فصل: من فوائد عبد الكريم الخطيب في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد عبد الكريم الخطيب في الآية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية (282).
حرّم اللّه سبحانه القرض بالرّبا، ورغّب في القرض الحسن، المراد به وجه اللّه، وفك ضائقة ذوى الحاجة، فذلك عمل مبرور يجزى اللّه عليه الجزاء الحسن.
ولأن عملية القرض عملية إنسانية، تنبع من عاطفة كريمة رحيمة، فقد حرص الإسلام على أن يثبّت دعائمها، وأن يحرسها من الآفات التي نشوّه معالمها، وتفسد الجوّ الذي تتنفس فيه.
ففى النفوس ضعف، وفى القلوب مرض، وفى الناس نكران للمعروف، وجحود للإحسان.. وقد تتوارد هذه الآفات جميعها على عملية القرض، فتجعله مصدر عداوة وبغضاء، بعد أن كان باب تواصل وتراحم وتوادّ.. فقد يجحد المدين أصل الدّين، أو يجحد بعضه، أو يقع سهو أو نسيان في أصل الدين.. عند كل من الدائن والمدين.. وكل هذا يوجد شقاقا، ويوقع عداوة! لهذا أمر الإسلام على وجه الإرشاد والنصح أن يكتب الدّين، وأن يشهد عليه.. فقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فكما تعرف قيمة الدين، كذلك ينبغى أن يعرف الأجل الذي يؤدّى فيه إلى صاحبه، إذ أن تجهيل الوقت الذي يردّ فيه الدين، وتركه مفتوحا لتقدير المدين- يفتح بابا واسعا للماطلة والتسويف، مما يدعو إلى المشاحنة والعداوة، في أمر ينبغى أن يصان عما يدعو إلى المشاحنة والعداوة، وأن يخلص للبر والإحسان! وقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي ليقم بين الدائن والمدين من يكتب لهما الدين وأجله، وليشهد عليه.. وذلك إذا لم يكن الدائن والمدين معا ممن يحسنون القراءة والكتابة، فإذا كان أحدهما يحسنهما أو كانا معا لا يحسنانهما فليقم بينهما كاتب عدل، يكون منهما بمنزلة الحكم.
وهو أمر موجه إلى من يحسنون الكتابة أن يقوموا بهذه المهمة إذا دعوا إليها.. والأمر لا يكون إلا حضوريا، يخاطب به من يراد منه الأمر، وقد وجّه الأمر هنا إلى غائب، وذلك أنه لا غائب عن علم اللّه وقدرته، فكل غائب هنا حاضر في علم اللّه.. فكل كاتب موجود أو سيوجد، ماثل بين يدى اللّه، ومخاطب بهذا الأمر.
وقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ} هو نهى لمن يعرف الكتابة أن يمتنع عن كتابة الدين إذا دعى إلى كتابته، فقد أنعم اللّه عليه بأن علّمه ما لم يكن يعلم، فلينفق من هذا الرزق الذي رزقه اللّه إياه، في سبيل الخير، فذلك من زكاة هذه النعمة.
وكما أن الأمر لا يتجه إلى غائب، كذلك النهى لا يكون لغير حاضر.
وكما قلنا، فإنه لا غائب في علم اللّه، فاللّه سبحانه وتعالى يأمر وينهى الحاضرين والغائبين.. في نظرنا، والجميع حاضر بين يدى اللّه، واقع تحت علمه.
قوله تعالى: {فَلْيَكْتُبْ} أمر آخر، بالكتابة، يتوجه إلى من يحسنها، ويؤكد الواجب المدعوّ إليه في تلك الحال، فإن تخلّى عنه كان ذلك منه عصيانا عن عمد، وتحدّ صريح لأمر اللّه، الذي بلّغه في أبلغ بيان وآكده.. بالأمر به، ثم بالنهى عن مخالفته، ثم بالأمر به مرة أخرى..
وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، هذا بيان لحق المدين في توثيق الدين.. فبعد أن دعا اللّه سبحانه وتعالى كلّا من الدائن والمدين أن يكتبوا الدين، ثم دعا إليهما من يكتب لهما- أمر المدين أن يملل أي يملى على الكاتب المال الذي استدانه، والأجل المتفق على أدائه فيه، ليكون ذلك بإقراره، الذي يتعلق بذمته، وذلك بحضور الدائن، ومصادقته على ما يمليه المدين، أو يستمليه منه الكاتب.
وقوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} هو أمر توجيهي للمدين بأن يتقى اللّه ربّه في هذا المال الذي صار وديعة في يديه، وأمانة في ذمته، إلى أن يؤديه، كما أخذه، محمولا إلى الدائن بيد الشكر وعرفان الجميل، وألا يبخس من هذا المال شيئا، إذ ليس ذلك من صنيع الكرام إلى من أكرمهم وأحسن إليهم، وذكر الاسم الكريم {ربّه} بعد ذكر لفظ الجلالة {اللّه} تذكير للمدين بربوبية اللّه له بعد تذكيره بألوهيته، فيستحضر بذلك عظمة اللّه وجلاله كما يذكر نعمه وآلاءه، ويذكر مع هذا أن من نعم اللّه على المدين أن يسر له أمره العسر، وفرج كربه على يد عبد من عباده، هو الدائن، وتلك نعمة من نعم اللّه، يجب على المدين أن يرعاها، وأن يحرص على شكرها، بأدائها إلى أهلها، في سماحة ويسر وشكر.
قوله تعالى: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [282] أي فإن عرض للمدين ما يمنعه من أن يتولّى بنفسه إملاء الدين والإقرار به، بأن كان سفيها محجورا عليه، أو صغيرا، أو أبكم أو أصم، أو نحو هذا مما ينقص من أهليته وقدرته، فليتولّ ذلك عنه وليّه، أو وصيّه، فيستدين له، ويقرّ بالدين الذي استدانه، متوخيا في ذلك العدل، فلا يقر بأكثر أو أقل مما استدانه.
قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى} [282] أي فإذا كتب الدين بحضور المتداينين، وأقر المدين أو وليه بما كتب الكاتب، فليشهد على ذلك شاهدين عدلين من الرجال، أو رجل وامرأتان.
وفى قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} إشارة إلى تحيّر الشاهدين، والتماس الصفات الطيبة فيهما، فليس كل من حضر مجلس العقد كان صالحا للشهادة، قادرا على تحملها، بل يجب أن يكون ذلك بعد طلب، وبحث، فقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا} أي اطلبوا شاهدين، وفى قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} أي ممن رأيتم فيهما، الاستقامة والسلامة، من بين أهل الاستقامة والسلامة.
وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى} معدول به عن أن يقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى} حيث يبدو معناهما واحدا، وهو أنه إذا ضلّت إحدى المرأتين عن الحقيقة التي شهدت عليها، ذكرتها الأخرى بهذه الحقيقة، وأعادتها إلى الصواب.
واللفظ القرآنى- في ظاهره- فيه إطناب وتكرار، ولا يكون ذلك إلا لمعنى زائد، وإلا لغرض مراد، لا يحققه غير هذا اللفظ القرآنى على صورته تلك.. فما ذا هناك؟
لم يعرض القرآن الكريم للرجلين، إذا ضل أحدهما وأنكر ما شهد عليه، كما لم يعرض للرجل مع المرأتين.. إذا ضل عما شهد عليه. وإنما عرض للمرأتين فقط، وما قد يقع من إحداهما.. فما وجه هذا؟
نقول واللّه أعلم: إن الشهادة أمانة تحمّلها الشاهد، وقبلها طائعا مختارا، حسبة لوجه اللّه.. فإذا غيّر الشاهد وبدل فيما شهد عليه، فليس لأحد عليه من سبيل، وحسابه عند ربّه! سواء أكان الشاهد رجلا أو امرأة.
ولكن لما كانت المرأة أقرب إلى السهو والنسيان من الرجل بسبب ما يعرض لها من أحوال جسدية، من حمل وولادة، ومن هزّات عاطفية، في قيامها على شئون صغارها وما يعرض لهم- لما كانت المرأة على تلك الصفة هنا فإن استشهادها لم يكن إلا لضرورة، وذلك حين لم يكن ثمة أكثر من رجل واحد يصلح للشهادة! وهنا تقوم المرأتان مقام الرجل الآخر المطلوب للشهادة.
ولما كان الضلال عن طريق الحق في جانب المرأتين ليس مقصورا على إحداهما دون الأخرى، بل هو قدر مشترك بينهما، فقد تذكر إحداهما بعض ما شهدت عليه وتنسى بعضا، كأن تذكر أن الدين قدره كذا وتنسى الأجل المضروب له، أو تذكر أين كان مجلس العقد وتنسى زمانه، أو يختلط عليها الأمر في من هو الدائن أو المدين.. على حين تذكر الأخرى ما نسيته الأولى، وتنسى ما تذكره صاحبتها.. وهكذا تكمّل إحداهما الأخرى، فيأتيان بالشهادة على وجهها الصحيح، أو على ما هو أقرب إلى الصحيح! فالمراد بالضلال هنا الحيدة عن الواقع، بسبب سهو أو نسيان، كما يضلّ السائر طريقه إلى الغاية التي يقصدها.
وقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} [282] أمر موجه إلى الشهود بأداء الشهادة إذا ما دعوا إلى أدائها عند الحاجة إلى شهادتهم، وبهذا يتحقق الغرض المقصود من توثيق الدين، والإشهاد عليه.
وفى التعبير عن الشهود بلفظ {الشهداء} الدال على علو القدر وشرف المنزلة- احتفاء بالشهادة وتكريم عظيم للشاهد، إذا كان أهلا لحمل الأمانة، وموضع ثقة بين الناس، حيث ائتمنوه، ورضوا به حكم عدل بينهما، ففى كلمته التي يشهد بها مقطع الحق.
وقوله تعالى: {وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا} [282].
هو تحذير من التهاون في توثيق الدين أيّا كان قدره، فقد يستخف بعض الناس بشأن الدين، حين يكون قليلا، فلا يكتبه، ولا يحدد له أجلا، وهذا من شأنه أن يفتح بابا للخلاف، ثم الشقاق والعداوة.
وكتابة الدين أيّا كان قدره هو العمل المبرور عند اللّه، لأنه قائم على العدل والإحسان، ولأنه هو الذي يضبط الشهادة ويقيمها على وجهها الصحيح، إذا اختلف الشهداء فيها، ولأنه من جهة ثالثة يبعد الريب والشبهات، حيث يرجع المتداينين إلى ما كتب، وضبط.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} [282] استثناء من الحكم العام المأمور به في كتابة الدين.
ففى عملية البيع والشراء، حيث تكون البضاعة حاضرة، والثمن حاضرا معجلا، وحيث تسلّم البضاعة ويقبض الثمن في مجلس البيع- في هذه العملية لا تكون الكتابة ضرورية، إذ لا غناء لها، ولا معوّل عليها بعد أن يتم تسليم البضاعة وقبض الثمن.
وقوله تعالى: {تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ} إشارة إلى فورية التسليم والقبض، وتبادل البضاعة وثمنها بين البائع والمشترى.
وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} أمر توجيهى بأن يكون البيع والشراء بحضور شاهدين، ذلك أنه إذا لم يكن للكتابة أثر في عمليه البيع الحاضر، فإن للشهود أثرهم في حسم ما قد يقع بين البائع والمشترى من خلاف، في مجلس البيع. كأن يختلفا في الشيء المباع، كمية، أو عددا، ونحو هذا، أو أن يختلفا في الثمن الذي تراضى به كل منهما، فيكون للشاهدين الكلمة الحاسمة في هذا الخلاف.
وقوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [282] حماية للكاتب، وللشاهدين من أن يلحقهما أذّى في هذا العمل الذي أدّياه حسبة لوجه اللّه.
فالكاتب والشاهد في العقود المبرمة بين المتعاقدين يؤديان عملا إنسانيا، حسبة لوجه اللّه، ومن الظلم أن يمسّهما سوء أو ينالهما أذى من أجل هذا العمل الذي يقومان به، وإلّا زهد الناس في هذا العمل المبرور، إذا لم تيسر سبله، ولم يمط عنه كل أذى.
لهذا جاء قول اللّه تعالى: {وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} حماية للإحسان وللمحسنين من أن يكدر صفو الإحسان، وأن يساء إلى أهله بأى لون من ألوان الأذى المادىّ أو الأدبىّ.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} تحذير للدائنين والمدينين، والبائعين والمشترين، ولكل طرف من الطرفين المتعاقدين في أية عملية يضبطها عقد ويشهد عليها شهود- تحذير لهؤلاء جميعا من أن ينال الكاتب أو الشاهد أذى منهم، فإن فعلوا كان ذلك فسقا منهم، وخروجا على سنة العدل والإحسان، وتعديا على حدود اللّه.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [282] هذا أمر عام بتقوى اللّه، ومراقبته، والوفاء بأوامره ونواهيه على الوجه الأتم الأكمل.. وتقوى اللّه مطلوبة هنا فيما بيّنه اللّه تعالى من أحكام، وأوضحه من معالم، ورسمه من حدود في عملية الدين، وفى البيع والشراء، فإنه إذا كانت تقوى اللّه بمحضر من قلوب المتعاملين هنا، استقام أمرهم، وسلم لهم دينهم ودنياهم جميعا. اهـ.