فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأتى إخوتها القبر فبكَوْا على قبرها وترحّموا عليها، وأقاموا على قبرها أيامًا ثم انصرفوا إلى أهاليهم.
فلما جَنّ عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم؛ فأخبره بقول العابد وموتها وترحُّمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها؛ فكذّبه الشيطان وقال: لم يَصْدُقْكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلامًا فذبحه وذبحها معه فزعًا منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله.
فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعًا كما أخبرتكم.
قال: وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك.
ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك.
فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم.
فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجبًا، فأخبر بعضهم بعضًا بما رأى.
قال أكبرهم: هذا حُلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودَعُوا هذا.
قال أصغرهم: لا أمضي حتى آتي ذلك المكان فأنظر فيه.
قال: فانطلقوا جميعًا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما.
فاستعدَوا عليه ملكهم، فأنزِل من صومعته فقدّموه لِيُصْلَب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحتَ ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلّصتك مما أنت فيه.
قال: فكفر العابد بالله؛ فلما كفر خلّى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.
قال: ففيه نزلت هذه الآية {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قال لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قال إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} إلى قوله: {جَزَاءُ الظالمين}
قال ابن عباس: فضرب الله هذا مثلًا للمنافقين مع اليهود.
وذلك أن الله تعالى أمر نبيّه عليه السلام أن يُجْلي بني النَّضِير من المدينة، فَدَسّ إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون، وتبّرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من بَرْصيصَا العابد.
فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقِيّة والكتمان.
وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أمر جُريج الراهب، وبرّأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس.
وقيل: المعنى مثَلُ المنافقين في غدرهم لبني النَّضِير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48] الآية.
وقال مجاهد: المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم.
ومعنى قوله تعالى: {إِذْ قال لِلإِنسَانِ اكفر} أي أغواه حتى قال: إني كافر.
وليس قول الشيطان: {إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: {إِنِّي برياء مِّنكَ} وفتح الياء من {إني} نافع وابن كثير وأبو عمرو. وأسكن الباقون.
{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ} أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان {أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا} نصب على الحال.
والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان.
ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين.
ونصب {عَاقِبَتهُمَا} على أنه خبر كان.
والإسم {أَنَّهُمَا فِي النار} وقرأ الحسن {فَكَانَ عَاقِبَتُهُما} بالرفع على الضد من ذلك.
وقرأ الأعمش: {خَالِدَانِ فِيهَا} بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر {أنّ} والظرف ملغى. اهـ.

.قال الألوسي:

{كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ}
خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر كما قال مجاهد أو كبني قنيقاع كما قال ابن عباس وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالي المدينة غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرًا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير.
وقيل: أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية {قَرِيبًا} ظرف لقوله تعالى: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم.
وقيل: انتصاب {قَرِيبًا} بمثل إذ التقدير كوقوع مثل الذين، وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافًا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل، وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل: مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبًا، وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة، والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضًا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبًا فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح.
وقيل: إن العامل فيه التشبيه أي يشبونهم في زمن قريب، وقيل: متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع، وكلا القولين كما ترى، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية قريبة، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل، ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر؛ أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه، وجملة {ذَاقُواْ} مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب، ويتعين تعلق {قَرِيبًا} بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يقادر قدره، والجملة قيل: عطف على الجملة السابقة وإن اختلفتا فعلية واسمية، وقيل: حال مقدرة من ضمير {ذَاقُواْ} وأيًا مّا كان فهو داخل في حيز المثل، وقيل: عطف على جملة مثلهم كمثل الذين من قبلهم ولا يخفى بعده، وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الشيطان} جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضًا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير مثلهم هاهنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير، وقال بعضهم: ضمير مثلهم المقدر في الموضعين للفريقين، وجعله بعض المحققين خبرًا ثانيًا للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الذين} [الحشر: 15] على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول: يخص بني النضير، والثاني: يخص المنافقين، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه ثقة بأن السامع يرد كلًا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل: مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان {إِذْ قال للإنسان اكفر} أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة {فَلَمَّا كَفَرَ قال إِنّى بَرِيء مّنكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا في النار خالدين فِيهَا} أبد الآبدين {وَذَلِكَ} أي الخلود في النار {مِنَ الظالمين} على الإطلاق دون المذكورين خاصة، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله: {إِنّى أَخَافُ} [الحشر: 16] إلخ.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما وقعوا فيما وقعوا قال: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله} [الأنفال: 48] الآية، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة؛ وذلك أنه لما شبه أولًا حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر، ومعنى {اكفر} على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعضد وقال الخفاجي: لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل.
وأخرج أحمد في الزهد، والبخاري في تاريخه، والبيهقي في (الشعب)، والحاكم وصححه، وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلًا كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال، فذلك قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قال للإنسان اكفر} [الحشر: 16] الآية، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلًا مما ذكر وهي مشهورة في القصص، وفي (البحر) إن قول الشيطان: {إِنّى أَخَافُ الله} [الحشر: 16] كان رياءًا وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم؛ وقرئ {أنا بريء}، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم {فكان عاقبتهما} بالرفع على أنه اسم كان، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور، وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والأعمش وابن أبي عبلة {خالدان} بالألف على أنه خبر إن، {وَفي النار} متعلق به، وقدم للاختصاص، وفيها تأكيد له وإعادة بضميره، وجوز أن يكون {في النار} خبر إن، و{خالدان} خبر ثانيًا وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا}
خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه هذا الخبر، فالتقدير: مثلهم كمثل الذين من قبلهم قريبًا، أي حال أهل الكتاب الموعود بنصر المنافقين كحال الذين مِن قبلهم قريبًا.
والمراد: أن حالهم المركبة من التظاهر بالبأس مع إضمار الخوف من المسلمين، ومن التفرق بينهم وبين إخوانهم من أهل الكتاب، ومن خذلان المنافقين إياهم عند الحاجة، ومن أنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، كَحال الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب وهم بنو النضير فإنهم أظهروا الاستعداد للحرب وأبَوا الجلاء، فلم يحاربوا إلا في قريتهم إذ حصنوها وقبعوا فيها حتى أعياهم الحصار فاضطُرّوا إلى الجلاء ولم ينفعهم المنافقون ولا إخوانهم من أهل الكتاب.
وعن مجاهد أن {الذين من قبلهم} المشركون يوم بدر.
و{مِنْ} زائدة لتأكيد ارتباط الظرف بعامله.
وانتصب {قريبًا} على الظرفية متعلقًا بالكون المضمر في قوله: {كمثل}، أي كحاللِ كائن قريب، أو انتصب على الحال من {الذين} أي القوم القريب منهم، كقوله: {وما قوم لوط منكم بِبَعيد} [هود: 89].
والوبال أصله: وخامة المرعى المستلذ به للماشية يقال: كلأ وبيل، إذا كان مَرعى خَضِرًا (حلوًا) تهشّ إليه الإِبل فيحبطها ويمرضها أو يقتلها، فشبهوا في إقدامهم على حرب المسلمين مع الجهل بعاقبة تلك الحرب بإبل ترامت على مرعى وبِيل فهلكت وأُثبت الذوق على طريقة المكنية وتخييلها، فكان ذكر {ذاقوا} مع {وبال} إشارة إلى هذه الاستعارة.
و{أمرهم} شأنُهم وما دبّروه وحسبوا له حسابه وذلك أنهم أوقعوا أنفسهم في الجلاء وترك الديار وما فيها، أي ذاقوا سوء أعمالهم في الدنيا.