فصل: علاقة الآية بالمقصود الأعظم للسورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.علاقة الآية بالمقصود الأعظم للسورة:

لاشك أن هذا النوع من المعاملات يشترك فيه أطراف عدة: الدائن، والمدين، والكاتب، والشهود، وهؤلاء جميعا تلحقهم تبعات وتكاليف وقيود لايمكن القيام بحقها إلا إذا وجد باعث ومحرض قوي يدفعهم إلى الالتزام، وأداء ما يطلب منهم.
ولست أرى باعثًا ومحرضًا على التزام ذلك أقوى من تدبر أمر البعث والإيمان به؛ فصاحب المال مشتريًا كان أو بائعًا أو مقرضًا يحتاج إلى شحنة إيمانية؛ كي يترك ماله فترة من الوقت عند الغير وهو مطمئن النفس.
والذي يأخذ الدَّين يحتاج أيضا إلى الإيمان بالبعث؛ ليكون حاجزا له عن المماطلة أو الإنكار.
وكذلك الشهود والكاتب: لأنهم وسطاء بين متناكرين في الغالب، والأصل في الشهود أنهم لا يأخذون عوضًا عن شهادتهم؛ فالذي يدفعهم إلى الشهادة غالبًا إيمانهم بالبعث والحساب.
وهكذا اتصلت الآية بالإيمان بالبعث اتصالًا وثيقًا.
كما أن اسم السورة البقرة وهي حادثة حدثت بين موسى عليه الصلاة والسلام وقومه حين جادلوه في ذبح البقرة وقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:67].
فكأنهم حين أنكروا الغيب أنكروا ذبح البقرة؛ إذ لا علاقة- في نظرهم- بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل، ولو أنهم آمنوا بالغيب لما سألوا عن ماهيتها، ولونها، وتحديدها..إلخ.
ومن هنا يتبين لنا أن قصة البقرة ذات علاقة وثيقة بالإيمان بالغيب؛ ذلك لأن البقرة كانت سببًا في عدة أمور؛ منها: إحياء الميت، وانفراج الغم الذي أحاط بالناس، والأهم من كل ذلك تعليم بني إسرائيل أن الإيمان بالغيب يستوجب التجرد من الأساليب الظاهرة.
كما أن هذا الاسم يحمل تحذيرًا من منهج اليهود في المجادلة، وتنبيهًا على خطأ أسلوبهم الذي استخدموه مع رب العزة ومع أنبيائه.
أضف إلى ذلك أن حادثة البقرة كانت لإظهار الحق وحفظه من الضياع، كما هو حال آية الدين.
فالبقرة أظهرت الحق في الدماء.
وآية الدين تظهر الحق وتحفظه في شأن الأموال والديون.

.خامسًا: وجه اختصاص سورة البقرة بآية الدين:

في القرآن الكريم قد ترى المعنى الواحد مبثوثًا ومصروفًا في أكثر من سورة، لكن هناك معانٍ لم تذكر إلا في سورة واحدة ولا شك أن هذا المعنى الفريد له علاقة وثيقة بمقصود السورة الأعظم، بل إن هذا المعنى يعدُّ رافدا من روافد الوصول إلى هذا المقصود الأعظم.
يقول أستاذنا محمود توفيق- حفظه الله-: قصة البقرة مثلًا لم ترد في غير سورة البقرة وكذلك قصة هاروت وماروت، وقصة تحويل القبلة، وفريضة الصيام وبيان أحكامه، وقصة طالوت وجالوت، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي حاج إبراهيم في ربه، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطير، وكذلك أحكام المداينة.
والذي يعنينا هنا هو آية المداينة.
وبالنظر في تلك المقاصد التي اختصت بها السورة دون غيرها يلحظ أنها وضعت في إطار القصة عدا الحديث عن الصيام وعن المداينة؛ فقد جاءا في إطار قوله: {كُتب عليكم}.
أما الصيام فقد كتبه الله تعالى علينا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
وأما المداينة فلقد أُمرنا بكتابتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].
أما وجه اختصاص السورة بآية المداينة فيقف من ورائه عدة أسباب:
منها: أن السورة جمعت بين الكليات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها، وهي الدِّين- والنسل- والعقل- والنفس- والمال وحفظ المال يشمل وضع الضوابط للتداين حتى لا يضيع بعجز المدين أو مماطلته.
ومنها: أن المعاني التي حوتها سورة البقرة تمثل الركائز التي يقام عليها بنيان الأمة، ومن أخطرها المعاملات المادية؛ فكان البدء بها في أول سورة قرآنية من الضرورة بمكان.

.سادسًا: السياق العام والخاص للآية:

لكل آية قرآنية عدة سياقات: سياق مباشر يتعلق بالمعاني الجزئية المحيطة بالآية.
وسياق أشمل داخل السورة يستعرض المعاني التي تناولتها، وعلاقاتها بالآية محل البحث.
ثم سياق عام قد يمتد ليشمل القرآن الكريم كله وبهذا يتحقق مقصود العلماء في أن القرآن الكريم كالكلمة الواحدة.
وكلما ضاقت دائرة السياق كان أثره- في النظم البياني أولًا وفي فقهه ثانيًا- أكثر جلاءً، وكان إدراكه أيسر، ومن ثم خفَّت مؤنة فقهه على الكثيرين.
وكلما كانت دائرة السياق أوسع كان أثره في النظم أعمق، وكان فقهه أخفى، وإدراكه أعسر فثقل على كواهل الكثيرين، فقلّتْ الدراسات التي تعنى بسياق السورة، وسياق القرآن الكريم كله.
والنظر البلاغي في السياق القرآني ليس مجاله الدائرة الصغرى من دائرة السياق، ومَن اقتصر عليه يكون قد غبن الدرس البلاغي.
بل رسالته الفريضة أن يمد نظره إلى سياق السورة كلها، وسياق القرآن الكريم كله، إن استطاع؛ ذلك لأنه يستشرف إلى ما يؤدي تمام المعنى القرآني في دقائقه، ورقائقه، ولطائفه، وذلك لا يتحقق إلا في سياق السورة، ثم في سياق القرآن الكريم كله.
وأهل العلم يدركون قيمة البناء البياني للسورة؛ إذ هي وحدة التحدي الصغرى الذي جاء به القرآن الكريم، وتمام المعنى لا يدرَك في سياقه الجزئي، وإنما يُدرك في سياق السورة كلها التي هي وحدة التحدي.. وكل درس لآية خارج سياق سورتها هو درس خداج، عاجز عن استبصار كثير من وجوه المعنى القرآني التي تُغزو الروح، والقلب.
وفي سياق سورة البقرة تُعدّ آية الدين حلقة من حلقات الحديث عن الاقتصاد الإسلامي، والتي قامت على أساس الحلال، والحض عليه، ونبذ الحرام، والتحذير منه.
فالجذر الذي بنيت عليه كل المعاملات هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
فهذا هو أصل المعاملات، وهو بداية القسم التشريعي في سورة البقرة، بعد القسم العقدي، والذي بدأ بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
فكأن السورة يمكن جمعها في سطرين؛ حيث جاءت نداءً للناس كافة بأمرين:
الأول: عبادة الله تعالى، والآخر: أكل الحلال.
وفي السياق التشريعي جانب كبير يتعلق بالأموال، والمكاسب المالية، ثم جانب آخر يتعلق بالإنفاق، ودار السياق على هذين المحورين:
1- مصدر المال.
2- إنفاق المال.
والملاحظ أن هناك خطابين:
الأول: للجميع بلفظ: {الناس} وهو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
والآخر: جاء للمؤمنين، وقد فصل هذا الأخير إلى قسمين: أمر ونهي.
فقيل في الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172].
وقيل في النهي: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وهذه دعائم ثلاث توضح المرتكزات التي تُبنى عليها القواعد الاقتصادية، وقد صيغت في قالب الجمع، ثم التقسيم: الجمع في قوله: {يا أيها الناس}.
والتقسيم في قوله: {يا أيها الذين آمنوا كلوا}، ثم {ولا تأكلوا أموالكم}.
ثم جاء بعد ذلك حديث عن الإنفاق، وهو الركيزة الثانية، أو الجناح الآخر للاقتصاد.
فالاقتصاد كسب، وإنفاق؛ فقيل أولًا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
ثم يتصاعد هذا الحديث عن وجوه الإنفاق، فيذكر مرة أن الإنفاق {لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215].
ثم وجوه الإنفاق على النكاح ومستتبعاته، ثم الصدقات، ثم تحديد نوع المال المنفق، وأنه لابد أن يكون من الطيبات، ويظل الإلحاح على النفقة، وتهذيبها وتحري الطيبات منها، والتوجه بها إلى الله تعالى وحده... إلخ.
وهذا يوضح أن الحديث عن الإنفاق زاد بكثير على الحديث عن الكسب، فَلِمَ؟
في نظري لأن القصد من الكسب هو الإنفاق، ولم يكن الكسب يومًا غايةً لذاته.
ثم تعاود السورة الحديث عن ضرب آخر من الكسب، وهو الكسب الربوي، وبينت خطورته، وإثم من يتعاطاه.
ثم جاءت آية المداينة، لكنها فصلت عن الحديث عن الربا بآية تحذيرية، وهي آخر آية نزلت من القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
ووضعها بين آيات الربا وآية الدين يفيد أنها تحذر من الربا وما يؤدي إليه.
أما الربا فقدّم عليها، وأما ما يؤدي إليه فتأخر عنها، فكأن الآية توسطت بين الربا وبين الديون، وهي الباب المؤدي إلى الربا غالبًا.
وهذا الترتيب- أعني وضع آيات الربا، ثم التذكير بالرجوع إلى الله تعالى، ثم آية المداينة- هذا الترتيب يعد من أبلغ ألوان التحذير؛ لأن النفوس مازالت في خوف وترقب، واستشعار الغضب الإلهي بسبب الربا.
وحين تأتي آية المداينة في هذا الجو المفعم بالخشية، والرعب، والحذر، والترقب؛ فإن النفوس تضفي على المداينة، وأنواعها ألوانًا من التحذيرات التي مازالت عالقة بها من الربا الذي هو حرب لله تعالى ورسوله، ومن مشاهد القيامة التي تجعل الولدان شيبا، ولا شك أن آية المداينة حين صاحبت آيات الربا قد أصابها من وعيدها، وتهديد أصحابها، والمبالغة في إنذارهم الكثير.
ولم لا والديون بوابة الربا، ومفتاح من مفاتيحه؟!
ولم لا وأكثر الخصام بين الناس يكون بسبب تلك المعاملات؟!
ولم لا وآية المداينة قد امتلأت بالأشواك التي تحتاج إلى حذر شديد عند التعامل بها؟!
فإذا توجه البحث إلى النظر في وجود آية المداينة في خواتيم سورة البقرة لتبين أنها جاءت بعد طريق طويل، سلكت فيه السورة كل سبيل لترسخ قواعد التوحيد، وتفصل شرائع الإسلام، وتربط كل ذلك بالبعث والنشور والرجوع إلى الله تعالى.
وهذا يعني أن النفوس في تعاملاتها المادية تحتاج إلى توطئة طويلة من الأوامر الدينية، كما تحتاج إلى ضوابط صارمة من الأوامر والنواهي، في هذا المضمار؛ ولذلك لا توجد آية قرآنية حوت من المحاذير ما حوته آية المداينة.
إن الحديث عن الاقتصاد الإسلامي من الأهمية بمكان؛ لأنه ركيزة من ركائز ثبوت الدين، ودوامه، وانتشاره؛ ولذلك وضع في أول سورة قرآنية بعد الفاتحة.
والبدايات دائمًا تكون كالأسس والدعائم لكل بنيان، فإذا نظرنا إلى الإسلام كبنيان نلحظ أنه يقوم على ركيزتين:
الأولى: عقيدة راسخة تثمر عبادة وأخلاقًا.
والأخرى: قوةٌ تحمي هذه العقيدة وتلك العبادة، وتضمن بقاء الأخلاق وانتشارها، ومن أجل ذلك كان محور سورة البقرة يدور حول هذين الأمرين؛ لأن الخلل فيهما هدمٌ لمعالم الأمة المسلمة وتفتيت لأركانها، ولا يقوى أحدهما إلا في قوة الآخر؛ فالأمة التي تُعنى بالعقيدة ولا تعنى بالقوة التي تحمي هذه العقيدة لابد أن يأتيها عدو يزلزل هذه العقيدة.
ومن هنا تتبين علاقة هذه الآية بالسورة عامة، وبالمقصود الأعظم منها، وهذه العلاقة تتضح، وتنكشف في مواضع، وتخفى وتستكن في مواضع أخرى، لكن في النهاية تظل علاقة الآيات كعلاقة الأنساب في عالم الإنسان، وكأن السورة في الذكر الحكيم قبيلة في أمة يربطها أصل واحد، وإن اختلفت صور أفرادها وأشكالهم، وألوانهم، لكنهم جميعا إلى رجل واحد.