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدُ الْبَنَاتِ وَلَا وَهَاتِ، وَالثَّلَاثُ الَّتِي نَهَى عَنْهُنَّ فَقِيلَ وَقَالَ وَإِلْحَافُ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ». اهـ.

.قال الفخر:

الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان، ويدخل فيه الجحد، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به، والله أعلم. اهـ.
وقال الفخر:
القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه، فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء، وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري، وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل، وقال آخرون: هذا الأمر محمول على الندب، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد، وذلك إجماع على عدم وجوبهما، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» وقال قوم: بل كانت واجبة، إلا أن ذلك صار منسوخًا بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283] وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة، وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين:
الشرط الأول: أن يكون الكاتب عدلًا وهو قوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} واعلم أن قوله تعالى: {فاكتبوه} ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب، لكن ذلك غير ممكن، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتبًا، فصار معنى قوله: {فاكتبوه} أي لابد من حصول هذه الكتبة، وهو كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء} [المائدة: 38] فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لابد من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إما الإمام أو نائبه أو المولى، فكذا هاهنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

إنّما جعَل القرآن كاتبًا وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة. اهـ.

.من فوائد تقي الدين السبكي:

قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَسْأَلَةٌ جَرَى الْبَحْثُ فِي الْغَزَالِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الآخَرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي قَوْله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}.
فَقُلْتُ قَوْلُهُ مِنْ إشَارَةٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ الأَحْرَارِ، لأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَتَدَايَنُونَ غَالِبًا وَالرَّقِيقُ لا يَتَدَايَنُ غَالِبًا. فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ وَهُوَ الْوَلَدُ عَبْدُ الْوَهَّابِ هَذَا يَثْبُتُ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ يَخُصُّ بِالْعَادَةِ وَالصَّحِيحُ خِلافُهُ فَلا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُدَايِنَةِ بَيْنَ الأَحْرَارِ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَخْتَصَّ الْخِطَابُ بِهِمْ لأَنَّهُ عَامٌ. قُلْت لا نُسَلِّمُ وَطَالَتْ هَذِهِ الْمُمَانَعَةُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْجَمَاعَةِ سَنَدُ الْمَنْعِ فَبَيَّنْته لَهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ أَيْ وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ لا عُمُومَ لَهُ لَكِنَّهُ نَعْتٌ بِاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلا يَلْزَمُ مِنْ نَعْتِهِ بِالْعَامِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى إطْلاقِهِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ «عَلَى الأَحْرَارِ» تَقْيِيدًا لا تَخْصِيصًا بَلْ أَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ تَقْيِيدًا أَيْضًا بَلْ لِبَيَانِ الْمُخَاطَبِ مَنْ هُوَ وَكَذَلِكَ يُصْرَفُ بِأَيِّ قَرِينَةٍ اتَّفَقَ وَلا يُسَمَّى تَخْصِيصًا كَمَا تَقُولُ هَذَا مُشِيرًا إلَى شَخْصٍ فَيُعْرَفُ بِالإِشَارَةِ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِك هَذَا وَلا يُسَمَّى تَخْصِيصًا وَلا تَقْيِيدًا. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى بَابِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ حَتَّى يُدْعَى تَعْمِيمُ النَّكِرَةِ بِعُمُومِ صِفَتِهَا؛ كَمَا يَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ، لأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ شَرْطًا بِمُقْتَضَاهُ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْمَقْصُودِ بِالنِّدَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ لا دَلالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ بَلْ لِمَا تَدُلُّ الْقَرَائِنُ عَلَيْهِ، فَلا جَرَمَ امْتَنَعَ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. اهـ.

.قال ابن العربي:

فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جُعِلَ أَصْلَهَا وَجُعِلَتْ فَرْعَهُ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْعَوْجَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا، وَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا عَلَى عِوَجٍ، وَقَالَ: وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا».
الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَقْصُ دِينِهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ نَقْصُ عَقْلِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ. قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَمْكُثُ إحْدَاكُنَّ اللَّيَالِيَ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي، وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟».
الْخَامِسُ: أَنَّهُ نَقْصُ حَظِّهَا فِي الْمِيرَاثِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} السَّادِسُ: أَنَّهَا نَقَصَتْ قُوَّتُهَا؛ فَلَا تُقَاتِلُ وَلَا يُسْهَمُ لَهَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ حُكْمِيَّةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نُسِبَ النَّقْصُ إلَيْهِنَّ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِنَّ؟ قُلْنَا: هَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَحُطُّ مَا شَاءَ وَيَرْفَعُ مَا شَاءَ، وَيَقْضِي مَا أَرَادَ، وَيَمْدَحُ وَيَلُومُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنَازِلَ، وَرَتَّبَهَا مَرَاتِبَ؛ فَبَيَّنَ ذَلِكَ لَنَا فَعَلِمْنَا وَآمَنَّا بِهِ وَسَلَّمْنَاهُ. اهـ.

.قال في البحر المديد:

أدخل الواو في جواب الأمر ليقتضي أن تعليمه سبحانه لأهل التقوى ليس هو مسببًا عن التقوى، بل هو بمحض الفضل والكرم، والتقوى إنما هي طريق موصل لذلك الكرم، لا سبب فيه جَلَّ حُكْمُ الأزل أن يُضَافَ إلى العلل. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال في روح البيان:

هذه الآية أطول آية في القرآن وأبسطها شرحا وأبينها وأبلغها وجوها يعلم بذلك أن مراعاة حقوق الخلق واجبة والاحتياط على الأموال التي بها أمور الدين والدنيا لازم فمن سعى بالحق فقد نجا ولا فقد غوى.
والله تعالى من كمال رحمته على عباده علمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم لئلا يجرى من بعضهم على بعض حيف ولئلا يتخاصموا ويتنازعوا فيحقد بعضهم على بعض فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة وأمر الكاتب أن يكتب كما علمه الله بالعدل وراعى في ذلك دقائق كثيرة كما ذكرها.
فيشير بهذه المعانى إلى ثلاثة أحوال:
أولها حال الله تعالى مع عباده فيظهر من آثار ألطافه معهم أنه تعالى كيف يرفق بهم ويعلمهم كيفية معاملاتهم الدنيوية حتى لا يكونوا في خسران من أمر دنياهم ولا يكون فيما بينهم عداوة وخصومة تؤدى إلى تنغيص عيشهم في الدنيا وعقوبة في الآخرة فيستدلوا بها على أن تكاليف الشرع التي أمروا بها أيضا من كمال مرحمته استعملهم بها ليفيض بها عليهم سجال نعمه كقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} الآية.
وثانيها حال العباد مع الله ليعلموا برعاية هذه الدقائق للأمور الدنيوية الفانية أن للأمور الأخروية الباقية فيما بينهم وبين الله أيضا دقائق كثيرة والعباد بها محاسبون وعلى مثقال ذرة من خيرها مثابون وعلى مثقال ذرة من شرها معاقبون وأنها بالرعاية أولى وأحرى من أمور الدنيا وأن الله تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستهشدوا عليهم العدول وقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عبادة في الميثاق فإن الله تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وعلى هذا عاهدهم وأشهد الملائكة الكرام عليه ثم رقم في الكتاب أن ياقوتة من الجنة وديعة وهى الحجر الأسود.
وثالثها حال العباد فيما بينهم فليعتبر كل واحد منهم من ملاطفات الحق معهم وليتخلق بأخلاق الحق في مخالفتهم وليتوسل إلى الله بحسن مرافقتهم وليحفظ حدود الله في مخالفتهم وموافقتهم وليتمسك بعروة محبتهم في الله وجذبتهم لله ونصحهم بالله ليحرز في رفقتهم صراطا مستقيما ويفوز من زمرتهم فوزا عظيما ففى جميع الأحوال كونوا مع الله كما قال: {واتقوا الله ويعلمكم الله} أي اتقوا في الاحوال الثلاثة كما يعلمكم الله بالعبارات والإشارات {والله بكل شىء} تعملونه في جميع الأحوال من الأقوال والأفعال {عليم} يعلم مضمون ضمائركم ومكنون سرائركم فيجازيكم على حسن معاملتكم بقدر خلوصكم وصفاء نياتكم وصدق طوياتكم فطوبى لمن صفى قلبه عن سفاسف الأخلاق وعزم إلى عالم السر والإطلاق وأحسن المعاملة مع الله في جميع الحالات ووصل إلى الدرجات العاليات. اهـ.