فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
تذييل لجملة {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} [الحشر: 18] إلخ.
لأنّه جامع لخلاصة عاقبة الحالين: حال التقوى والاستعداد للآخرة، وحال نسيان ذلك وإهماله، ولكلا الفريقين عاقبة عمله.
ويشمل الفريقين وأمثالهم.
والجملة أيضًا فذلكة لما قبلها من حال المتقين والذين نَسُوا الله ونُسُّوا أنفسهم لأن ذكر مثل هذا الكلام بعد ذكر أحوال المتحدَّث عنه يكون في الغالب للتعريض بذلك المتحدَّث عنه كقولك عندما ترى أحدًا يؤذي الناس: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فمعنى الآية كناية عن كون المؤمنين هم أصحاب الجنة، وكون الذين نَسُوا الله هم أهل النار فتضمنت الآية وعدًا للمتقين ووعيدًا للفاسقين.
والمراد من نفي الاستواء في مثل هذا الكناية عن البون بين الشيئين.
وتعيين المفضل من الشيئين موكول إلى فهم السامع من قرينة المقام كما في قول السموأل:
فليس سواءً عالم وجهول

وقول أبي حزام غالب بن الحارث العكلي:
وأعلم أن تسليمًا وتركًا ** للاَ متشابهان ولا سواء

ومنه قوله تعالى: {ليسوا سواء} بعد قوله: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم} [آل عمران: 110] الآية.
وقَبل قوله: {من أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113].
وقد يردف بما يدل على جهة التفضيل كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا} [الحديد: 10].
وقوله هنا {أصحاب الجنة هم الفائزون}، وتقدم في قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} الآية (95) في سورة النساء.
وأما من ذهب من علماء الأصول إلى تعميم نحو لا يستوون من قوله تعالى: {أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون} [السجدة: 18] فاستدلُّوا به على أن الفاسق لا يلِي ولاية النكاح، وهو استدلال الشافعية فليس ذلك بمرضي، وقد أباه الحنفية ووافقهم تاج الدين السبكي في غير (جمع الجوامع).
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله تعالى: {أصحاب الجنة هم الفائزون} قصر ادعائي لأن فوزهم أبدِيّ فاعتبر فوز غيرهم ببعض أمور الدنيا كالعدم.
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}
لما حذّر المسلمين من الوقوع في مهواة نسيان الله التي وقع فيها الفاسقون، وتوعد الدين نَسُوا الله بالنار، وبيّن حالهم بأن الشيطان سوّل لهم الكفر.
وكان القرآن دالًا على مسالك الخير ومحذّرًا من مسالك الشر، وما وقع الفاسقون في الهلكة إلا من جراء إهمالهم التدبر فيه، وذلك من نسيانهم الله تعالى انتقل الكلام إلى التنويه بالقرآن وهديه البيّن الذي لا يصرف الناسَ عنه إلا أهواؤهم ومكابرتهم، وكان إعراضهم عنه أصل استمرار ضلالهم وشركهم، ضَرب لهم هذا المثل تعجيبًا من تصلبهم في الضلال.
وفي هذا الانتقال إيذان بانتهاء السورة لأنه انتقال بعد طول الكلام في غرضضِ فَتح قُرى اليهود وما ينال المنافقين من جَرَّائِه من خسران في الدنيا والآخرة.
و{هذا القرآن} إشارة إلى المقدار الذي نَزل منه، وهو ما عرفوه وتلَوه وسمعوا تلاوته.
وفائدة الإِتيان باسم إشارة القريب التعريض لهم بأن القرآن غير بعيد عنهم.
وأنه في متناولهم ولا كلفة عليهم في تدبره ولكنهم قصدوا الإِعراض عنه.
وهذا مثَلٌ ساقه الله تعالى كما دلّ عليه قوله: {وتلك الأمثال} إلخ.
وقد ضرب هذا مثلًا لقسوة الذين نَسُوا الله وانتفاء تأثرهم بقوارع القرآن.
والمراد بالجبل: حقيقته، لأن الكلام فرض وتقدير كما هو مقتضى {لَو} أن تجيء في الشروط المفروضة.
فالجبل: مثال لأشد الأشياء صلابة وقلة تأثر بما يقرعه.
وإنزال القرآن مستعار للخطاب به.
عبر عنه بالإِنزال على طريقة التبعية تشبيهًا لشرف الشيء بعلوّ المكان، ولإِبلاغه للغير بإنزال الشيء من علوّ.
والمعنى: لو كان المخاطب بالقرآن جَبلًا، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بخطاب القرآن تأثرًا ناشئًا من خشية لله خشية تؤثرها فيه معاني القرآن.
والمعنى: لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسُوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتّعظوا بمواعظه لاتَّعظ الجبل وتصدّع صخرهُ وتربه من شدة تأثره بخشية الله.
وضرَب التصدع مثلًا لشدة الانفعال والتأثر لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنْشَقَّ وتتصدع إذ لا يحصل ذلك لها بسهولة.
والخشوع: التطأطؤ والركوع، أي لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.
والتصدع: التشقق، أي لتزلزل وتشقق من خوفه الله تعالى.
والخطاب في {لرأيته} لغير معيّن فيعمّ كل من يسمع هذا الكلام والرؤية بصرية، وهي منفية لوقوعها جوابًا لحرف {لو} الامتناعية.
والمعنى: لو كان كذلك لرأيت الجبل في حالة الخشوع والتصدع.
وجملة {وتلك الأمثال نضربها للناس} تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذُيّل بأن الأمثال التي يضربها الله في كلامه مثلَ المثل أراد منها أن يتفكروا فإن لم يتفكروا بها فقد سُجّل عليهم عنادُهم ومكابرتهم، فالإِشارة بتلك إلى مجموع ما مرّ على أسماعهم من الأمثال الكثيرة، وتقديرُ الكلام: ضربنا هذا مثلًا، {وتلك الأمثال نضربها للناس}.
وضرب المثل سَوقه، أطلق عليه الضرب بمعنى الوضع كما يقال: ضرب بيتًا، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا} ما في سورة [البقرة: 26]. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقولونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}
لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين، ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة؛ لتعجيب المؤمنين من حالهم، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا} والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له، والذين نافقوا هم: عبد الله بن أبيّ، وأصحابه، وجملة {يَقولونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} مستأنفة؛ لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع؛ لاستحضار الصورة، أو للدلالة على الاستمرار، وجعلهم إخوانًا لهم لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم، فهم إخوان في الكفر، واللام في {لإخوانهم} هي لام التبليغ، وقيل: هو من قول بني النضير لبني قريظة، والأوّل أولى؛ لأن بني النضير، وبني قريظة هم يهود، والمنافقون غيرهم، واللام في قوله: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} هي الموطئة للقسم، أي: والله لئن أخرجتم من دياركم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} هذا جواب القسم، أي: لنخرجن من ديارنا في صحبتكم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} أي: في شأنكم، ومن أجلكم {أَحَدًا} ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم، وإن طال الزمان، وهو معنى قوله: {أَبَدًا}.
ثم لما وعدوهم بالخروج معهم، وعدوهم بالنصرة لهم، فقالوا: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ لا ينصرونهم} على عدوّكم.
ثم كذبهم سبحانه فقال: {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم.
ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصّل ما كذبوا فيه فقال: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ} وقد كان الأمر كذلك، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود، وهم بنو النضير ومن معهم، ولم ينصروا من قوتل من اليهود، وهم بنو قريظة وأهل خيبر {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} أي: لو قدِّر وجود نصرهم إياهم؛ لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده.
قال الزجاج: معناه: لو قصدوا نصر اليهود {لَيُوَلُّنَّ الادبار} منهزمين {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} يعني: اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم، وهم المنافقون، وقيل: يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله، ولا ينفعهم نفاقهم، وقيل معنى الآية: لا ينصرونهم طائعين، ولئن نصروهم مكرهين ليولنّ الأدبار، وقيل: معنى {لاَ يَنصُرُونَهُمْ} لا يدومون على نصرهم، والأوّل أولى، ويكون من باب قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
{لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِمْ مّنَ الله} أي: لأنتم يا معاشر المسلمين أشدّ خوفًا وخشية في صدور المنافقين، أو صدور اليهود، أو صدور الجميع من الله، أي: من رهبة الله، والرهبة هنا بمعنى: المرهوبية؛ لأنها مصدر من المبني للمفعول، وانتصابها على التمييز {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي: ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشيء من الأشياء، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحقّ بالرهبة منه دونكم.
ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم، وضعف نكايتهم فقال: {لاَ يقاتلونكم جَمِيعًا} يعني: لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك {إِلاَّ في قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالدروب والدور {أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} أي: من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم.
قرأ الجمهور: {جدر} بالجمع، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن، وابن كثير، وأبو عمرو: {جدار} بالإفراد.
واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنها موافقة لقوله: {قُرًى مُّحَصَّنَةٍ}.
وقرأ بعض المكيين: {جدر} بفتح الجيم، وإسكان الدال، وهي لغة في الجدار {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي: بعضهم غليظ فظ على بعض، وقلوبهم مختلفة، ونياتهم متباينة.
قال السديّ: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد.
وقال مجاهد: {بأسهم بينهم شديد} بالكلام والوعيد ليفعلن كذا، والمعنى: أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدّة والبأس، وإذا لاقوا عدوًّا ذلوا وخضعوا، وانهزموا، وقيل: المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرآنهم شديد، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من الرعب، والأوّل أولى لقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شتى} فإنه يدلّ على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم الموصوف بالشدّة، ومعنى {شتى}: متفرقة، قال مجاهد: يعني اليهود والمنافقين تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.
وروي عنه أيضًا أنه قال: المراد: المنافقون.
وقال الثوري: هم المشركون، وأهل الكتاب.
قال قتادة: {تحسبهم جميعًا}، أي: مجتمعين على أمر ورأي، {وقلوبهم شتى} متفرقة، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ.
وقرأ ابن مسعود: (وقلوبهم أشت) أي: أشد اختلافًا {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي: ذلك الاختلاف والتشتت بسبب أنهم قوم لا يعقلون شيئًا، ولو عقلوا؛ لعرفوا الحقّ واتبعوه.
{كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، والمعنى: أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين {قَرِيبًا} يعني: في زمان قريب، وانتصاب {قريبًا} على الظرفية أي: يشبهونهم في زمن قريب، وقيل: العامل فيه {ذاقوا}، أي: ذاقوا في زمن قريب، ومعنى {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي: سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، قاله مجاهد، وغيره، وقيل: المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم، قاله قتادة.