فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ النِّبْطَ لَمَّا كَانُوا أَحْرَارًا فِي مَمْلَكَةِ أَهْلِ فَارِسٍ فَكَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ ثَابِتَةً فِي أَرَاضِيِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ فَارِسٍ وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ النِّبْطُ كَانَتْ أَرَاضِيُهُمْ وَرِقَابُهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ الْفُرْسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ أَرْضُوهُمْ وَرِقَابُهُمْ فِي مَعْنَى مَا صُولِحَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَمْلِكُونَ أَرَاضِيَهُمْ وَرِقَابَهُمْ لَوْ قَاتَلُوهُمْ.
وَهَذَا وَجْهٌ كَانَ يَحْتَمِلُهُ الْحَالُ لَوْلَا أَنَّ مُحَاجَّةَ عُمَرَ لِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ قِسْمَةَ السَّوَادِ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ دُونَ مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا دَفَعَ عُمَرُ السَّوَادَ إلَى أَهْلِهِ بِطِيبَةٍ مِنْ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ، وَالْأُجْرَةُ تُسَمَّى خَرَاجًا، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَمُرَادُهُ أُجْرَةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى إذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ قال أَبُو بَكْرٍ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَسْتَطِبْ نُفُوسَ الْقَوْمِ فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَرْكِ الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا شَاوَرَ الصَّحَابَةَ وَحَاجَّ مَنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ بِمَا أَوْضَحَ بِهِ قولهُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ وَالْمُحَاجَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نُقِلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قال: كُنَّا رُبُعَ النَّاسِ فَأَعْطَانَا عُمَرُ رُبُعَ السَّوَادِ فَأَخَذْنَاهُ ثَلَثَ سِنِينَ.
ثُمَّ وَفَدَ جَرِيرٌ إلَى عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقال عُمَرُ: وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنِّي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَكُنْتُمْ عَلَى مَا قُسِمَ لَكُمْ، فَأَرَى أَنْ تَرُدُّوهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفَعَلَ، فَأَجَازَهُ عُمَرُ بِثَمَانِينَ دِينَارًا، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقالتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ قَوْمِي صَالَحُوك عَلَى أَمْرٍ وَلَسْتُ أَرْضَى حَتَّى تَمْلَأَ كَفِي ذَهَبًا وَتَحْمِلَنِي عَلَى جَمَلٍ ذَلُولٍ وَتُعْطِيَنِي قَطِيفَةً حَمْرَاءَ، قال: فَفَعَلَ. قال أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَلَّكَهُمْ رِقَابَ الْأَرْضِينَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُمْ رُبُعَ الْخَرَاجِ ثُمَّ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِمْ عَلَى أُعْطِيَّاتِهِمْ دُونَ الْخَرَاجِ؛ لِيَكُونُوا أُسْوَةً لِسَائِرِ النَّاسِ.
وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِطَابَةٍ مِنْهُ لِنُفُوسِهِمْ وَقَدْ أَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّهُ رَأَى رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُهُ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا أَمْرُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ أَعْطَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ السَّوَادِ، وَأَمَّا قولهُ: (إنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةٌ) فَفَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْإِجَارَاتِ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَى الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَهْلَهَا لَمْ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا أَوْ أَحْرَارًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا فَإِنَّ إجَارَةَ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَكَيْفَ جَازَ أَنْ تُتْرَكَ رِقَابُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَلَا تُتْرَكَ أَرَاضِيهِمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَأَيْضًا لَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبِيدَ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ إجَارَةَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَقَدْ أَخَذَ عُمَرُ الْخَرَاجَ مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شِرَى أَرْضِ الْخَرَاجِ وَاسْتِئْجَارِهَا، فَقال أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قول الْأَوْزَاعِيِّ وَقال مَالِكٌ: أَكْرَهُ اسْتِئْجَارَ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَكَرِهَ شَرِيكٌ شِرَى أَرْضِ الْخَرَاجِ وَقال: لَا تَجْعَلْ فِي عُنُقِك صَغَارًا وَذَكَرَ الطحاوي عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِكَارٍ قال: سَأَلَ رِجْلٌ الْمُعَا في بْنَ عِمْرَانَ عَنْ الزَّرْعِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقال لَهُ قَائِلٌ: فَإِنَّك تَزْرَعُ أَنْتَ فِيهَا فَقال: يَا ابْنَ أَخِي لَيْسَ فِي الشَّرِّ قُدْوَةٌ، وَقال الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتَرِيَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ خَرَاجٍ كَمَا يَكْتَرِيَ دَوَابَّهُمْ. قال: وَالْحديث الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» إنَّمَا هُوَ خَرَاجُ الْجِزْيَةِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا» قال عَبْدُ اللَّهِ: وبراذان مَا براذان وَبِالْمَدِينَةِ مَا بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ ضَيْعَةُ براذان وَرَاذَانُ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اشْتَرَوْا مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَمْلَاكٌ لِأَهْلِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِلْمُسْلِمِ شِرَاهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ: أَنَّهُ إنْ أَقَامَ عَلَى أَرْضِهِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ شِرَى أَرْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقال: لَا تَجْعَلْ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي عُنُقِ هَذَا الْكَافِرِ فِي عُنُقِك؛ وَقال ابْنُ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقال: لَا تَجْعَلْ فِي عُنُقِك الصَّغَارَ. قال أَبُو بَكْرٍ: وَخَرَاجُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِصَغَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا كَانَتْ لَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ فَأَسْلَمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهِ وَيَسْقُطُ عَنْ رَأْسِهِ، فَلَوْ كَانَ صَغَارًا لَسَقَطَ بِالْإِسْلَامِ.
وَقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْنَعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال: «وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ؟» وَالصَّغَارُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وقوله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ}، يَعْنِي- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي الْأَنْصَارَ، وَقَدْ كَانَ إسْلَامُ الْمُهَاجِرِينَ قَبْلَ إسْلَامِ الْأَنْصَارِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ.
وقوله تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}.
قال الْحَسَنُ: يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى فَضْلٍ آتَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ: لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ضِيقًا لِمَا يُنْفِقُونَهُ عَلَيْهِمْ.
وقوله تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، الْخَصَاصَةُ الْحَاجَةُ؛ فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِيثَارِهِمْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يُنْفِقُونَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا قال لَهُ: مَعِي دِينَارٌ فَقال: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك فَقال: مَعِي دِينَارٌ آخَرُ فَقال: أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك فَقال: مَعِي دِينَارٌ آخَرُ قال: تَصَدَّقْ بِهِ»، وَأَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَصَدَّقْ بِهَذِهِ فَإِنِّي مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، إلَى أَنْ أَعَادَ الْقول، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَمَاهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَعَقَرْته، ثُمَّ قال: «يَأْتِينِي أَحَدُكُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»، وَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَالرَّجُلُ بِحَالِ بَذَاذَةٍ، فَحَثَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدَقَةِ، فَطَرَحَ قَوْمٌ ثِيَابًا أَوْ دَرَاهِمَ، فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، فَأَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَرَاهَةُ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى النَّفْسِ ثُمَّ الصَّدَقَةُ بِالْفَضْلِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ وَخَشِيَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ إذَا فَقَدَ مَا يُنْفِقُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال: «يَأْتِينِي أَحَدُهُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ؟» فَإِنَّمَا كَرِهَ الْإِيثَارَ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ، فَأَمَّا الْأَنْصَارُ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ فَلَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ كَانُوا كَمَا قال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}، فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ الْإِمْسَاكِ، وَالْإِمْسَاكُ مِمَّنْ لَا يَصْبِرُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْمَسْأَلَةِ أَوْلَى مِنْ الْإِيثَارِ.
وَقَدْ رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قال: أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسُ شَاةٍ، فَقال: إنَّ فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنَّا فَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا تِسْعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ، فَنَزَلَتْ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الْآيَةَ.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قال: جَاءَ رِجْلٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقال: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْتُ أَنْ تُصِيبَنِي هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}، فُو اللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا أُطِيقُ مَنْعَهُ فَقال عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا الْبُخْلُ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ، وَلَكِنَّ الشُّحَّ أَنْ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرٍ حَقِّ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قوله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} قال ادِّخَارُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ.
آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الحشر فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً:
الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قال: قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ، وَهُمْ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السلام نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فَنَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: جَلَاءُ الْيَهُودِ.
الثَّانِي: إلَى الشَّامِ؛ لِأَنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ؛ قالهُ عُرْوَةُ، وَالْحَسَنُ.
الثَّالِثُ: قال قَتَادَةُ: أَوَّلُ الْحَشْرِ نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ إلَى الْمَغَارِبِ، وَتَأْكُلُ مَنْ خُلِّفَ فِي الدُّنْيَا.
وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قال: قُلْت لِمَالِكٍ: هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ؟ فَقال لِي: الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ؛ قال: وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ.
قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
فِي وَقْتِهَا: قال الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَقال ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحديث.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}: وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ، وَلَمْ يَثِقُوا بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ، وَأَبَاحَ حَوْزَتَهُمْ.
وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ.
وَقَدْ قال بَعْضُ الْعَرَبِ: وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى تَوَقِّي الرَّدَى أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ الْمَعْنَى، فَقال:
وَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا ** قراهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُهُ

وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا ** أُولَئِكَ عِقالاتُهُ لَا مَعَاقِلُهُ

وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ ** وَدَعْهُ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: