فصل: سابعا: علاقة الآية بأول سورة البقرة وآخرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سابعا: علاقة الآية بأول سورة البقرة وآخرها:

لا شك أن آية المداينة خيط من خيوط السورة، وعنصر من عناصرها، وهذا العنصر يستقي ماءه من جذر السورة، أو المقصود الأعظم، ويرتبط بالباقي برباط يدق في موضع، ويعظم في آخر.
والذي لابد من الالتفات إليه هو النظر إلى الآية على أنها ختام آيات التشريع في سورة البقرة، والتشريع ما هو إلا رافد كبير من روافد النهر الذي أشارت إليه المقدمة.
كيف هذا؟
إن الجمع بين آية المداينة وأول سورة البقرة يلحظ فيه مايلي:
أولًا: حدثتنا السورة في بدايتها عن عدة معان:
الكتاب، نفي الريب عنه، هداية المتقين، الإيمان بالغيب.
وهذه المعاني شاخصة في آية المداينة،فأول شيء في الآية بعد النداء هو قوله تعالى: {فاكتبوه}.
ثم تتابعت هذه اللفظة بصور متعددة فقيل: وليكتب- كاتب- كاتب- يكتب- فليكتب- تكتبوه- كاتب.
وهذه الكثرة في مادة الكتابة ليست إلا لحفظ وضمان الحقوق من الضياع أو النسيان أو الإنكار، وكل ذلك يتصل بالكتابة اتصالًا وثيقا.
ثانيا: تحدثت الآية عن الغاية من الكتابة، والتوثيق؛ وهي نفي الريب، وذلك في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282].
وكذلك أول البقرة حيث قيل: {لا ريب فيه هدى}.
فكأن نفي الريب عن الكتاب اشتق منه نفي الريب عن الكاتبين للديون.
ثالثًا: تحدثت الآية عن أن هذا التشريع يؤدي إلى تقوى الله تعالى؛ فقالت: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].
وكذا أول البقرة قيل فيه: {هدى للمتقين}.
ففي آية المداينة يحقق التوثيق تقوى الله تعالى، وفي أول البقرة يحقق الكتاب تقوى الله تعالى.
وهكذا نجد لُحمة النسب، والماء الجاري بين الآيات ماءً واحدًا وإن اختلفت مجاريه.

.علاقة الآية بختام سورة البقرة:

جاء في ختام سورة البقرة قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:284].
وهذا تذكير بأن أخذ الديون وردها أو أكلها سحتًا لن يخرج عن ملكوت الله تعالى وتقديراته.
ثم إن ختام السورة تعرض لما يجول في نفوس الناس وهذه الخواطر وتلك الخلجات لها علاقة وثيقة بالديون: من حيث نية الأداء، أو نية الإتلاف، كما جاء في الحديث: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّ الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله». فالنية وما يدور في النفس هو ما عليه مدار الحساب.
أضف إلى ذلك امتلاء الآية بهذه الأوامر وتلك النواهي، والشروط، مما يستوجب السمع والطاعة، كما جاء في ختام البقرة: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
ثم إن الدَّين وهو عبء ثقيل، بل هو هم بالليل وذل بالنهار لايبعد عن قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286].
وهكذا تتشابك الخيوط وإن بعدت المسافات بين الآية وأول السورة، وختام السورة مما يزيد من وحدة الهدف، وهذا يقوي معني أن السورة القرآنية شبكة واحدة يجمعها نمط من الخيوط المتوازية تارة، والمتقابلة تارة أخرى، والمتجانسة تارة ثالثة... إلخ.

.ثامنًا: وجه البلاغة في طول الآية:

لا يشك أحد في أن تحديد فواصل الآيات، ورؤوسها توقيف من الله تعالى حيث تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن رب العزة جل وعلا.
والسؤال الذي يطرح نفسه:
ما وجه جمع كل هذه المعاني والأغراض في آية واحدة، وقد كان من الممكن- عقلًا- أن تُجزّأ هذه الآية إلى عدة آيات؟
لكن هذا لم يحدث؛ حيث احتلت الآية صفحة كاملة من المصحف الشريف، وضم بعضها إلى بعض، حتى صارت آية واحدة.
والذي أراه أن هذا الطول لون من ألوان التحذير؛ لأن طريق الديون طريق طويل، مليء بالعقبات، كما أن آثار الديون لا تزول سريعا، بل تبقى عالقة بالنفوس،مثل الألم الذي لا يزول حتى بعد العلاج، وكأن طول الآية يوحي بأفضلية عدم التداين؛ لأنه بابُ خطرٍ؛ فالصبر أولى منه لمن يريد الاقتراض.
وهكذا تحاول الآية أن تصرف الناس عن دروب التداين إلى طريق آخر؛ فطالت؛ ليشق عليهم جمعها وقراءتها.
وأمر آخر:
وهو أن الآية جمعت شروطا وضوابط لضمان الحقوق، فموضوعها واحد، فلما اتحد موضوعها جُمعت في آية واحدة.
فإن قيل: فإن الآية التي بعدها موصولة بها، قلت: إن الآية التي بعدها في شأن الرهن، وهو باب آخر، حتى وإن كان فيه تداين، لكنه خاص بما يكون أثناء السفر حالة عدم توفر الكاتب، وآية الدين في أثناء الإقامة، فلما كان هناك نوع اختلاف فصلت هذه عن تلك.
ووجه ثالث:
وهو أن الآية بطولها هذا أصبحت من الشهرة بمكان، مما جعلها موطن حضور في حديث المسلمين، وتدارسهم للقرآن الكريم، وهذا يستتبعه استحضار ما فيها من قيود دائما.
فإذا ضم هذا المعنى إلى ما بين الناس من تعاملات مالية، وأغلبها في ميدان الديون لعرفنا أن هناك علاقة وثيقة بين طول الآية وما شاع بين الناس من تعاملات؛ حيث وضع القرآن الكريم أشهر آية لتكون علاجًا لأشهر المعاملات.
فالمشهور الشائع في القرآن علاج للمشهور الشائع في المعاملات، وهذا توافق عجيب.
ووجه رابع:
وهو أن هذه الآية ذكرت في أطول سورة في القرآن الكريم، فهناك مناسبة بين طول الآية وطول السورة، وبخاصة أنها من آيات الأحكام، ومن سمات هذا الضرب من الآيات التفصيل والإسهاب؛ حتى لا تكون المعاملات موضع اجتهاد أو أخذ ورد وبخاصة أن الآية تتحدث عن المعاوضات المالية التي هي أصل كثير من النزاعات بين الناس، ولما كانت هذه المعاوضات متنوعة إلى ديون وتجارات، استلزم ذلك الإسهاب؛ استقصاءً لهذه الحالات المشار إليها.
وزاد من ذلك: أن الآية سلكت في معالجتها سبيل درء الشبهات، وسد الذرائع المؤدية إلى المنازعات، وأخذ الحيطة، وذلك كله يستلزم الإسهاب والإطناب في العرض؛ ليواكب زخم هذه الأساليب العلاجية التي حوتها الآية.

.تاسعًا: آية المداينة بين التثقيف والتكليف:

إن القرآن الكريم- والذي تمثل آية المداينة لبنة من لبناته- معنيٌ بتثبيت الحكم، كما أنه معنيٌ في الوقت نفسه بتهيئة القلوب لتقبّل هذا الحكم؛ ولتقتنع به، وتقبل عليه إقبال الشغوف، وليس من البلاغة بيان الحكم دون تهيئة النفوس لاستقباله، كما أنه ليس من البلاغة أيضًا الكشف عن المعاني الوجدانية الآسرة للقلوب الباعثة على الأريحية دون تحديد المراد.
والمقصود من الكلام أن البلاغة العالية هي التي تمزج بين الرافدين: بين أحكام الشريعة الضابطة لحركة الحياة، والمعاني الروحية الباعثة على النشاط للتمسك بهذه الأحكام.
من هنا كان المعنى القرآني مزيجا متفاعلًا من عنصرين: التشريعي- وينطوي فيه العَقَدي- والروحي؛ الماثل في غرس القناعة الفكرية، والطمأنينة الوجدانية بهذا العنصر التشريعي في قلب المكلَّف.
ولا تكاد تجد معنى قرآنيا إلا وهو وليد التفاعل بين هذين العنصرين، على اختلاف في مقادير هذين العنصرين ودرجات ظهورها.
وقد يظن أن ثم ما هو مشغلة الفقهاء وحدهم، وهو المسمى بآيات الأحكام، ولا سبيل للبلاغي إلى تدبره إذ إن مشغلة البلاغي عندهم المعاني الروحية، وأن ثمة ما هو مشغلة البلاغيين دون الفقهاء كالقصص القرآني.
وذلك نهج خاطئ، إن لم يكن آثما؛ فما من آية إلا قد تَشكَّل معناها من الشرع والروح معًا، ومنزلها من السياق الكلي للسورة هو الذي يبرز عنصرا على آخر، وبناؤها اللغوي هو الذي يمنح عنصرا جلاءً وقربًا إلى الإدراك دون الآخر.
وفي جميع الأحوال يظل ارتباط الحكم بالمحرضات على قبوله، وارتباط الشرع بالدوافع المؤثرة في قبوله،يظل هذا الارتباط قائمًا لا ينفك في جميع آي القرآن؛ يقول المرحوم سيد قطب في قيام هذا الرابط في آية المداينة: ارتباط التشريع بالوجدان الديني في الآية ارتباط لطيف المدخل، عميق الإيحاء، قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية، وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد، وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها، ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها.
إن الإعجاز هو صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء، والتوجيه، بل هو أوضح وأقوى؛ لأن الغرض هنا دقيق يُحرِّفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ.
وعلى سبيل المثال: لقد صُدّرت الآية بذلك النداء: {يا أيها الذين آمنوا} وفي خصائص نظمه واصطفاء عناصره على هذا النحو دلالة على إلزامهم بما دخلوا فيه طوعًا من إيمان وتسليم، وإشارة إلى أن إيمانهم لا يزال فعلًا، وأنهم ما يزال فيهم بقية من غفلة، لكن أيضا فيهم تشريف لهم بتعريفهم بخير صفاتهم، وتشريفهم بمباشرة الحق- عز وجل- نداءهم دون قوله:- {قل يا أيها الذين آمنوا}-، وهذا التكليف والتذكير والتشريف المحتضن في رحم النظم، متناسق أيما تناسق مع ما هو آت من بعد.
هذا نمط واحد يحمل التشريف والتكريم، كما يحمل التذكير بالغفلة، والحث على نقضها، وهكذا تفاعلَ في العنصر الواحد عاملان من عوامل الحض والتهيئة لاستقبال الأوامر والنواهي القادمة في: فاكتبوه- وليكتب- واستشهدوا.. إلخ.
ثم تعاود الآية ذكر ما يهيج النفوس وُيزجي أوارها، فيقال للكُتّاب: {كما علمه الله}، هذا عنصر من عناصر التثقيف المحرضة على قبول الأمر.
ثم يؤتى بالتكليف فيقال: {فليكتب وليملل الذي عليه الحق} ثم يأتي تثقيف آخر، أو محرض آخر فيقال: {وليتق الله ربه} فيتبعه تكليف وهو {ولا يبخس منه شيئا}.... وهكذا تظل الآية تراوح وتمازج بين التكليف والتثقيف على نحو بارز؛ لتُقبل النفوس على التكاليف إقبال رغبةٍ وشغف، وتلذذ، فترى فيما كلفت به من شرائع لذة ومتعة واسترواح.
بل إن هذا المزج لا تحس معه أي نفس مرهفة بأي شيء من التباين والتفاضل، على الرغم مما قد يظن أن البيان التكليفي يقتضي غير ما يقتضيه البيان التثقيفي، ألفاظًا وتوقيعًا صوتيًا... إلخ.
وهذا المزج الذي لا يكاد يفصل بعضه عن بعض بين الخطاب التكليفي والخطاب التثقيفي يشير إلى حرص القرآن الكريم على إحاطة التكاليف بالبواعث التي تضعها موضع التنفيذ السريع، وذلك ضرب من ضروب علاقات المعاني، وهي لب البلاغة ومعدنها، والذهب الإبريز الذي يتطلب البحث عنه والتعب من أجله؛ يقول الإمام عبد القاهر: واعلم أن غرضي من هذا الكلام الذي ابتدأته، والأساس الذي وضعته، أن أتوصل إلى بيان أمر المعاني، كيف تختلف وتتفق، ومن أين تجتمع وتفترق، وأفصل أجناسها وأنواعها، وأتتبع خاصها ومشاعها...إلخ.
أضف إلى ذلك أن قمة الجمال اللغوي أن يأتي الكلام موافقًا لطبيعة النفس البشرية، ومنسجمًا مع مداخلها، ومخارجها.
ولاشك أن النفس البشرية تنفر من التكاليف المجردة، وتتأبى على الأوامر العارية من النصح، ومن المثيرات والمحرضات، لكنها في الوقت نفسه تحب المقدمات وتُثار للمحرضات، وتسرع إلى كل شيء كانت قد هُيئت له، وكما قال عبد القاهر: إن إعلامك الشيء بغتة ليس كإعلامك له بعد توطئة.
تلك فطرة النفس البشرية التي لم يغفلها القرآن الكريم، حيث وضع المحرضات قبل، أو بعد، أو في أثناء التكاليف حتى ترغب في أدائها النفوس.
والعجيب أن آية الدين جمعت بين الأصناف الثلاثة؛ حيث سُبقت بأبلغ آية_ وآخر الآيات نزولًا- وأكثرها دفعًا وتحريضًا إلى الامتثال، وهي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
ثم جاءت بعد آية المداينة عدة آيات أخرى باعثة ومحرضة، وذلك قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284].
كما اختلطت الآية بالبواعث والمحرضات من مثل: {وليتق الله ربه} ومثل {ذلكم أقسط عند الله} ومثل {واتقوا الله ويعلمكم الله}.
وهذا يعني: أن الدَّين حمل ثقيل على كلا الطرفين، بل على جميع الأطراف: الدائن والمدين والشهود والكاتب، بل على الأمة كلها، وهذا يفسر وجه استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم منه، حيث يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال».