فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الذين خرجوا عن الدين القيّم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وخانوا وغدروا، ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [20]
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ} وهم الناسون الغادرون {وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم.
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} أي: بالنعيم المقيم.
تنبيهان:
الأول: قال الزمخشري: استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر. انتهى.
وردّ الاستدلال بذلك أحد أئمة الشافعية، وهو برهان الدين في (تفضيل السلف على الخلف) بما مثاله:
احتج بهذه الآية بعض الشافعية في مسألة قتل المسلم بالذمي، وهذا في غاية الضعف، لأن أحدا لم يسوّ بينهما، وإيجاب القصاص ليس بتسوية، لأنه ما من متباينين في وجوه، إلا وقد استويا في وجوه أو وجوه؛ فلا يكون إيجاب القود استواء كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواء. فهذا الكلام من ضعف نظره في مورد الانتزاع من شواهد الفرقان. انتهى.
الثاني: قال أبو السعود: لعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء، من جهتهم، لا من جهة مقابليهم؛ فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا، وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص، وعليه قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16]، إلى غير ذلك من المواقع، وأما قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، فلعل تقديم الفاضل فيه، لأن صلته ملكة لصلة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها. انتهى.
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [21]
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القرآن} أي: الجامع للمواعظ، الموجب للنظر والتقوى بكل حال، {عَلَى جَبَلٍ} قال المهايمي: أي: بتفهيمه له، وتكليفه بما فيه، بعد إعطاء القوى المدركة والمحركة، {لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا} أي: متذللا لعظمة الله {مُّتَصَدِّعًا} أي: متشققا {مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} أي: مع عظم مقداره، وغاية صلابته، وتناهي قساوته. قال القاشاني: أي: قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول، إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي: وتلك الأمور، وإن كانت وهمية، مفروضة، فلابد من اعتبارها وضربها للناس الذين نسوا صغر مقدارهم فتكبروا، ولينهم فقست قلوبهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: ليعلموا أنه أولى بذلك الخشوع والتصدع.
قال الزمخشري: الآية تمثيل كما مرّ في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وقد دل عليه قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} والغرض توبيخ الْإِنْسَاْن على قسوة قلبه، وقلة تخشعه، عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره.
ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه، مع أنه:
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السلام الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [22- 24]
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: المعبود الذي لا تنبغ العبادة والإلوهية إلا له {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: ما غاب عن الحس وشوهد {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أي: المنعم بالنعم العامة والخاصة. ومن كان مطلعًا على الأسرار يحب أن يخشع له ويخشى منه، لاسيما من حيث كونه منعمًا؛ إذ حق المنعم أن يخشع له، ويخشى أن تسلب نعمه.
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} أي: الغني المطلق، الذي يحتاج إليه كل شيء، المدبر للكل في ترتيب نظام لا أكمل منه {الْقُدُّوسُ} أي: المنزه عما لا يليق بجلاله، تنزها بليغًا {السلام} أي: الذي يسلم خلقه من ظلمه أو المبرأ عن النقائص كالعجز {الْمُؤْمِنِ} أي: لأهل اليقين بإنزال السكينة، ومن فزع الآخرة {الْمُهَيْمِنُ} أي: الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلائه وحفظه {العَزِيزُ} أي: القوي الذي يغلِب ولا يُغلب {الْجَبَّارُ} أي: الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، والذي لا يخرج أحد عن قبضته، قاله الغزالي في (المقصد الأسنى).
وقال الإمام ابن القيم في (الكافية الشافية):
وكذلك الْجَبَّارُ من أوصافه ** والجبر في أوصافه قِسمانِ

