فصل: الفصل الثالث: التحليل البلاغي للآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الثالث: التحليل البلاغي للآية:

.التحليل البلاغي لأسلوب النداء في: {يا أيها الذين آمنوا}:

الخطاب هنا موجه للمؤمنين؛ أي لمجموعهم، والمقصود منه: خصوص المتداينين، والأخص بالخطاب هو المدين؛ لأنه من الحق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله، فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة، وإن لم يسألها الدائن.
ويؤخذ هذا مما حكاه الله تعالى في سورة القصص عن موسى وشعيب عليهما السلام؛ إذ استأجر شعيب موسى، فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها، قال موسى: {والله على ما نقول وكيل} فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجرِه دون أن يسأله شعيب ذلك.
وحرف النداء يا له من الخصائص ما ليس لغيره، فهو أصل حروف النداء، وأكثر حروف النداء استعمالا، ولا يُقدَّر عند الحذف سواه، ولا ينادى اسم الله- عز وجل- واسم المستغاث، وأيها، وأيتها، إلا به.
قال النحاة: يا أم الباب، ولها خمسة أوجه من التصرف:
أولها: نداء القريب والبعيد. وثانيها: وقوعها في باب الاستغاثة دون غيرها.
ثالثها: وقوعها في باب الندبة ورابعها: دخولها على أي.
وخامسها: أن القرآن المجيد مع كثرة النداء فيه لم يات فيه غيرها.
ومن دلالة هذا النداء وخصائص نظمه، واصطفاء عناصره على هذا النحو يبدو فيه ما يدل على إلزامهم بما دخلوا فيه طوعا من إيمان وتسليم.
فهم الذين ارتضوا هذا الدين وآمنوا به وسلموا لأوامره ونواهيه، وكأن النداء تذكير لهم بما التزموا به، وارتضوا؛ فقيل لهم: {يا أيها الذين آمنوا}.
كما أن في اصطفاء لفظ {آمنوا} على هذا النمط- حيث جاء فعلًا- إشارة أخرى إلى أن إيمانهم لا يزال فعلًا، وأنه ما يزال فيهم بقية من غفلة وليدخل فيه عموم من دخلوا في الإيمان، وليس خصوص المؤمنين؛ لأنه مما لا شك فيه أن هناك فرقًا بين أن يقال: يا أيها المؤمنون و{يا أيها الذين آمنوا}؛ فالمؤمنون أعلى منزلة، وأكثر إيمانًا من الذين آمنوا؛ ذلك لأن الإيمان في المؤمنين صار اسمًا لهم، وصفة ثابتة، أما الذين آمنوا؛ فالإيمان لديهم لا يزال فعلًا، ولم يرق إلى مرحلة الثبوت، وفرق بين هذا وذاك.
وعلى كلٍّ، فإن النداء عليهم تشريف لهم بتعريفهم بخير صفاتهم.
وزد على ذلك أن النداء عليهم صادر عن الحق سبحانه وتعالى وليس هناك وسيط بينه وبينهم، وفي ذلك أيضا من التشريف ما فيه وهذا التكليف والتذكير، والتشريف المحتَضَن في رحم النظم متناسق أيما تناسق مع ما هو آت من بعد.
ونخلص من كل ذلك أن هذا النداء يحمل عدة معانٍ:
1- عموميته؛ حيث يدخل فيه القريب والبعيد.
2- تذكير المنادى بما التزم به من إيمان؛ ليكون دافعًا له إلى التسليم والطاعة.
3- الإلماح إلى نقص إيمانهم؛ فما زالوا يُؤمرون ويُنهون؛ ففي التزامهم إكمال لهذا الإيمان، وإتمام لهذا البناء.
4- إرفاق كل ذلك بالتشريف، والتقدير، فهم موصولون بالله تعالى،لمباشرته ندائهم.
تلك بعض المعاني الملحوظة من خلال هذا النداء.

.فقه دلالة أداة الشرط في قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين}:

يرى النحاة أن هذه الأداة ليست نصا في الشرط، والسبب الذي من أجله لا يستخدمونها في الشرط أنها تجيء وقتاٍ معلومًا، ومعنى ذلك أنها إنما تعيّن نقطة التقاء حدثين في المستقبل، دون أن تجعل حدوث أحدهما مشروطًا بحدوث الآخر، ولكنها في الشعر تضطلع بتلك الوظيفة الشرطية، فتجمع إلى تعيينها نقطة التقاء الحدثين في المستقبل ترتب حدوث أحدهما على الآخر.
والنحاة يشعرون بأن الأصل في الأدوات الشرطية العمل، وأن الجزم سمة من سمات الأداة الشرطية، لذلك وصفوا الأدوات العوامل بأنّ فيها معنى الشرط.
وعلى هذا فإن إذا الشرطية تختص بالدخول على الجملة الفعلية، وما جاء على غير ذلك فمؤول؛ محافظة على قاعدة الاختصاص وفعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى، فإن جاء ماضيًا كما هو الحال في الآية- أُوِّل بالمستقبل، كما أن من لوازم إذا الشرطية أنها تختص بدخولها على المتيقن، والمظنون، والكثير الوقوع، بخلاف إن فإنها تستعمل في المشكوك، والموهوم النادر؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فأتى ب {إذا} في الوضوء لتكراره وكثرة أسبابه، وب {إن} في الجنابة، لقلة وقوعها، بالنسبة إلى الحدث.
وقيل: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131].
وقيل: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الروم: 36].
أتى في جانب الحسنة ب {إذا}؛ لأن نعم الله على العباد كثيرة، ومقطوع بها، وب {إن} في جانب السيئة؛ لأنها نادرة الوقوع، ومشكوك فيها.
ولعل إذا هنا تصف واقعًا يعيشه المسلمون الآن، مع أن الأصل في الدَّين أن يكون استثناءً، واضطرارًا، أو على الأقل يكون في منزلة أقل من البيع الناجز، لكن شيوع {إذا} في الآية يثبت العكس، وكأن القرآن الكريم يقول: إن الناس سيتخذون التداين أساسًا للبيع والشراء، وهذا واقع نحياه الآن؛ فالمعاملات التجارية جلها الآن تقوم على الديون، حتى أصبح البيع الناجز هو الاستثناء، وهنا تكمن الخطورة.

.البيان بالفعل: {تداينتم}:

وهو فعل ماضٍ مبني على السكون؛ لاتصاله بضمير رفع متحرك، مع وجود الميم الدالة على الجمع، والفعل على وزن تفاعلتم، وهو بمعنى: اداينتم وكل منهما يأتي بمعنى الآخر، مثل: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72].
قال الزركشي: هو تفاعلتم، وأصله: تدارأتم، فأريد منه الإدغام تخفيفًا، وأُبدل من التاء دالٌ فسكن للإدغام، فاجتُلبت لها ألف الوصل، فحصل على افّاعلتم.
والأصل في الصيغتين، أعني افّاعلتم، وتفاعلتم هي الثانية، وهي التي معنا في {تداينتم}؛ لأن الأولى حدث فيها إدغام، وهو لاحق على عدم الإدغام، كما أن في ألف الوصل، وهي مجلوبة للنطق بالساكن؛ ولذلك اوِّل المفسرون صيغة افاعلتم بتفاعلتم.
ومن ذلك قول الطبري في قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الأعراف: 38] إنما هو تداركوا.
وفي نحو: {اثّاقلتُم} يقول القرطبي: أصله: تثاقلتم أُدغمت الثاء في التاء لقربها منها، واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن، ومثله: اداركوا، وادّارأتم، واطّيرنا، وازّينت.
وعند العكبري في التبيان يقول: قوله: {فادّرأتم} أصل الكلمة تدارأتم، ووزنه: تفاعلتم، ثم أرادوا التخفيف، فقلبوا التاء دالًا؛ لتصير من جنس الدال، التي هي فاء الكلمة؛ لتمكن الإدغام، ثم سكّنوا الدال؛ إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكنًا، فلم يمكن الابتدء بالساكن، فاجتلبت له همزة الوصل، فوزنه الآن افاّعلتم بتشديد الفاء، مقلوب من تفاعلتم، والفاء الأولى زائدة، ولكنها صارت من جنس الأصل؛ فيُنطق بها مشددة،لا لأنهما أصلان، بل لأن الزائد من جنس الأصل. ومع كل هذا يبقى السؤال: ما وجه اصطفاء {تداينتم} دون اداينتم؟
إن صيغة اداينتم تشعر بأنهم الغُرماء، وأن المؤمنين جميعًا مدينون لغيرهم، وهذا غير مقصود؛ لأن الدائن، والمدين في الآية من المؤمنين، وهذا مفهوم من الفعل {تداينتم}؛ ولذلك قال ابن جريج: من ادَّان فليكتب، ومن باع فليُشهد.
فاختيار صيغة افتعل لأن المقصود: مَنْ أخذ دينًا، أو اشترى بدين، فعليه الكتابة.
أما لو قيل: من تداين لفُهِم منه: من تعامل بدين، سواء أكان دائنًا أم مدينًا، وعليه فالصيغة الواردة في الآية توحِي بأن الأصل في المجتمع المسلم أن تكون حركة بيعه وشرائه وتعاملاته بينه وبين بعضه، وأنّ تعامله مع الآخرين يخرج عن الأصل إلى الضرورة.
كما أن وضع الفعل {تداينتم} في إطار الشرط يفيد هذا النوع من التعامل، فالديون والتعامل بها لابد أن يكون في إطار الضرورات، وليس العكس، مما يترتب عليه التضييق على هذا النوع من التعامل.
فإذا أضيف إلى كل ذلك معنى الدّين، وأنه يفيد الخضوع، والذل، لعلمنا أن الآية من بدايتها تحذر المؤمنين حتى يحُدُّوا من هذه المعاملات القائمة على الديون.

.دلالات البيان في قوله: {بدين}:

يرى البعض أن الجار والمجرور {بدين} تأكيد لقوله: {تداينتم}، مثل قول الله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه}، وقوله: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون}.
فإن قال قائل: وما وجه قوله: {بدين} وقد دل بقوله: {تداينتم} عليه؟
وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال دَيْن؟
قيل: إن العرب لمَّا كان مقولا عندهم تداينا بمعنى: تجازينا، وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بِدَيْن، أبان الله تعالى بقوله: {بدين} المعنى الذي قصد تعريفه من قوله: {تداينتم} حكمته، وأعلمهم أن حكم الدين دون حكم المجازاة. وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون}.
ولا معنى لما قالوا في هذا الموضع. يقول العلامة أبو السعود: إن فائدة قوله- بدين- هي: تخليص المشتَرك، ودفع الإيهام قصدا؛ لأن تداينتم يجيء بمعنى: تعاملتم بدين، وبمعنى: تجازيتم، ولا يُرَدُّ عليه بأن السياق يرفع الإيهام؛ لأن السياق قد لا ينتبه إليه الفَطِن، وقد ذُكر ليرجع الضمير إليه؛ إذ لولاه لقيل: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذوي الذوق بأساليب الكلام. واعتُرض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب: {اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر، بل هو أحد العوضين، ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق، ولا يُكتفى به في معرض البيان، لاسيما وهو مُلبس.
وقيل: ذكر؛ لأنه أبين؛ لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال؛ لما في التنكير من الشيوع، والتبعيض، لما خص بالغاية، ولو لم يذكر لاحتُمل أن الدين لا يكون إلا كذلك.
وقد يكون استعمال لفظ {بدين} دفعًا لتوهم المجاز؛ ذلك لأن التداين قد يفهم منه معنى الوعد، كما قال رؤبة:
داينت أروى والديون تقضى ** فمطلت بعضًا وأدت بعضًا

فذكر قوله: {بدين} دفعًا لتوهم المجاز.
أي: دفعًا لفهم الوعد؛ أي: واعدت أروى، والوعود تقضى.
فلما كان المجاز غير مراد في الآية، ذكر لفظ {بدين}.
ويلمح الزركشى في ذكر {بدين} مَلْمَحًا آخر يقول فيه: أما قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} فإنما ذكر قوله: {بدين} مع {تداينتم} لوجوه:
أحدها: ليعود الضمير في {فاكتبوه} عليه؛ إذ لو لم يذكره لقال: فاكتبوا الدين.
والثاني: أن تداينتم، مفاعلة من الدَّين بتشديد وفتح الدال، ومن الدِّين بتشديد وكسر الدال، فاحتيج إلى قوله: {بدَين}؛ ليبين أنه من الدَّين لا من الدِّين.
وهذا أيضا فيه نظر؛ لأن السياق يرشد إلى التداين.
الثالث: أن قوله: {بدين} إشارة إلى امتناع بيع الدين، بالدين كما فسره قوله صلى الله عليه وسلم «هو بيع الكالئ بالكالئ»، وبيانه: أن قوله تعالى: {تداينتم} مفاعلة من الطرفين يقتضي وجود الدين من الجهتين، فلما قال: {بدين} عُلم أنه دين واحد من الجهتين.
الرابع: أنه أتى به ليفيد أن الإشهاد مطلوب سواء كان الدين صغيرًا أو كبيرًا، كما سبق نظيره في قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين}، ويدل على هذا هاهنا قوله بعد ذلك: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله}.
الخامس: أن {تداينتم} مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة، وذكر الدين لتمييز المراد.
وهذا الجار والمجرور {بدين} يعدُّ قيدًا آخر، وعقبة أخرى أمام انتشار هذا الضرب من المعاملات؛ لأنه يفيد العموم، ومعنى أن كل دين ينبغي فيه الكتابة؛ فإنه تضييق لهذا الباب، وإلجاء إلى البيع الناجز الذي لا يتبقى فيه شيء في ذمة أحد، والإسلام حريص على صفاء النفوس من كل شاغل.