فصل: (سورة الحشر: الآيات 18- 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرئ: {جدر}، بالتخفيف. و{جدار}. و{جدر} و{جدر}، وهما: الجدار {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعنى أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة، لأنّ الشجاع يجبن والعزيز يذل عند محاربة اللّه ورسوله {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} مجتمعين ذوى ألفة واتحاد {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة لا ألفة بينها، يعنى. أنّ بينهم إحنا وعداوات، فلا يتعاضدون حق التعاضد، ولا يرمون عن قوس واحدة. وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم {قَوْمٌ لا} يَعْقِلُونَ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب.
فإن قلت: بم انتصب قَرِيبًا؟ قلت: بمثل، على: كوجود مثل أهل بدر قريبا {ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ} سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. من قولهم كلأ وبيل: وخيم سيئ العاقبة، يعنى ذاقوا عذاب القتل في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرة عذاب النار. مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ} إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشا يوم بدر، وقوله لهم: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم}، إلى قوله: {إنى بريء منكم}. وقرأ ابن مسعود: {خالدان فيها}، على أنه خبر أنّ، و{فِي النَّارِ} لغو، وعلى القراءة المشهورة: الظرف مستقر، و{خالدين فيها}: حال. وقرئ: {أنا بريء}. وعاقبتهما بالرفع.

.[سورة الحشر: الآيات 18- 19]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)}
كرر الأمر بالتقوى تأكيدا: واتقوا اللّه في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل، واتقوا اللّه في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجرى مجرى الوعيد. والغد: يوم القيامة، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبا له وعن الحسن: لم يزل يقربه حتى جعله كالغد. ونحوه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} يريد: تقريب الزمان الماضي. وقيل: عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران: يوم وغد. فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت: أما تنكير النفس فاستقلالا للأنفس النواظر فيما قمن للآخرة، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك.
وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه.
وعن مالك بن دينار: مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدّمنا. خسرنا ما خلفنا.
{نَسُوا اللَّهَ} نسوا حقه، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله تعالى: {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}.

.[سورة الحشر: آية 20]

{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)}
هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات: كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز مع أصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضى البر والتعطف.
وقد استدل أصحاب الشافعي رضى اللّه عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر.

.[سورة الحشر: الآيات 21- 22]

{لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القرآن عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)}
هذا تمثيل وتخييل، كما مرّ في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ} وقد دل عليه قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها} لِلنَّاسِ والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره. وقرئ: {مصدّعا} على الإدغام {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ} إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل.

.[سورة الحشر: الآيات 23- 24]

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السلام الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
{الْغَيْبِ} المعدوم {وَالشَّهادَةِ} الموجود المدرك كأنه يشاهده. وقيل: ما غاب عن العباد وما شاهدوه. وقيل: السر والعلانية. وقيل: الدنيا والآخرة {الْقُدُّوسُ} بالضم والفتح- وقد قرئ بهما- البليغ في النزاهة عما يستقبح. ونظيره: السبوح، وفي تسبيح الملائكة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. والسلام بمعنى السلامة. ومنه دارُ السلام و{سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وصف به مبالغة في وصف كونه سليما من النقائص. أو في إعطائه السلامة والمؤمن واهب الأمن. وقرئ بفتح الميم بمعنى المؤمن به على حذف الجار، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} المختارون بلفظ صفة السبعين. و{الْمُهَيْمِنُ} الرقيب على كل شيء، الحافظ له، مفيعل من الأمن، إلا أن همزته قلبت هاء. و{الْجَبَّارُ} القاهر الذي جبر خلقه على ما أراد، أي أجبره، و{الْمُتَكَبِّرُ} البليغ الكبرياء والعظمة. وقيل: المتكبر عن ظلم عباده. و{الْخالِقُ} المقدر لما يوجده و{الْبارِئُ} المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة. و{الْمُصَوِّرُ} الممثل. وعن حاطب بن أبى بلتعة أنه قرأ: {البارئ المصوّر}، بفتح الواو ونصب الراء، أي: الذي يبرأ المصوّر أي: يميز ما يصوّره بتفاوت الهيئات.
وقرأ ابن مسعود: {وما في الأرض}.
عن أبى هريرة رضى اللّه عنه: سألت حبيبي صلى الله عليه وسلم عن اسم اللّه الأعظم فقال: «عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته» فأعدت عليه فأعاد علىّ، فأعدت عليه فأعاد علىّ. عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحشر غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني يهود بني النضير.
{من ديارهم} يعني من منازلهم.
{لأول الحشر} أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيرًا يحملون عليه ما استقل إلا السلاح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه، فكفوا يوم بدر لظهور المسلمين، وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين، فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قتله محمد بن مسلمة غيلة. ثم سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم ثلاثًا وعشرين ليلة محاربًا حتى أجلاهم عن المدينة.
في قوله: {لأول الحشر} ثلاثة أوجه:
أحدها: لأنهم أول من أجلاه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، قاله ابن حبان.
الثاني: لأنه اول حشرهم، لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة، قاله الحسن. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أجلى بني النضير قال لهم «امضوا فهذا أول الحشر وأنا على الأثر»
الثالث: أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل منهم من تخلف.
{ما ظننتم أن يخرجوا} يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم.
{وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} أي من أمر الله.
{فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} فيه وجهان:
أحدهما: لم يحتسبوا بأمر الله.
الثاني: قاله ابن جبير والسدي: من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف.
{وقذف في قلوبهم الرعب} فيه وجهان:
أحدهما: لخوفهم من رسول الله.
الثاني: بقتل كعب بن الأشرف.
{يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} فيه خمسة أوجه:
أحدها: بأيديهم بنقض الموادعة، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، قاله الزهري.
الثاني: بأيديهم في تركها، وأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، قاله أبو عمرو ابن العلاء.
الثالث: بأيديهم في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون، وبأيدي المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم.
قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل، وخربها المسلمون من خارج.
الرابع: معناه: أنهم كانوا كلما هدم المسلمون عليهم من حصونهم شيئًا نقضوا من بيوتهم ما يبنون به من حصونهم، قاله الضحاك.
الخامس: أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم، قاله عروة بن الزبير، وابن زيد.
وفي قوله: {يخربون} قراءتان: بالتخفيف، وبالتشديد، وفيهما وجهان:
أحدهما: أن معناهما واحد وليس بينهما فرق.
الثاني: أن معناهما مختلف.
وفي الفرق بينهما وجهان:
أحدهما: أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم، ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو.
الثاني: أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها. وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها، قاله الفراء.
ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان:
أحدهما: يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم، يعني باتباع البدع، وأيدي المؤمنين في مخالفتهم.
{ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} فيه وجهان:
أحدهما: يعني بالجلاء الفناء {لعذبهم في الدنيا} بالسبي.
والثاني: يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم {لعذبهم في الدنيا} يعني بالقتل، قاله عروة.
والفرق بين الجلاء والإخراج- وإن كان معناهما في الإبعاد واحد- من وجهين:
أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد.
{ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات، وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره، إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها، فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي:
ألسنا ورثنا كتاب الحكيم ** على عهد موسى ولم نصدف