جبرُ الضعيف وكل قلب قد غدا ** ذا كسرة فالجبرُ منه داني

والثانِ جبر القهر بالعز الذي ** لا ينبغي لسواه من إنسان

وله مسمَّى ثالث وهو العلوّ ** فليس يدنو منه من إنسان

من قولهم جبَّارة للنخلة ال ** عليا التي فاتَتْ بكل بَنَانِ

{الْمُتَكَبِّرِ} أي: الذي يرى الكل حقيرًا بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: من الأوثان والشفعاء.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} أي: المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته {الْبَارِئُ} أي: الموجد لها بعد العدم {الْمُصَوِّرُ} أي: الكائنات كما شاء.
{لّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} أي: الدالة على محاسن المعاني، وأحاسن الممادح.
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: في تدبيره خلقه. وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم.
تنبيهات:
الأول: قال السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق): مقام معرفة كمال الرب الكريم، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد الذي لابد منه؛ لأن كمال الذات بأسمائه الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم، ولذلك عُدَّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكايدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلًا وسمعًا فذموا الأمر المحمود، ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي، والجحد المحض، وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة، قال الله جل جلاله:
{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [الأعراف: 180]. وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. فما كان منها منصوصًا في كتاب الله وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهر اسم ذمّ لله سبحانه. وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته. وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفًا في صحته، لم يصح استعماله، فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمَّى به.
ثم قال: وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلمًا تركا تخريجه مع رواية أوله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه. ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضًا لفضل الله العظيم في وعده من أحصاها بالجنة، كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء، فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر، وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص.
ثم أطال رحمه الله في ذلك وأطاب. فليرجع إليه النَّهِمُ بالتحقيقات.
الثاني: قال الغزاليّ في (المقصد الأسنى)- وهو من أنفس ما ألف في معاني الأسماء الحسنى-: هل الصفات والأسامي المطلقة على الله تعالى تقف على التوقيف، أو تجوز بطريق العقل؟ والذي مال إليه القاضي أبو بكر الباقلاني أن ذلك جائز، إلا ما منع منه الشرع، أو أشعر بما يستحيل معناه على الله تعالى. فأما ما لا مانع فيه فإنه جائز. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمة الله عليه، أن ذلك موقوف على التوقيف، فلا يجوز أن يطلق في حق الله تعالى، إلا إذا أذن فيه.
والمختار عندنا أن نفصل ونقول: كل ما يرجع إلى الاسم، فذلك موقوف على الإذن، وما يرجع إلى الوصف، فذلك لا يقف على الإذن، بل الصادق منه مباح دون الكاذب. ثم جوّد رحمه الله البيان بما لا غاية بعده.
الثالث: قال السيد المرتضى في {إيثار الحق}: قد تكلم على معانيها جماعة من أهل العلم والتفسير، وأكثرها واضح. والعصمة فيها عدم التشبيه، واعتقاد أن المراد بها أكمل معانيها الكمال الذي لا يحيط بحقيقته إلا الله تعالى.
ثم قال: ولابد من الإشارة هنا إلى أمر جمليّ، وهو أصل عظيم، وذلك تفسير الحسنى جملة: فاعلم أنها جمع الأحسن لا جمع الحسن، وتحت هذا سر نفيس: وذلك أن الحسن من صفات الألفاظ، ومن صفات المعاني، فكل لفظ له معنيان: حسن وأحسن، فالمراد الأحسن منهما حتى يصح جمعه حُسْنَى، ولا يفسر بالحسن منهما إلا الأحسن بهذا الوجه. ثم بّين مثال ذلك فانظره. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الحشر:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود. حقيقة تسبيح كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض لله، واتجاهها إليه بالتنزيه والتمجيد.. تفتتح السورة التي تقص قصة إخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وإعطائها للمؤمنين به المسبحين بحمده الممجدين لأسمائه الحسنى.. {وهو العزيز الحكيم}.. القوي القادر على نصر أوليائه وسحق أعدائه.. الحكيم في تدبيره وتقديره.
الدرس الثاني: 2- 4 الدعوة للإعتبار مما حدث لبني النضير:
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة:
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. والله هو فاعل كل شيء. ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها.
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية:
{ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله}..
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا. وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون!