فصل: من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي وُجُوهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمَا قَبْلَهُمَا صَفْوَةَ مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مُوَضِّحًا وَنَذْكُرُ صَفْوَةَ مَا قَالَهُ كَذَلِكَ: الْكَلَامُ فِي الْأَمْوَالِ بَدَأَ بِالتَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَاتِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَذَلِكَ مَحْضُ الرَّحْمَةِ، وَثَنَّى بِالنَّهْيِ عَنِ الرِّبَا الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْقَسَاوَةِ ثُمَّ جَاءَ بِأَحْكَامِ الدِّينِ وَالتِّجَارَةِ وَالرَّهْنِ أَقُولُ: وَهِيَ مَحْضُ الْعَدَالَةِ فَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ بِبَذْلِ الْمَالِ حَيْثُ يَنْبَغِي الْبَذْلُ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ، وَبِتَرْكِهِ حَيْثُ يَنْبَغِي التَّرْكُ وَهُوَ الرِّبَا، وَبِتَأْخِيرِهِ حَيْثُ يَنْبَغِي التَّأْخِيرُ وَهُوَ إِنْظَارُ الْمُعْسِرِ، وَبِحِفْظِهِ حَيْثُ يَنْبَغِي الْحِفْظُ وَهُوَ كِتَابَةُ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ وَأَخْذِ الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرِ الِاسْتِيثَاقُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ يَضِيعُ مَالُهُ بِإِهْمَالِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا عِنْدَ النَّاسِ وَلَا مَأْجُورًا عِنْدَ اللهِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ الرِّضْوَانَ فِي الْمَغْبُونِ بِالْبَيْعِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمَّا كَانَتْ سُلْطَةُ صَاحِبِ الرِّبَا قَدْ زَالَتْ بِتَحْرِيمِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا رَأْسُ الْمَالِ وَقَدْ أُمِرَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ فِيهِ، وَكَانَ لابد لِحِفْظِهِ مِنْ كِتَابَتِهِ إِذْ رُبَّمَا يَخْشَى ضَيَاعَهُ بِالْإِنْظَارِ إِلَى الْأَجَلِ، جَاءَ بَعْدَ أَحْكَامِ الرِّبَا بِأَحْكَامِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ- وَلَهُ الْحَقُّ-: إِنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ طَلَبُ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ ثُمَّ حُكْمُ الرِّبَا الَّذِي يُنَاقِضُ الصَّدَقَةَ ثُمَّ جَاءَ هُنَا بِمَا يَحْفَظُ الْمَالَ الْحَلَالَ، لِأَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ، وَبِتَرْكِ الرِّبَا لابد لَهُ مِنْ كَسْبٍ يُنَمِّي مَالَهُ وَيَحْفَظُهُ مِنَ الضَّيَاعِ لِيَتَسَنَّى لَهُ الْقِيَامُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا يُضْطَرُّ بِالْفَاقَةِ إِلَى الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ فِي دِينِ اللهِ، وَلَا مُبْغَضًا عِنْدَهُ تَعَالَى عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ كَيْفَ وَقَدْ شَرَعَ لَنَا الْكَسْبَ الْحَلَالَ، وَهَدَانَا إِلَى حِفْظِ الْمَالِ وَعَدَمِ تَضْيِيعِهِ، وَإِلَى اخْتِيَارِ الطُّرُقِ النَّافِعَةِ فِي إِنْفَاقِهِ بِأَنْ نَسْتَعْمِلَ عُقُولَنَا فِي تَعَرُّفِهَا، وَنُوَجِّهَ إِرَادَتَنَا إِلَى الْعَمَلِ بِخَيْرِ مَا نَعْرِفُهُ مِنْهَا، فَفِي آيَةِ الدَّيْنِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ- احْتِرَاسٌ أَوِ اسْتِدْرَاكٌ مُزِيلٌ مَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الْمَالِ وَحِفْظَهُ مَذْمُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ بَعْضِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّا لَا نَأْمُرُكُمْ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ وَإِهْمَالِهِ، وَلَا بِتَرْكِ اسْتِثْمَارِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ، إِنَّمَا نَأْمُرُكُمْ بِأَنْ تَكْسِبُوهُ مِنْ طُرُقِ الْحِلِّ، وَتُنْفِقُوا مِنْهُ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [8:4]، أَيْ تَقُومُ وَتَثْبُتُ بِهَا مَنَافِعُكُمْ وَمَصَالِحُكُمْ. وَحَدِيثُ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَبْدًا لِلْمَالِ، يَبْخَلُ بِهِ وَيَجْمَعُهُ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ الْحَدِيثَ، وَلَوْلَا أَنَّ إِزَالَةَ هَذَا الْوَهْمِ مَقْصُودَةٌ لَمَا جَاءَتْ آيَةُ الدَّيْنِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ مَعَ مَا يُعْهَدُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيجَازِ لاسيما فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَقَدْ عَدَّ الْقَفَّالُ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ فِي الْآيَةِ فَبَلَغَتْ تِسْعَةً. أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَمْرًا وَنَهْيًا.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا آخَرَ لِلِاتِّصَالِ فِي النَّظْمِ عَزَاهُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُدَايَنَةِ السَّلَمُ، فَاللهُ سبحانه وتعالى لَمَّا مَنَعَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَذِنَ فِي السَّلَمِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الرِّبَا حَاصِلَةٌ فِي السَّلَمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا لَذَّةَ وَلَا مَنْفَعَةَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالطَّرِيقِ الْحَرَامِ إِلَّا وَضَعَ اللهُ سبحانه وتعالى لِتَحْصِيلِ مِثْلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ طَرِيقًا حَلَالًا وَسَبِيلًا مَشْرُوعًا. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّبَا الْقَطْعِيِّ الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ السَّلَمِ أَنَّ الرِّبْحَ فِي السَّلَمِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً كَرِبَا النَّسِيئَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا مَعَ إِبَاحَةِ السَّلَمِ فَائِدَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِي أُمُورِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَعَايِشِ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ، وَإِذْ قَدْ فَهِمْتَ وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا فَهَاكَ تَفْسِيرَهُمَا وَفِيهِمَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ:
