فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {جميعًا} يجوز أن يكون بمعنى كلهم كقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعًا} [المائدة: 48] فيكون للشمول، أي كلهم لا يقاتلونكم اليهود والمنافقون إلا في قرى محصنّة إلخ.
ويجوز أن يكون بمعنى مجتمعين، أي لا يقاتلونكم جيوشًا كشأن جيوش المتحالفين فإن ذلك قتال من لا يقبعون في قرأهم فيكون النفي منصّبًا إلى هذا القيد، أي لا يجتمعون على قتالكم اجتماع الجيوش، أي لا يهاجمونكم ولكن يقاتلون قتال دفاع في قرأهم.
واستثناء {إلا في قرى} على الوجه الأول في {جميعًا} استثناء حقيقي من عموم الأحوال، أي لا يقاتلونكم كلهم في حال من الأحوال إلا في حال الكون في قرى محصّنة إلخ.
وهو على الوجه الثاني في {جميعًا} استثناء منقطع لأن القتال في القرى ووراء الجدر ليس من أحوال قتال الجيوش المتساندين.
وعلى كلا الاحتمالين فالكلام يفيد أنهم لا يقاتلون إلا متفرقين كل فريق في قريتهم، وإلا خائفين متَترِّسِينَ.
والمعنى: لا يهاجمونكم، وإن هاجمتموهم لا يبرزون إليكم ولكنهم يدافعونكم في قرى محصنة أو يقاتلونكم من وراء جُدر، أي في الحصون والمعاقل ومن وراء الأسوار، وهذا كناية عن مصيرهم إلى الهزيمة إذ ما حورب قوم في عُقر دارهم إلا ذلُّوا كما قال عَلِيّ رضي الله عنه: وهذا إطلاع لهم على تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخائل الأعداء.
و{الجُدُر} بضمتين في قراءة الجمهور جمع جدار، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {جِدار} على الإِفراد، والمراد الجنس تساوي الجمع.
و{محصنة} ممنوعة ممن يريد أخذها بأسوار أو خنادق.
و{قُرىً} بالقصر جمع قرية، ووزنه وقصره على غير قياس لأن ما كان على زنة فَعْلَة معتل اللام مثل قرية يجمع على فِعال بكسر الفاء ممدودًا مثل: ركوة وركاء، وشَكوة وشِكاء.
ولم يسمع القصر إلا في كَوة بفتح الكاف لغة وكوى، وقَرية وقُرى ولذلك قال الفراء: قُرىً شاذ، يريد خارج عن القياس.
{جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ}.
استئناف بياني لأن الإِخبار عن أهل الكتاب وأنصارهم بأنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة المفيد أنهم لا يتفقون على جيش واحد متساندين فيه مما يثير في نفس السامع أن يسأل عن موجب ذلك مع أنهم متفقون على عداوة المسلمين.
فيجاب بأن بينهم بأسًا شديدًا وتدابرًا، فهم لا يتفقون.
وافتتحت الجملة بـ {بأسهم} للاهتمام بالإخبار عنه بأنه {بينهم}، أي متسلط من بعضهم على بعض وليس بأسهم على المسلمين، وفي تهكم.
ومعنى {بينهم} أن مجال البأس في محيطهم فما في بأسهم من إضرار فهو منعكس إليهم، وهذا التركيب نظير قوله تعالى: {رحماء بينهم} [الفتح: 29].
وجملة {تحسبهم جميعًا} إلى آخرها استئناف عن جملة {بأسهم بينهم شديد}.
لأنه قد يسأل السائل: كيف ذلك ونحن نراهم متفقين؟ فأجيب بأن ظاهر حالهم حال اجتماع واتحاد وهم في بواطنهم مختلفون فآراؤهم غير متفقة إلا إلفة بينهم لأن بينهم إحَنًا وعداوات فلا يتعاضدون.
والخطاب لغير معيّن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب ذلك.
وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم والاستخفاف بجماعتهم.
وفي الآية تربية للمسلمين ليحذروا من التخالف والتدابر ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر يرون رأيًا متماثلًا في أصول مصالحهما المشتركة، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها، ولا تفرِّق جامعتها، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإِحن والعداوات.
والقلوب: العقول والأفكار، وإطلاق القلب على العقل كثير في اللغة.
وشتَّى: جمع شتيت بمعنى مفارق بوزن فَعْلَى مثل قتيل وقَتلى، شبهت العقول المختلفة مقاصدها بالجماعات المتفرقين في جهات في أنها لا تتلاقى في مكان واحد، والمعنى: أنهم لا يتفقون على حرب المسلمين.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من أن بأسهم بينهم ومن تشتت قلوبهم أي ذلك مسبب على عدم عقلهم إذ انساقوا إلى إرضاء خواطر الأحقاد والتشفي بين أفرادهم وأهملوا النظر في عواقب الأمور واتباع المصالح فأضاعوا مصالح قومهم.
ولذلك أقحم لفظ القوم في قوله: {بأنهم قوم لا يعقلون} إيماء إلى أن ذلك من آثار ضعف عقولهم حتى صارت عقولهم كالمعدومة فالمراد: أنهم لا يعقلون المعقل الصحيح.
وأوثر هنا {لا يعقلون}.
وفي الآية التي قبلها {لا يفقهون} [الحشر: 13] لأن معرفة مآل التشتت في الرأي وصرف البأس إلى المشارك في المصلحة من الوَهن والفتّ في ساعد الأمة معرفة (مشهورة) بين العقلاء.
قال أحد بني نبهان يخاطب قومه إذ أزمعوا على حرب بعضهم:
وأن الحزامة أن تصرفوا ** لحَي سِوانا صدورَ الأسل

