فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب»، أي برعب أعداء الدين.
وجملة {يخربون بيوتهم} حال من الضمير المضاف إليه {قلوبهم} لأن المضاف جزء من المضاف إليه فلا يمنع مجيء الحال منه.
والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم فإنهم وإن خربوا بيوتهم باختيارهم لكن داعي التخريب قهري.
والإِخراب والتخريب: إسقاط البناء ونقضه.
والخراب: تهدم البناء.
وقرأ الجمهور {يخربون} بسكون الخاء وتخفيف الراء المكسورة مضارع: أَخرب.
وقرأه أبو عمرو وحْده بفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة مضارع: خَرَّب، وهما بمعنى واحد.
قال سيبويه: إن أفعلت وفَعَّلت يتعاقبان نحْو أخربته وخَرّبته، وأفرحته وفرّحته، يريد في أصل المعنى، وقد تقدم ما ذكر من الفرق بين: أَنزل ونَزّل في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.
وأشارت الآية إلى ما كان من تخريب بني النضير بيوتهم ليأخذوا منها ما يصلح من أخشاب وأبواب مما يحملونه معهم ليبنوا به منازلهم في مهاجرهم، وما كان من تخريب المؤمنين بقية تلك البيوت كلما حلّوا بقعة تركها بنو النضير.
وقوله: {بأيديهم} هو تخريبهم البيوت بأيديهم، حقيقةٌ في الفعل وفي ما تعلق به، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سبَّبوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير.
فعطف {أيدي المؤمنين} على {بأيديهم} بحيث يصير متعلّقًا بفعل {يخربون} استعمال دقيق لأن تخريب المؤمنين ديار بني النضير لمّا وجدوها خاوية تخريب حقيقي يتعلق المجرور به حقيقة.
فالمعنى: ويسببون خراب بيوتهم بأيدي المؤمنين فوقع إسناد فعل {يخربون} على الحقيقة ووقع تعلق وتعليق {وأيدي المؤمنين} به على اعتبار المجاز العقلي، فالمجاز في التعليق الثاني.
وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعلهم وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم.
والاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها.
وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة، وقول (القاموس): هي العجب قصور.
وتقدم في قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} في سورة [يوسف: 111].
والخطاب في قوله: {يا أولي الأبصار} موجّه إلى غير معين.
ونودي أولو الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بَصر مما شاهد ذلك، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم، فتكون له عبرة قدرة الله على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال، وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.
وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإِثبات حجّيّة القياس بناء على أنه من الاعتبار.
{وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ في الدنيا}.
جملة معترضة ناشئة عن جملة {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 2].
فالواو اعتراضية، أي أخرجهم الله من قريتهم عقابًا لهم على كفرهم وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: {ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله} [الحشر: 4] ولو لم يعاقبهم الله بالجلاء لعاقبهم بالقَتل والأسر لأنهم استحقّوا العقاب.
فلو لم يقذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا لعاقبهم بجوع الحصار وفتح ديارهم عنوة فعذبوا قتلًا وأسرًا.
والمراد بالتعذيب: الألم المحسوس بالأبدان بالقتل والجرح والأسر والإِهانة وإلاّ فإن الإِخراج من الديار نكبة ومصيبة لكنها لا تدرك بالحس وإنما تدرك بالوجدان.
و{لولا} حرف امتناع لوجود، تفيد امتناع جوابها لأجل وجود شرطها، أي وجود تقدير الله جلاءهم سبب لانتفاء تعذيب الله إياهم في الدنيا بعذاب آخر.
وإنما قدر الله لهم الجلاء دون التعذيب في الدنيا لمصلحة اقتضتها حكمته، وهي أن يأخذ المسلمون أرضهم وديارهم وحوائطهم دون إتلاف من نفوس المسلمين مما لا يخلو منه القتال لأن الله أراد استبقاء قوة المسلمين لما يستقبل من الفتوح، فليس تقدير الجلاء لهم لقصد اللطف بهم وكرامتهم وإن كانوا قد آثروه على الحرب.
ومعنى {كتب الله عليهم} قَدّر لهم تقديرًا كالكتابة في تحقق مضمونه وكان مظهر هذا التقدير الإِلهي ما تلاحق بهم من النكبات من جلاء النضير ثم فتح قريظة ثم فتح خيبر.
والجلاء: الخروج من الوطن بنية عدم العود، قال زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ** يمين أو نفارٌ أو جَلاء

وأعلم أن {أنْ} الواقعة بعد {لولا} هنا مصدريةٌ لأن {أَنْ} الساكنة النون إذا لم تقع بعد فعل عِلم يقين أو ظن ولا بعد ما فيه معنى القول، فهي مصدرية وليست مخففة من الثقيلة.
{الدنيا وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابُ}.
عطف على جملة {ولولا أن كتب الله عليهم} الآية، أو على جملة {هو الذي أخرج الذين كفروا} [الحشر: 2]، وليس عطفًا على جواب {لولا} فإن عذاب النار حاقّ عليهم وليس منتفيًا.
والمقصود الاحتراس من توهم أنَّ الجلاء بَدل من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}
الإِشارة إلى جميع ما ذكر من إخراج الذين كفروا من ديارهم، وقذف الرعب في قلوبهم، وتخريب بيوتهم، وإعداد العذاب لهم في الآخرة.
والباء للسببية وهي جَارَّة للمصدر المنسبك من (أنَّ) وجملتها.
والمشاقَّة: المخاصمة والعداوة قال تعالى: {ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم} [النحل: 27] وقد تقدم نظيره في أول الأنفال.
والمشاقّة كالمحادّة مشتقة من الاسم.
وهو الشِقّ، كما اشتقت المحادّة من الحدّ، كما تقدم في أول سورة المجادلة.
وتقدم في سورة النساء (35) {وإن خفتم شقاق بينهما}
وقد كان بنو النضير ناصبوا المسلمين العِدَاء بعد أن سكنوا المدينة وأَضْرَوْا المنافقين وعاهدوا مشركي أهل مكة كما علمت آنفًا.
وجملة {ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} تذييل، أي شديد العقاب لكل من يشاققه من هؤلاء وغيرهم.
وعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم على اسم الجلالة في الجملة الأولى لقصر تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلموا أن طاعته طاعة لله لأنه إنما يدعو إلى ما أمره الله بتبليغه ولم يعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية استغناء بما علم من الجملة الأولى.
وأدغم القافان في {يشاق} لأن الإِدغام والإِظهار في مثله جائزان في العربية.
وقرئ بهما في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه} في سورة البقرة (217).
والفكّ لغة الحجاز، والإِدغام لغة بقية العرب.
وجملة {فإن الله شديد العقاب} دليل جواب {من} الشرطية إذ التقدير: ومن يشاقِق الله فالله معاقبهم إنه شديد العقاب. اهـ.

.قال القرطبي:

باب الحشر ومعناه الجمع.
وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة.
أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} قال الزهري: كانوا من سبط لم يصيبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس: من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «أخرجوا» قالوا أي أين؟ قال: «إلى أرض المحشر» قال قتادة: هذا أول الحشر.
الثاني: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث يأتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا» أخرجه البخاري أيضًا.
وقال قتادة: الحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. قال القاضي عياض: هذا الحشر في الدنيا قبل قيام الساعة وهو آخر أشراطهما كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة. قال فيه: و«آخر ذلك في نار تخرج من قعر عدن تزجر الناس»، وفي رواية: «تطرد الناس إلى محشرهم»، وفي حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجار ويدل على أنها قبل يوم القيامة». قوله: «فتقيل معهم حيث قالوا، وتمسي معهم حيث أمسوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا». وقال وفي بعض الروايات في غير مسلم: «فإذا سمعتم به فاخرجوا إلى الشامة» كأنه أمر بسبقها إليه قبل إزعاجها لهم.
قال المؤلف رحمه الله: وذكر الحليمي في منهاج الدين له من حديث ابن عباس وذكر أن ذلك في الآخرة فقال: يحتمل قوله عليه السلام: «تحشر الناس على ثلاث طرائق» إشارة إلى الأبرار والمخلطين والكفار.
فالأبرار هم الراغبون إلى الله تعالى فيما أعد لهم من ثوابه، والراهبون هم الذين بين الخوف والرجاء، فأما الأبرار فإنهم يؤتون بالنجائب كما في الحديث على ما يأتي في هذا الباب، وأما المخلطون فهم الذين أرادوا في هذا الحديث، وقيل: إنهم يحملون على الأبعرة، وأما الفجار الذين تحشرهم النار فإن الله تعالى يبعث إليهم ملائكة فتقيض لهم نارًا تسوقهم ولم يرد في هذا الحديث إلا ذكر البعير، فأما أن ذلك من إبل الجنة أو من الإبل التي تحيا وتحشر يوم القيامة، فهذا لم يأت بيانه. والأشبه ألا يكون من نجائب الجنة لأن من خرج من جملة الأبرار فكان مع ذلك من جملة المؤمنين، فإنهم بين الخوف والرجاء أن من هؤلاء من يغفر الله تعالى ذنوبه فيدخل الجنة، ومنهم من يعاقبه بالنار، ثم يخرجه منها ويدخله الجنة. وإذا كانوا كذلك لم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة، ثم ينزل الله بعضهم إلى النار لأن من أكرمه الله بالجنة لم يهنه بعد ذلك بالنار. قال: وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «يحشر الناس» الحديث وفي آخره أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، فهذا إن ثبت مرفوعًا فالركبان هم المتقون السابقون الذين يغفر الله ذنوبهم عند الحساب ولا يعذبهم إلا أن المتقين يكونون على نجائب الجنة والآخرون على دواب سوى دواب الجنة، والصنف الثاني الذين يعذبهم الله بذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى الجنة وهؤلاء يكونون مشاة على أقدامهم، وقد يحتمل على هذا أن يمشوا وقتًا ثم يركبوا أو يكونوا ركبانا فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا ليتفق الحديثان، والصنف الثالث المشاة على وجوههم هم الكفار، وقد يحتمل أن يكونوا ثلاثة أصناف: صنف مسلمون وهم ركبان، وصنفان من الكفار أحدهما العتاة وأعلام الكفر، فهؤلاء يحشرون على وجوههم والآخرون الأتباع فهم يمشون على أقدامهم.
قال المؤلف رحمه الله: وإلى هذا القول ذهب أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة في قوله عليه السلام كيف تحشر الناس يا رسول الله؟ قال: «اثنان على بعير وخمسة على بعير وعشرة على بعير» ومعنى هذا الحديث والله أعلم أن قومًا يأتلفون في الإسلام برحمة الله يخلق الله لهم من أعمالهم بعيرًا يركبون عليه، وهذا من ضعف العمل لكونهم يشتركون فيه كقوم خرجوا في سفر بعيد وليس مع واحد، منهم ما يشترى به مطية توصله فاشترك في ثمنها رجلان أو ثلاثة فابتاعوا مطية يتعقبون عليها في الطريق، ويبلغ بعير مع عشرة فاعمل هداك الله عملًا يكون لك به بعير خالص من الشركة، واعلم أن ذلك هو المتجر الرابح فالمتقون وافدون كما قال الجليل: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا}.