فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثامنة: قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلًا مُحْرِمًا وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا.
فقال الرجل: أتقرأ عليَّ بهذا آيةً من كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.
وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفِريابي: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ قال فقلت له: ما تقول أصلحك الله في المحرم يقتل الزُّنْبُور؟ قال فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} وحدثنا سُفيان بن عُيَيْنَة عن عبد الملك بن عُمير عن رِبْعِيّ ابن حِراش عن حُذيفة بن اليمَان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللَذيْن من بعدي أبي بكر وعمر».
حدثنا سفيان ابن عُيينة عن مِسْعر بن كِدَام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل الزُّنْبُور.
قال علماؤنا: وهذا جواب في نهاية الحسن، أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبيّن أنه يَقتدي فيه بعمر، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فجواز قتله مستنبَط من الكتاب والسنة.
وقد مضى هذا المعنى من قول عكرمة حين سئل عن أمهات الأولاد فقال: هن أحرار في سورة (النساء) عند قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشِماتِ والمُسْتَوْشِماتِ والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفلِّجاتِ للحُسْن المُغَيِّرَات خلق الله» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب؛ فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنتَ كَيْتَ وكيتا فقال: ومالِي لا ألعنُ مَن لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول.
فقال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيها أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}! قالت: بلى.
قال: فإنه قد نهى عنه.. الحديث. وقد مضى القول فيه في (النساء) مستوفى.
التاسعة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة فإن معناه الأمر؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر؛ والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبلُ مع: قوله عليه الصلاة السلام: «إذا أمرتكم بأمْرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وقال الكلبي: إنها نزلت في رؤساء المسلمين، قالوا فيما ظهر عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين: يا رسول الله، خذ صَفِيّك والرُّبع، ودعنا والباقي؛ فهكذا كنا نفعل في الجاهلية.
وأنشدوه:
لك المِرْباع منها والصَّفايَا ** وحُكْمُكَ والنَّشِيطة والفُضُولُ

فأنزل الله تعالى هذه الآية.
العاشرة: قوله تعالى: {واتقوا الله} أي عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه.
وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه فلا تضيّعوها.
{إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن خالف ما أمره به. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ}
هي النخلة مطلقًا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان.
وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة.
وقال أبو عبيدة وسفيان: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان: شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة أيضًا: هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برنى، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هي العجوة، وقال الأصمعي: هي الدقل، وقيل: هي النخلة القصيرة، وقال الثوري: الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين، وجاء جمعها ليانًا كما في قول امرئ القيس:
وسالفة كسحوق الليا ** ن أضرم فيه القويّ السعر

وقيل: هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة:
كأن قنودي فوقها عش طائر ** على لينة سوقاء تهفو جنوبها

ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى، و{مَا} شرطية منصوبة بقطعتم و{مّن لّينَةٍ} بيان لها، وأنث الضمير في قوله تعالى: {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا} أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء مّا، وجواب الشرط قوله سبحانه: {فَبِإِذْنِ الله} أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل.
وقرأ عبد الله، والأعمش، وزيد بن علي {قومًا} على وزن فعل كضرب جمع قائم، وقرئ {قائمًا} اسم فاعل مذكر على لفظ ما، وأبقى {أصولها} على التأنيث، وقرئ {أصلها} بضمتين، وأصله {أُصُولِهَا} فحذفت الواو اكتفاءًا بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.
{وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه أن يكون معطوفًا على قوله تعالى: {بِإِذُنِ الله} وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد بالفاسقين أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارًا بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.
قال بعضهم: وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقًا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أو نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ا فنزلت الآية {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} الخ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكت في به عنه، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضًا فلتقرير عدم كون القطع فسادًا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذنًا بتساويهما في ذلك.
واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة.
وقوله تعالى: {وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أولئك الكفرة وهم بنو النضير و{مَا} موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا إليه، والجملة المقترنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم، والمراد بإعادتها عليه عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلى الله عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازًا، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئًا للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة: فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيهًا على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، و{أَفَاء} على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت {مَا} شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصولة فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فإن كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بيانًا لما يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الأخبار أنها نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} إلخ فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى.
وقال الضحاك: كانت له صلى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة أعطاهم لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر الأولين ولم يذكر الحرث، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفًا لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم، ومعني {مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب:
ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم ** إليك ولولا أنت لم توجف الركب

وقال ابن هشام: {أَوْجَفْتُمْ} حركتم وأتعبتم في السير، وأنشد قول تميم بن مقبل:
مذ أويد بالبيض الحديث صقالها ** عن الركب أحيانًا إذا الركب أوجفوا

والمآل واحد، و{مِنْ} في قوله تعالى: {مِنْ خَيْلٍ} زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كؤنه قيل فما أوجفتم عليه فردًا من أفراد الخيل أصلا {وَلاَ رِكَابٍ} ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح: راكب لمن كان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال: فارس ونحوه، وإن كان ذلك عامًا لغيره وضعا.
وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بن النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان على حمار أو على جمل كما تقدم لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدًّا منها، وكان المراد إن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم، ولهذا لم يعط صلى الله عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل: {ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء} أي ولكن سنته عز وجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطًا خاصًا، وقد سلط رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء تسليطًا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، ويكون أمرها مفوضًا إليه صلى الله عليه وسلم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها، وقيل: الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار، والواقع من القتال شيء لا يعتد به.