فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال: {ولا يجدون} أي أصلًا {في صدورهم} التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلًا عن أن تنطق ألسنتهم.
ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجري، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة، وكان كل أحد يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال: {حاجة} موقعًا اسم السبب على المسبب {مما أوتوا} أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسدًا ولا غيظًا من باب الأولى، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء.
ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال: {ويؤثرون} عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى: يوقعون الأثرة وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصًا لهم بها لا على أحبائهم مثلًا بل {على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم {كائنًا} من كان ما في أيديهم، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا ظهرت كان القلب أطهر، وأكد ذلك بقوله: {ولو كان} أي كونًا هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب، من خصائص البناء وهي فرجه.
ولما كان التقدير: فمن كان كذلك فهو من الصادقين: عطف عليه قوله: {ومن} ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت، وكان علاج الرذائل صعبًا جدًا، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة، بني للمفعول قوله: {يوق شح نفسه} أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس، وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعًا لما عنده، حريصًا على ما عند غيره حسدًا، قال ابن عمر رضي الله عنه: الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
ولما كان النظر إلى التطهير من سفساف الأخلاق عظيمًا، سبب عنه إفهامًا لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله: {فأولئك}: أي العالو المنزلة {هم} أي خاصة لا غيرهم {المفلحون} أي الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري: وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر، ومن أسرته الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفة معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء.
وشرح الآية أن الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم، فلما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير خطب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: «إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير»، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطتيهم وخرجوا من دياركم، فقال السعدان- رضى الله عنهما ـ: بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا، وفي رواية أنهم قالوا: اقسم فيها هذه خاصة واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت {ويؤثرون على أنفسهم}- الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار»، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جزاكم الله خيرًا يا معشر الأنصار، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي:
جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ** بنا نعلنا في الواطئين فزلت

أبوا أن يملونا ولو أنا أمنا ** تلاقي الذي يلقون منا لملت

فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفاء، وخلان المروءة والوفاء، والكرامة والاصطفاء، ورضى الله عنه- م وعن تابعيهم من الكرام الخلفاء والسادة والحنفاء.
ولما أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار رضي الله عنه م بما هم أهله، التابعين لهم بإحسان ما يوجب لهم الثناء فقال عاطفًا على المهاجرين فيقتضي التشريك معهم، أو على أصل القصة من عطف الجمل: {والذين جاؤوا} أي من أي طائفة كانوا، ولما كان المراد المجيء ولو في زمن يسير، أثبت الجار فقال: {من بعدهم} أي بعد المهاجرين والأنصار وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ثم ذكر الخبر أو الحال على نحو ما مضى في الذي قبله فقال تعالى: {يقولون} أي على سبيل التجديد والاستمرار تصديقًا لإيمانهم بدعائهم لمن سنه لهم: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا.
ولما كان الإنسان وإن اجتهد موضعًا للنقصان قال ملقنًا لنا: {اغفر} أي أوقع الستر على النقائص أعيانها وآثارها {لنا} ولما بدؤوا بأنفسهم، ثنوا بمن كان السبب في إيمانهم فقالوا: {ولإخواننا} أي في الدين فإنه أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم: {الذين سبقونا بالإيمان} ولما لقنهم سبحانه حسن الخلافة لمن مهد لهم ما هم فيه، أتبعه تلقين ما يعاشرون به أعضادهم الذين هم معهم على وجه يعم من قبلهم، فقال معلمًا بأن الأمر كله بيده حثًا على الالتجاء إليه من أخطار النفس التي هي أعدى الأعداء: {ولا تجعل} وأفهم قوله: {في قلوبنا} أن رذائل النفس قل أن تنفك وأنها إن كانت مع صحة القلب أوشك أن لا تؤثر {غلًا} أي ضغنًا وحسدًا وحقدًا وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام {للذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته.
ولما كان هذا دعاء جامعًا للخير، لقنهم ما يجيبهم في لزومه والتخلق به مع ما فيه من التملق للإله والتعريض له بقوة الرجاء فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتعليم ما لمن نكن نعلم، وأكدوا إعلامًا بأنهم يعتقدون ما يقولونه وإن ظهر من أفعالهم ما يقدح في اعتقادهم ولو في بعض الأوقات فقالوا: {إنك رؤوف} أي راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير {رحيم} مكرم غاية الإكرام لمن أردته ولو لم يكن له وصلة، فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن يكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة، فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة- رضى الله عنهم- فليس ممن عنى الله بهذه الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{للفقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ}
اعلم أن هذا بدل من قوله: {وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] كأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا، ثم إنه تعالى وصفهم بأمور: أولها: أنهم فقراء وثانيها: أنهم مهاجرون وثالثها: أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم يعني أن كفار مكة أحوجوهم إلى الخروج فهم الذين أخرجوهم ورابعها: أنهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، والمراد بالفضل ثواب الجنة وبالرضوان قوله: {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] وخامسها: قوله: {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي بأنفسهم وأموالهم وسادسها: قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} يعني أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين ظهر صدقهم في دينهم، وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فقال: هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر يا خليفة رسول الله، والله يشهد على كونهم صادقين، فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم يا خليفة رسول الله، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.
ثم إنه تعالى ذكر الأنصار وأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ للمهاجرين دونهم فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}
والمراد من الدار المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية: والذين تبوءوا المدينة والإيمان من قبلهم فإن قيل: في الآية سؤالان أحدهما: أنه لا يقال: تبوأ الإيمان والثاني: بتقدير أن يقال: ذلك لكن الأنصار ما تبوءوا الإيمان قبل المهاجرين والجواب عن الأول من وجوه أحدها: تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله:
ولقد رأيتك في الوغى ** متقلدًا سيفًا ورمحًا

وثانيها: جعلوا الإيمان مستقرا ووطنًا لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما أنهم لما سألوا سلمان عن نسبه فقال: أنا ابن الإسلام وثالثها: أنه سمى المدينة بالإيمان، لأن فيها ظهر الإيمان وقوي والجواب: عن السؤال الثاني من وجهين الأول: أن الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان والثاني: أنه على تقدير حذف المضاف والتقدير: تبوءوا الدار والإيمان من قبل هجرتهم، ثم قال: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ} وقال الحسن: أي حسدًا وحرارة وغيظًا مما أوتي المهاجرون من دونهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحرارة، لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللام على الملزوم على سبيل الكناية، ثم قال: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقال: آثره بكذا إذا خصه به، ومفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم» فقالوا: لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة. فأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة وهي الفقر، وأصلها من الخصاص وهي الفرج، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص، الواحد خصاصة، وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات، ثم قال: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} الشح بالضم والكسر، وقد قرئ بهما.
واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس، لا جرم قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الظافرون بما أرادوا، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئًا أمره الله بإعطائه فقد وقى شح نفسه.
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}
اعلم أن قوله: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} عطف أيضًا على المهاجرين وهم الذين هاجروا من بعد، وقيل: التابعون بإحسان وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، وذكر تعالى أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان، وهو قوله: {يَقولونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي غشًا وحسدًا وبغضًا.
واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار أو الذين جاءوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجًا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

{للفقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} أي الفَيءُ والغنائم {للفقراء الْمُهَاجِرِينَ}.
وقيل: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء} ولكن يكون {للفقراء}.
وقيل: هو بيان لقوله: {وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَاْبنِ السَّبِيلِ} فلما ذُكروا بأصنافهم قيل المال لهؤلاء، لأنهم فقراء ومهاجرين وقد أُخرجوا من ديارهم؛ فهم أحق الناس به.