[1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ تَدَايَنْتُمْ} دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَى تَعَامَلْتُمْ بِالدَّيْنِ وَبِمَعْنَى تَجَازَيْتُمْ، وَلَمَّا قَالَ بِدَيْنٍ؛ تَعَيَّنَ الْمَعْنَى بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ: الْمَالُ الَّذِي يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ، لَا الْمَصْدَرُ. وَقَدْ حَمَلَ الْمُدَايَنَةَ بَعْضُهُمْ عَلَى السَّلَفِ السَّلَمِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّهُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْقَرْضِ وَضَعَّفَهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَجَلُ، وَمَا فِي الْآيَةِ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ الْأَجَلُ. وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الضَّعِيفُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الدَّيْنَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْقَرْضَ وَالسَّلَمَ وَبَيْعَ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْأَجَلُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِإِنْهَاءِ شَيْءٍ وَالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنُ بِالتَّسْمِيَةِ كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ مَثَلًا. بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ إِجْمَالًا بَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا وَمَنْ يَتَوَلَّاهَا فَقَالَ: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أَيْ لِيَكُنْ فِيكُمْ كَاتِبٌ لِلدُّيُونِ عَادِلٌ فِي كِتَابَتِهِ يُسَاوِي بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِهِمَا فَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ مَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يَمِيلُ عَنِ الْآخَرِ فَيَبْخَسُهُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} أَمْرٌ عَامٌّ لِلْمُتَعَامِلِينَ، وَفِيهِمُ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْكَاتِبِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِشُرُوطِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَحْفَظُ الْحُقُوقَ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ الْجَاهِلَ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الشُّرُوطِ أَوْ يَزِيدُ فِيهَا أَوْ يُبْهِمُ فِي الْكِتَابَةِ بِجَهْلِهِ فَيَلْتَبِسُ بِذَلِكَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَضِيعُ حَقُّ أَحَدِ الْمُتَعَامِلِينَ، كَمَا يَضِيعُ بِتَعَمُّدِ التَّرْكِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْإِبْهَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَادِلًا، وَافَقَهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ. أَقُولُ: وَقَدْ يُغْنِي عَنْ أَخْذِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ- قَوْلُهُ: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ} فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللهِ إِيَّاهُ لَيْسَ خَاصًّا بِصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، بَلْ هُوَ يَعُمُّ مَا وَفَّقَهُ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَالْفِقَهِ فِيهَا فَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ ضَمَانًا تَامًّا إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَالِمًا بِمَا يَجِبُ عِلْمُهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالشُّرُوطِ الْمَرْعِيَّةِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَكَانَ عَادِلًا مُسْتَقِيمًا لَا غَرَضَ لَهُ إِلَّا بَيَانُ الْحَقِّ، كَمَا هُوَ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ وَلَا مُرَاعَاةٍ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ صِفَةَ الْعَدَالَةِ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدْلًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَنْبَغِي لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تَهْدِيهِ إِلَى ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ عَالِمًا غَيْرَ عَدْلٍ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ لَا يَهْدِيهِ إِلَى الْعَدَالَةِ. قَلَّمَا يَقَعُ فَسَادٌ مِنْ عَدْلٍ نَاقِصِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ الْفَسَادِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَاقِدِينَ لِمَلِكَةِ الْعَدَالَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَاتِبَ الْعُقُودِ وَالْوَثَائِقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْكَمَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَخُطُّ بِالْقَلَمِ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَهْلُهُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَاضِيَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. وَقَالَ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي وَصْفِ الْكَاتِبِ إِرْشَادٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ إِلَى نِظَامٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَاتِبُ الدُّيُونِ عَادِلًا عَارِفًا بِالْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ فِيهَا حَتَّى لَا يَقَعَ التَّنَازُعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْتُبُهُ، وَإِرْشَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ فِيهِمْ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْكُتَّابِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِإِيجَادِ الْمُقْتَدِرِينَ عَلَى كِتَابَةِ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ: الْعُقُودَ الرَّسْمِيَّةَ، وَيَتَحَتَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ. قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْكَاتِبَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ- وَإِنْ كَانَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ- لِئَلَّا يُغَالِطَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يَغُشَّهُ وَكَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ حَتْمٌ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ، فَإِنَّ لِلْعُقُودِ الرَّسْمِيَّةِ كُتَّابًا يَخْتَصُّونَ بِهَا. أَقُولُ: وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ النَّاسِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا دُعِيَ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِبَاءِ عَنِ الْكِتَابَةِ، بَلْ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا صَرِيحًا فَقَالَ: فَلْيَكْتُبْ وَهَذَا ظَاهِرٌ لاسيما عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مَنْ أَهْلِ الْأُصُولُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ غَرِيبٌ فِي نَظَرِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا.
[4] {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، أَيْ وَلْيُلْقِ عَلَى الْكَاتِبِ مَا يَكْتُبُهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ، لِيَكُونَ إِمْلَالُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ تُبَيِّنُهَا الْكِتَابَةُ وَتَحْفَظُهَا. وَالْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ وَاحِدٌ، يُقَالُ: أَمَلَّ عَلَى الْكَاتِبِ وَأَمْلَى عَلَيْهِ إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ اللَّامُ. وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَالِهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ كَامِلًا وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا، أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا مَا، وَإِنْ قَلَّ. أَمَرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِتَقْوَى اللهِ فِي إِمْلَالِهِ عَلَى الْكَاتِبِ وَذَكَّرَهُ بِأَنَّ اللهَ رَبَّهُ الَّذِي غَذَّاهُ بِنِعَمِهِ وَسَخَّرَ لَهُ قَلْبَ الدَّائِنِ فَبَذَلَ لَهُ مَالَهُ لِيَحْمِلَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِجَلَالِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْهِيبِ، وَبِجَمَالِ نِعَمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْغِيبِ عَلَى شُكْرِ اللهِ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَشُكْرِ الدَّائِنِ بِالِاعْتِرَافِ بِحَقِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ يَبْخَسَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَهٌ لِلطَّمَعِ فَرُبَّمَا يَسْتَخِفُّهُ طَمَعُهُ إِلَى نَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ أَوِ الْإِبْهَامِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يُمْلِي عَلَى الْكَاتِبِ تَمْهِيدًا لِلْمُحَاوَلَةِ وَالْمُمَاطَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا التَّأْكِيدُ بِالنَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ لِمُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ.
[5] {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ذِكْرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مُظْهَرًا فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ كَمَا قَالُوا، وَفَسَّرَ السَّفِيهَ بِضَعِيفِ الرَّأْيِ، أَيْ مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَاجِزُ الْأَحْمَقُ. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ بِالْإِمْلَالِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: هُوَ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لِدِينِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَالضَّعِيفُ: الصَّبِيُّ وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ. وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمْلَالَ: هُوَ الْجَاهِلُ وَالْأَلْكَنُ وَالْأَخْرَسُ. وَوَلِيُّ الْإِنْسَانِ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ وَيَقُومُ بِهَا عَنْهُ، وَقَدِ اكْتَفَى فِي أَمْرِ الْوَلِيِّ بِالْعَدْلِ كَالْكَاتِبِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ وَلَيُّهُ بِمِثْلِ مَا أُمِرَ وَنُهِيَ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا نَفْسِهِ.
[6] {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ مِمَّنْ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَوْ أَشْهِدُوهَا عَلَى ذَلِكَ، فَالشَّهِيدُ مَنْ شَهِدَ الشَّيْءَ وَحَضَرَهُ بِإِمْعَانٍ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَاسْتَشْهَدَهُ سَأَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ؛ أَيْ أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَيُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى الْأَمِينِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَلَعَلَّ الْوَصْفَ مُنْتَزَعٌ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَكِنْ حَمَلَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى الشَّهِيدِ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ مَعَ الصِّيغَةِ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْكَمَالِ مُعْتَبَرٌ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ، كَمَا اعْتُبِرَ مِثْلُهُ فِي الْكَاتِبِ وَالْوَلِيِّ، وَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَعْنَى الشَّهِيدِ يَرُدُّ قَوْلَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهِيدَيْنِ مَنْ سَيَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ بِذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رِجَالِكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَشْهِدُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَكَوْنُ اسْتِشْهَادِ غَيْرِهِمْ لَيْسَ مَشْرُوعًا لَهُمْ أَوْ لَيْسَ جَائِزًا عَمَلًا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ لَا يُعَدُّ نَصًّا عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ إِذَا هُوَ شَهِدَ لَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى شُرُوطٍ فِي الشَّهَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ؛ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [65:2] وَجَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [5:106] خَاصًّا بِمِثْلِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَأَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْئًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ حَقَّقَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَكُلُّ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ بَيَّنَهُ، كَالْقَرَائِنِ الْقَطْعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَدْخُلَ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَيِّنَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللُّغَةِ إِذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ بِهَا الْحَقُّ.
[7، 8] {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} أَيْ مَنْ تَسْتَشْهِدُونَهُمَا رَجُلَيْنِ وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ الضَّمِيرَ لِلشَّاهِدَيْنِ بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَسْتَشْهِدَانِ أَوْ فَلْيَسْتَشْهِدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَتَقْدِيرُنَا أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ الْجُمْهُورِ الْإِشْهَادَ، وَإِنَّمَا وَافَقُوا اصْطِلَاحَ الْفُقَهَاءِ وَاتَّبَعْنَا نَظْمَ الْقُرْآنِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ قَالُوا: أَيْ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُمْ وَعَدَالَتَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ بِهَذَا الْوَصْفِ لِضَعْفِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَقِلَّةِ ثِقَةِ النَّاسِ بِهَا؛ وَلِذَلِكَ وَكَّلَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى رِضَا الْمُسْتَشْهِدِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ جَعْلِ الْمَرْأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِقَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أَيْ حَذَّرَ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا أَيْ تُخْطِئُ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا وَقِلَّةِ عِنَايَتِهَا فَتُذَكِّرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْأُخْرَى بِمَا كَانَ، فَتَكُونُ شَهَادَتُهَا مُتَمِّمَةً لِشَهَادَتِهَا؛ أَيْ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ وَالضَّلَالِ، أَيِ الضَّيَاعِ وَعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا كَانَ وَقَعَ بِالضَّبْطِ فَاحْتِيجَ إِلَى إِقَامَةِ الثِّنَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُمَا بِتَذْكِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْأُخْرَى تَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا أَعَادَ لَفْظَ إِحْدَاهُمَا مُظْهَرًا وَلَيْسَ الْمَعْنَى لِئَلَّا تَنْسَى وَاحِدَةً فَتُذِكِّرَهَا الثَّانِيَةُ، كَمَا فَهِمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَغْرِبِيُّ مَعْنَاهُ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ عَنْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ فَتُذَكِّرَهَا بِهَا الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى، فَجَعَلَ إِحْدَى الْأُولَى لِلشَّهَادَةِ وَالثَّانِيَةَ لِلْمَرْأَةِ، وَأَيَّدَهُ الطَّبَرْسِيُّ بِأَنَّ نِسْيَانَ الشَّهَادَةِ لَا يُسَمَّى ضَلَالًا؛ لِأَنَّ الضَّلَالَ مَعْنَاهُ الضَّيَاعُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَضِيعُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَلُّوا عَنَّا} [40: 74] وَمِثْلُهُ: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [20: 52] وَكَأَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ أَقَرَّهُ عِنْدَ مَا ذَكَرَهُ. وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَا فِي مَنِ التَّفْكِيكِ، وَبِأَنَّ تَفْسِيرَ الضَّلَالِ بِالنِّسْيَانِ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ لُغَةً. أَقُولُ: وَمَا ذَكَرْتُهُ يُغْنِي عَنْ هَذَا. وَذَكَرَ الألوسي فِي وَجْهِ الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَهَا إِلَى قَوْلِهِ: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أَنَّهُ رَأَى فِي طِرَازِ الْمَجَالِسِ أَنَّ الْخَفَاجِيَّ سَأَلَ قَاضِيَ للْقُضَاةِ شِهَابَ الدِّينِ الْغَزْنَوِيَّ عَنْ سِرِّ تَكْرَارِ إِحْدَى مُعَرِّضًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمَغْرِبِيُّ فَقَالَ:
يَا رَأْسَ أَهْلِ الْعُلُومِ السَّادَةِ الْبَرَرَهْ ** وَمَنْ نَدَاهُ عَلَى كُلِّ الْوَرَى نَشَرَهْ

مَا سِرُّ تَكْرَارِ إِحْدَى دُونَ تُذَكِّرَهَا ** فِي آيَةٍ لَذَوِي الْإِشْهَادِ فِي الْبَقَرَهْ

وَظَاهِرُ الْحَالِ إِيجَازُ الضَّمِيرِ عَلَى ** تَكْرَارِ إِحْدَاهُمَا لَوْ أَنَّهُ ذَكَرَهْ

وَحَمْلُ الِاحْدَى عَلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ فِي ** أُولَاهُمَا لَيْسَ مَرْضِيًّا لَدَى الْمَهَرَهْ

فَغُصْ بِفِكْرِكَ لِاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرَةٍ ** مِنْ بَحْرِ عِلْمِكَ ثُمَّ ابْعَثْ لَنَا دُرَرَهْ

فَأَجَابَ الْقَاضِي:
يَا مَنْ فَوَائِدُهُ بِالْعِلْمِ مُنْتَشِرَهْ ** وَمَنْ فَضَائِلُهُ بِالْكَوْنِ مُشْتَهِرَهْ

يَا مَنْ تَفَرَّدَ فِي كَشْفِ الْعُلُومِ ** لَقَدْ وَافَى سُؤَالُكَ وَالْأَسْرَارُ مُسْتَتِرَهْ

تَضِلُّ إِحْدَاهُمَا فَالْقَوْلُ مُحْتَمِلٌ ** كِلَيْهِمَا فَهْيَ لِلْإِظْهَارِ مُفْتَقِرَهْ

وَلَوْ أَتَى بِضَمِيرٍ كَانَ مُقْتَضِيًا ** تَعْيِينَ وَاحِدَةٍ لِلْحُكْمِ مُعْتَبَرَهْ

وَمَنْ رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ الْحَلَّ فَهْوَ كَمَا ** أَشَرْتُمُ لَيْسَ مَرْضِيًّا لِمَنْ سَبَرَهْ

هَذَا الَّذِي سَمَحَ الذِّهْنُ الْكَلِيلُ بِهِ ** وَاللهُ أَعْلَمُ فِي الْفَحْوَى بِمَا ذَكَرَهْ

وَقَدْ عَلَّلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ النِّسَاءِ عُرْضَةً لِلضَّلَالِ أَوِ النِّسْيَانِ بِأَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ، وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ الرُّطُوبَةِ فِي أَمْزِجَتِهِنَّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا وَجَعَلُوا سَبَبَهُ الْمِزَاجَ، فَقَالُوا: إِنَّ مِزَاجَ الْمَرْأَةِ يَعْتَرِيهِ الْبَرْدُ فَيَتْبَعُهُ النِّسْيَانُ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٌ، وَالسَّبَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا الِاشْتِغَالُ بِالْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلِذَلِكَ تَكُونُ ذَاكِرَتُهَا فِيهَا ضَعِيفَةً وَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي هِيَ شُغْلُهَا، فَإِنَّهَا فِيهَا أَقْوَى ذَاكِرَةً مِنَ الرَّجُلِ، يَعْنِي أَنَّ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا أَنْ يَقْوَى تَذْكُّرُهُمْ لِلْأُمُورِ الَّتِي تَهُمُّهُمْ وَيَكْثُرُ اشْتِغَالُهُمْ بِهَا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اشْتِغَالُ بَعْضِ نِسَاءِ الْأَجَانِبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ إِنَّمَا تُنَاطُ بِالْأَكْثَرِ فِي الْأَشْيَاءِ وَبِالْأَصْلِ فِيهَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ شَهَادَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا تَرَكَتْ إِحْدَاهُمَا شَيْئًا مِنَ الشَّهَادَةِ، كَأَنْ نَسِيَتْهُ أَوْ ضَلَّ عَنْهَا تُذَكِّرُهَا الْأُخْرَى وَتُتِمُّ شَهَادَتَهَا، وَلِلْقَاضِي بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ إِحْدَاهُمَا بِحُضُورِ الْأُخْرَى وَيَعْتَدَّ بِجُزْءِ الشَّهَادَةِ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَبِبَاقِيهَا مِنَ الْأُخْرَى، قَالَ: هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَإِنْ كَانَ الْقُضَاةُ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ جَهْلًا مِنْهُمْ، وَأَمَّا الرِّجَالُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ قَصَّرَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ نَسِيَ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُذَكِّرَهُ، وَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةً، يَعْنِي إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ وَحْدَهُ غَيْرَ كَافِيَةٍ لِبَيَانِهِ فَإِنَّهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا وَلَا بِشَهَادَةِ الْآخَرِ وَحْدَهَا وَإِنْ بَيَّنَتْ.
[9] {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْبَيْعِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْقَوْمِ الْكَثِيرِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَالشُّهَدَاءُ عَلَى هَذَا مَجَازٌ وَرُبَّمَا قَوَّاهُ مَا يَأْتِي مِنَ النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوْ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْإِطْلَاقِ الشَّامِلِ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا وَأَدَاءً مُحَرَّمٌ، وَأَنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ بِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ دُعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ يَقُومُ بِهِ.
[10] {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} أَيْ لَا تَمَلُّوا أَوْ تَضْجَرُوا أَوْ لَا تَكْسَلُوا مِنْ كِتَابَةِ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا مُبَيَّنًا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلِهِ الْمُسَمَّى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ يُعْمَلُ بِهَا، وَأَنَّهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شَرْطِهَا، أَقُولُ: وَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ ذِكْرُ الصَّغِيرِ الَّذِي يَتَهَاوَنُ فِيهِ النَّاسُ لِعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِضَيَاعِهِ، وَمَنْ لَا يَحْرِصُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْقَلِيلِ أَنْ يَضِيعَ فَقَلَّمَا يُتْقِنُ حِفْظَ الْكَبِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى عَدَمِ التَّهَاوُنِ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُقُوقِ أَنْ يَذْهَبَ سُدًى، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الِاقْتِصَادِ، وَالْعَمَلُ بِهَا آيَةُ الْكِيَاسَةِ وَالْعَقْلِ، وَكَمْ مِنْ حَرِيصٍ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدَّانَقِ يَجُودُ بِالدَّنَانِيرِ وَالْبَدْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ لَا الْوَاحِدِ مِنْهَا وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْحُكْمِ، وَعِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَعْدَ ذِكْرِهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ لِلْإِشْهَادِ وَقِيلَ: لِلْكِتَابِ؛ أَيِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْسَطَ عِنْدَ اللهِ أَنَّهُ أَعْدَلُ فِي حُكْمِهِ، أَيْ أَحْرَى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْعَامِلِينَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْوَمَ لِلشَّهَادَةِ أَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَطْلُبَ وَثِيقَةَ الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ لِيَتَذَكَّرَ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَقُومَ لِلشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابَةِ حَتْمًا وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمْلَاءِ، فَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا مَعْنَاهُ وَأَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاءِ ارْتِيَابِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِيَاطَ فِي كِتَابَةِ الْحُقُوقِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَتَقْوَى اللهِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْمُتَعَامِلِينَ وَالْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ يَمْنَعُ كُلَّ رِيبَةٍ وَكُلَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِارْتِيَابِ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْعَدَاوَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الرَّيْبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي جِنْسِ الدَّيْنِ وَقَدْرِهِ وَأَجَلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِنَا، وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ ثَالِثَةٌ لِلْكِتَابَةِ تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِالْأَخْذِ بِهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَجَعْلِهَا مُذَكِّرَةً لِلشُّهُودِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا إِذَا اسْتَوْفَيَتْ شُرُوطَهَا.
[11] {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} قَرَأَ عَاصِمٌ تِجَارَةً بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَالْإِعْرَابُ ظَاهِرٌ عَلَى الْحَالَيْنِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ: الْإِشْهَادُ، وَقِيلَ هُمَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، أَوْ إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدَارُ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ بِالتَّعَاطِي بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوِ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ كِتَابَتِهَا وَلَا إِثْمَ؛ إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الِارْتِيَابِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ.
أَقُولُ: وَفِي نَفْيِ الْجُنَاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَهُوَ إِرْشَادٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ ضَبْطِ الْإِنْسَانِ لِمَالِهِ وَإِحْصَائِهِ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَمَالِ الْمَدَنِيِّ وَمِنْ أَسْبَابِ ارْتِقَاءِ أُمُورِ الْكَسْبِ وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا حَتْمًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَقِينَ فِي الْمَدَنِيَّةِ، وَالتَّرْخِيصُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ كِتَابَةِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
[12] {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا التَّبَايُعُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَهُوَ التِّجَارَةُ الْحَاضِرَةُ، وَقِيلَ: مُطْلَقًا. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْكَالِئِ يَسْتَلْزِمُ الدَّيْنَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَالْإِشْهَادُ لَازِمٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمُجَاحِدِينَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْمُجَاحَدَةِ أَنْ تَحْصُلَ عَنْ قَرِيبٍ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِالْإِشْهَادِ لِتَلَافِي مَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنْهَا، وَأَمَّا الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ فَرُبَّمَا يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يَطُولُ زَمَنُهَا لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ بَعِيدًا؛ فَلِهَذَا وَجَبَتْ كِتَابَتُهَا وَشُرِعَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهَا بِالْكِتَابَةِ.
[13] {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} لَفْظُ يُضَارَّ يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَدْ قَرَءُوا بِفَكِّ الْإِدْغَامِ. فَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْأَوَّلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الثَّانِي. وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرًا لَا قِرَاءَةً، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ نَهْيُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ أَنْ يَضُرَّا أَحَدَ الْمُتَعَامِلِينَ بِعَدَمِ الْإِجَابَةِ أَوْ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الثَّانِي نَهْيُ الْمُتَعَامِلِينَ عَنْ ضَرِّ الْكَاتِبِ أَوِ الشَّهِيدِ بِأَنْ يُدْعَيَا إِلَى ذَلِكَ وَهُمَا مَشْغُولَانِ بِمُهِمٍّ لَهُمَا فَيُكَلَّفَانِ تَرْكَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجِيءُ الْكَاتِبَ فَيَقُولُ: اكْتُبْ لِي فَيَعْتَذِرُ بِعُذْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ أَنْ تَكْتُبَ فَيُلْزَمُ بِذَلِكَ وَيُضَارُّ فَنَزَلَتْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا إِلَّا إِذَا كَانَ نُزُولُ هَذَا النَّهْيِ مُتَرَاخِيًا عَنْ نُزُولِ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ وَهُمَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَأَقْوَى مِنْهَا فِي تَأْيِيدِهِ: مَا قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْكَاتِبِ وَالشُّهَدَاءِ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَضَارَّةِ، فَبَقِيَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُتَعَامِلُونَ بِعَدَمِ مَضَارَّةِ الْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ بِإِلْزَامِهِمْ بِتَرْكِ مَنَافِعِهِمْ لِأَجْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ بِتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّهْيِ أَنَّهُ عَنْ مَضَارَّةِ الْمُتَعَامِلِينَ لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ. وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى إِعْطَائِهِمَا أُجْرَةً مَا يَحْمِلَانِ مِنَ الْكُلْفَةِ لَمْ يَكُنْ بِبَعِيدٍ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بيُضَارَّ الْبِنَاءُ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ، وَاسْتُعْمِلَ يُضَارَّ الدَّالُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ضُرَّ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ ضُرٌّ لِنَفْسِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ وَإِنْ تَفْعَلُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنْ إِضْرَارِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ خُرُوجٌ بِكُمْ عَنْ حُدُودِ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى إِلَى مَعْصِيَتِهِ وَأُشِيرَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْفِسْقُ لَا يَكَادُ يَقَعُ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِيمَانِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْمَوْعِظَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُعِينُ النَّفْسَ عَلَى الِامْتِثَالِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيِ اتَّقَوُا اللهَ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ مَا فِيهِ قِيَامُ مَصَالِحِكُمْ وَحِفْظُ أَمْوَالِكُمْ وَتَقْوِيَةُ رَابِطَتِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَوْلَا هِدَايَتُهُ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ سبحانه الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا شَرَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَشْرَعُهُ عَنْ عِلْمٍ مُحِيطٍ بِأَسْبَابِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ لِمَنِ اتَّبَعَ شَرْعَهُ، وَكُرِّرَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ لِكَمَالِ التَّذْكِيرِ وَقُوَّةِ التَّأْثِيرِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: كُرِّرَ لَفْظُ اللهِ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ لِاسْتِقْلَالِهَا، فَإِنَّ الْأُولَى حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ وَعْدٌ بِإِنْعَامِهِ، وَالثَّالِثَةُ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي التَّعْظِيمِ مِنَ الْكِنَايَةِ. وَهَذَا مَبْنَيٌّ عَلَى أَنِ الثَّانِيَةَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ فِي مَعْنَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ أَنَّ التَّقْوَى تَكُونُ سَبَبًا لِلْعِلْمِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ وَمَا يَأْتُونَهُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاضَةِ وَتِلَاوَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ تُثْمِرُ لَهُمُ الْعُلُومَ الْآلِهِيَّةَ وَعِلْمَ النَّفْسِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ بِدُونِ تَعَلُّمٍ. وَهَذَا الزَّعْمُ فَتَحَ لِلْجَاهِلِينَ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ لِبَاسَ الصَّلَاحِ دَعْوَى الْعِلْمِ بِاللهِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَالْعَامَّةُ تُسَلِّمُ لَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَتُصَدِّقُ قَوْلَهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَعْلِيمَهُمْ وَيُسَمُّونَ عِلْمَهُمْ هَذَا بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ. وَيُرَدُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ سِيبَوَيْهِ وَلَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَطْفَ يُعَلِّمُكُمْ عَلَى اتَّقُوا اللهَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جَزَاءً لَهُ وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَلَوْ قَالَ يُعَلِّمْكُمْ بِالْجَزْمِ لَكَانَ مُفِيدًا لَمَا قَالُوهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوِ اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ لَامُ التَّعْلِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الْمُسَبَّبِ سَبَبًا وَالْفَرْعِ أَصْلًا وَالنَّتِيجَةِ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَعْقُولَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي يُثْمِرُ التَّقْوَى، فَلَا تَقْوَى بِلَا عِلْمٍ فَالْعِلْمُ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْمِعْوَلُ. وَبَعْدَ أَنْ أَطَالَ بَعْضَ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الْعِلْمِ فِي الْإِرَادَةِ بِتَوْجِيهِهَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَصَرْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ- وَتِلْكَ هِيَ التَّقْوَى- قَالَ: إِنَّنَا لَا نُنْكِرُ الْعِلْمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ لَدُنِّيًّا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِذَلِكَ الطَّرِيقِ الْجَائِرِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَهْلُ، وَنَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِاللهِ تَعَالَى وَالْعِلْمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَمَلَ بِهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ قَدْ يَصْرِفُ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الْمُخْلِصَ إِلَى اللهِ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ كَالْمُنْفَصِلِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ عَنِ الْعَالَمِ الطَّبِيعِيِّ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ إِشْرَافٌ عَلَى مَا لَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ يَعْنِي مِنْ أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّحَقُّقِ بِبَعْضِ الْمَعَارِفِ الْغَيْبِيَّةِ، فَيَعْلَمُ مِمَّا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ الْآخِرَةِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ نَاظِرٍ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ فِي الْكِتَابِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يَدَّعِيهِ أَعْوَانُ الْجَهْلِ وَأَعْدَاءُ الْعِلْمِ!
وَأَقُولُ: إِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى زَعْمِهِمْ ذَلِكَ بِآيَةٍ أُخْرَى تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ كَتَبَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا بِمَعْنَى مَا قَالُوهُ هُنَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [8: 29] الْآيَةَ وَهُوَ غَلَطٌ. فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَثَرِ الْفُرْقَانَ هُنَا بِالْمَخْرَجِ، فَالشَّرْطِيَّةُ عِنْدَهُ كَالشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [65: 2] وَبَعْضُهُمْ بِالنَّجَاةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالنَّصْرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَمُعْظَمُهَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ وَاقِعَةِ بَدْرٍ، وَكَانُوا فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ كَانَ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَا نُصِرُوا عَلَى قِلَّتِهِمْ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ الَّتِي جَمَعَتْ كَلِمَتَهُمْ وَقَوَّتْ عَزِيمَتَهُمْ. وَالتَّقْوَى تَكُونُ سَبَبَ الْفُرْقَانِ وَالْمَخْرَجِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ وَالْخُذْلَانِ فِي النَّفْسِ وَفِي الْخَارِجِ؛ وَلِذَلِكَ يُفَسَّرُ الْمَخْرَجُ فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ- وَهِيَ فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ- بِمَا لَا يُفَسَّرُ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَهِيَ فِي مَقَامِ الْمُدَافِعَةِ وَالْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَأَهْلِهَا.
هَذَا وَإِنَّ الْفُرْقَانِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الصُّبْحُ الَّذِي يَفْرُقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ فُرْقَانًا؛ لِأَنَّهُ كَالصُّبْحِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا تُعْطِي صَاحِبَهَا نُورًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ دَقَائِقِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَهِيَ تُفِيدُهُ عِلْمًا خَاصًّا لَمْ يَكُنْ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهِ لَوْلَاهَا. وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّلْقِينِ كَالشَّرْعِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَهُوَ مَا لَا تَتَحَقَّقُ التَّقْوَى بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ- فِعْلًا وَتَرْكًا- بِعِلْمٍ، فَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْوَى وَسَبَبُهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحديث: «الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ».
وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهَا وَثَمَرَتُهَا هُوَ مَا تَفْطَنُ لَهُ النَّفْسُ بَعْدُ فَيُفِيدُهَا الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ الْأَوَّلِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ مُجْمَلًا مُبْهَمًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِذَا عُمِلَ بِهِ صَارَ مُفَصَّلًا جَلِيًّا رَاسِخًا تَتَبَيَّنُ بِهِ الدَّقَائِقُ وَالْخَفَايَا. وَبِذَلِكَ تَفْطَنُ نَفْسُ الْعَامِلِ إِلَى مَسَائِلَ أُخْرَى تَطْلُبُهَا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْبَحْثِ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهَا كَمَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: «وَمَنْ تَعَلَّمَ فَعَمِلَ عَلَّمَهُ اللهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ» رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحديث: «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّقْوَى عَمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لابد أَنْ يُؤْخَذَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّلَقِّي، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَزِيدِ فِيهِ وَخُرُوجِهِ مِنْ مَضِيقِ الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ إِلَى فَضَاءِ الْجَلَاءِ وَالتَّفْصِيلِ، فَهِمْتَ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ عَلَى عُمُومِهِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَدْعِيَاءَ التَّصَوُّفِ الْجَاهِلِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَثَرُهُ وَلَا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الْأَخِيرِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى جَمِيعًا، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ مَرْحَلَتَانِ بَعِيدَتَانِ: الْعِلْمُ الَّذِي يُؤْخَذُ بِالتَّلَقِّي وَالتَّقْوَى بِالْعَمَلِ بِهِ. اهـ.