فإهمالهم سلوك ذلك جعلهم سواء مع من لا عقول لهم فكانت هذه الحالة شقوة لهم حصلت منها سعادة للمسلمين.
وقد تقدم غير مرة أن إسناد الحكم إلى عنوان قوم يؤذن بأن ذلك الحكم كالجبلّة المقومة للقومية وقد ذكرته آنفًا. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{للفقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}
{للفقراء}، قال الزمخشري: بدل من قوله: {ولذي القربى}، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من {لله وللرسول}، والمعطوف عليهما، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله: {وينصرون الله ورسوله}، وأنه يترفع برسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا. انتهى.
وإنما جعله الزمخشري بدلًا من قوله: {ولذي القربى}، لأنه مذهب أبي حنيفة، والمعنى إنما يستحق ذو القربى الفقير.
فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة، ففسره الزمخشري على مذهبه.
وأما الشافعي، فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة، فيأخذ ذو القربى الغني لقرأبته.
وقال ابن عطية: {للفقراء المهاجرين} بيان لقوله: {والمساكين وابن السبيل}، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام، ليبين بين الأغنياء منكم، أي ولكن يكون للفقراء. انتهى.
ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم.
{أولئك هم الصادقون}: أي في إيمانهم وجهادهم قولا وفعلًا.
والظاهر أن قوله: {والذين تبوؤا} معطوف على المهاجرين، وهم الأنصار، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال.
وقيل: هو مستأنف مرفوع بالابتداء، والخبر {يحبون}.
أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة، كما أنثى على المهاجرين بقوله: {يبتغون فضلًا} الخ، والإيمان معطوف على الدار، وهي المدينة، والإيمان ليس مكانًا فيتبوأ.
فقيل: هو من عطف الجمل، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه، قاله أبو عليّ، فيكون كقوله:
علفتها تبنًا وماء باردًا

أو يكون ضمن {تبوؤا} معنى لزموا، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان، فيصح العطف.
أو لما كان الإيمان قد شملهم، صار كالمكان الذي يقيمون فيه، لكن يكون ذلك جمعًا بين الحقيقة والمجاز.
قال الزمخشري: أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه؛ أو سمى المدينة، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان.
وقال ابن عطية: والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معًا، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله: {من قبلهم} فتأمله. انتهى.
ومعنى {من قبلهم}: من قبل هجرتهم، {حاجة}: أي حسدًا، {مما أوتوا}: أي مما أعطي المهاجرون، ونعم الحاجة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى.
{ويؤثرون على أنفسهم}: من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية، فأوهمهم أنه يأكل حتى أكل الضيف، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «عجب الله من فعلكما البارحة»، فالآية مشيرة إلى ذلك.
وروي غير ذلك في إيثارهم.
والخصاصة: الفاقة، مأخوذة من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج: والفتوح، فكأن حال الفقير هي كذلك، يتخللها النقص والاحتياج.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: شح بكسر الشين.
والجمهور: بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين، والشح: اللؤم، وهو كزازة النفس على ما عندها، والحرص على المنع.
قال الشاعر:
يمارس نفسًا بين جنبيه كزة ** إذا همّ بالمعروف قالت له مهلًا

وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها.
وقال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} وفي الحديث: «من أدّى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح» {والذين جاءوا من بعدهم}: الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين.
فقال الفراء: هم الفرقة الثالثة من الصحابة، وهو من آمن أو كفر في آخر مدّة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الجمهور: أراد من يجيء من التابعين، فعلى القول الأول: يكون معنى {من بعدهم}: أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان، وهؤلاء تأخر إيمانهم، أو سبق إيمانه وتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار.
وعلى القول الثاني: يكون معنى {من بعدهم}: أي من بعد ممات المهاجرين، مهاجريهم وأنصارهم.
وإذا كان {والذين} معطوفًا على المجرور قبله، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدّم في حكم الفيء.
وقال مالك بن أوس: قرأ عمر {إنما الصدقات للفقراء} الآية، فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {واعلموا أنما غنمتم} فقال: وهذه لهؤلاء، ثم قرأ: {ما أفاء الله على رسوله} حتى بلغ {للفقراء المهاجرين} إلى {والذين جاءوا من بعدهم}.
ثم قال: لئن عشت لنؤتين الراعي، وهو يسير نصيبه منها.
وعنه أيضًا: أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتح الله عليه من ذلك في كلام كثير آخره أنه تلا: {ما أفاء الله على رسوله} الآية، فلما بلغ {أولئك هم الصادقون} قال: هي لهؤلاء فقط، وتلا: {والذين جاءوا من بعدهم} الآية، إلى قوله: {رءوف رحيم}؛ ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.