فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الكلام مضاف محذوف، أي: لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة، أو أثر حاجة، وكلّ ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة.
وكان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار، وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال:
«إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين- وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم، والمشاركة لكم في أموالكم- وإن أحببتم أعطيتهم ذلك، وخرجوا من دياركم»، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الإيثار: تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به، والمعنى: ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت، وهي الفرج التي تكون فيه، وجملة: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في محل نصب على الحال، وقيل: إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، ومنه قول الشاعر:
إن الربيع إذا يكون خصاصة ** عاش السقيم به وأثرى المقتر

{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} قرأ الجمهور: {يوق} بسكون الواو، وتخفيف القاف من الوقاية، وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بفتح الواو، وتشديد القاف.
وقرأ الجمهور: {شحّ نفسه} بضم الشين، وقرأ ابن عمر، وابن أبي عبلة بكسرها.
والشحّ: البخل مع حرص، كذا في الصحاح، وقيل: الشحّ أشدّ من البخل.
قال مقاتل: شحّ نفسه: حرص نفسه.
قال سعيد بن جبير: شحّ النفس هو أخذ الحرام، ومنع الزكاة.
قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه، فقد وقى شحّ نفسه.
قال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشحّ أن يشحّ بما في أيدي الناس، يحبّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع.
وقال ابن عيينة: الشحّ: الظلم.
وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شحّ النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشحّ بها شرعًا من زكاة، أو صدقة، أو صلة رحم، أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشحّ إلى النفس، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى (من) باعتبار معناها، وهو مبتدأ، وخبره {هُمُ المفلحون} والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب.
ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم، فقال: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوّة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوّة إلى يوم القيامة؛ لأنه يصدق على الكلّ أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأوّلين والأنصار، والموصول مبتدأ، وخبره {يَقولونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} ويجوز أن يكون الموصول معطوفًا على قوله: {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان}، فيكون {يقولون} في محل نصب على الحال، أو مستأنف لا محل له، والمراد بالأخوّة هنا: أخوة الدّين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم، ولمن تقدّمهم من المهاجرين والأنصار {وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًا لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: غشًا وبغضًا وحسدًا.
أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغلّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولًا أوّليًا لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلًا لهم، فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغلّ لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغلّ إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله، المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، ومازال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله، وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكلّ حجر ومدر، والله من ورائهم محيط.
{رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك.
وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهنّ شيئًا فقال: «ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله»، فقال رجل من الأنصار، وفي رواية، فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدّخريه شيئًا، قالت: والله ما عندي إلاّ قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء، فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت، ثم غدا الضيف على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}».
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوّل، فنزلت فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلًا قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشحّ، ولكنه البخل، ولا خير في البخل، وإن الشحّ الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: ليس الشحّ أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل، وإنه لشرّ، إنما الشحّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له.
وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: من أدّى زكاة ماله، فقد وقى شحّ نفسه.
وأخرج الحكيم الترمذي، وأبو يعلى، وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله: «ما محق الإسلام محق الشحّ شيء قط» وأخرج أحمد، والبخاري في الأدب، ومسلم، والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الشحّ.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه عن عائشة قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ، فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلًا، وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه {للفقراء المهاجرين} الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} الآية.
ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{للفقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}
بدل مما يصلح أن يكون بدلًا منه من أسماء الأصناف المتقدمة التي دخلت عليها اللام مباشرة وعطفًا قوله: {ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] بدل بعض من كل.
وأول فائدة في هذا البدل التنبيه على أن ما أفاء الله على المسلمين من أهل القرى المعْنية في الآية لا يجري قسمه على ما جرى عليه قسم أموال بني النضير التي اقتُصر في قسمها على المهاجرين وثلاثة من الأنصار ورابع منهم، فكأنه قيل: ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل للفقراء منهم لا مطلقًا، يدخل في ذلك المهاجرون والأنصار والذين آمنوا بعدهم.
وأعيد اللام مع البدل لربطه بالمبدل منه لانفصال ما بينهما بطول الكلام من تعليل وتذييل وتحذير.
ولإِفادة التأكيد.
وكثيرًا ما يقترن البدل بمثل العامل في المبدل منه على وجه التأكيد اللفظي، وتقدم في قوله تعالى: {تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا} في سورة [العقود: 114].
فبقي احتمال أن يكون قيدًا {لذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7]، فيتعين أن يكون قوله: {للفقراء} إلى آخره مسوقًا لتقييد استحقاق هؤلاء الأصناف وشأن القيود الواردة بعد مفردات أن ترجع إلى جميع ما قبلها، فيقتضي هذا أن يُشترط الفقر في كل صنف من هذه الأصناف الأربعة، لأن مطلقها قد قُيّد بقيد عَقب إطلاق، والكلام بأواخره فليس يجري هنا الاختلاف في حمل المطلق على المقيد، ولا تجري الصور الأربع في حمل المطلق على المقيد من اتحاد حكمهما وجنسهما.
ولذلك قال مالك وأبو حنيفة: لا يعطى ذوو القربى إلا إذا كانوا فقراء لأنه عوض لهم عما حرموه من الزكاة.
وقال الشافعي وكثير من الفقهاء: يشترط الفقر فيما عدا ذوي القربى لأنه حق لهم لأجل القرابة للنبيء صلى الله عليه وسلم قال إمام الحرمين: أغلظ الشافعي الرد على مذهب أبي حنيفة بأن الله علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة، فاشتراطُها وعدمُ اعتبار القرابة يضارّه ويحَادّه.
قلت: هذا محل النزاع فإن الله ذكر وصف اليتامى ووصف ابن السبيل ولم يشترط الحاجة.
واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حُرمت على ذوي القربى كانت فائدة ذكرهم في خمس الفيْء والمغانم أنه لا يمتنع صرفه إليهم امتناعَ صرف الصدقات، ثم قال: لا تغترَّ بالاعتذار فإن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفًا لهم فمن علّله بالحاجة فَوّت هذا المعنى. اهـ.