فصل: مطلب من جحد عهد الحديبية وما يتعلق بالنسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب من جحد عهد الحديبية وما يتعلق بالنسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات:

روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول اللّه قال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد ولو كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، وكره المؤمنون ذلك، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي على ذلك فرد يومئذ أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته، أي رسول اللّه يومئذ أحد من الرجال إلّا ردّه في تلك المدّة وإن كان مسلما، وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول اللّه يومئذ وهي عاتق شابة بأول عمرها وإدراكها، ويقال للّتي بين الإدراك والتّعنيس أو التي لم تتزوج عاتق أيضا، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها لهم فلم يرجعها حتى أنزل اللّه فيهن هذه الآية، قال عروة قالت عائشة إن رسول اللّه كان يمتحنهن بهذه الآية (أي الآتية بصيغة المبايعة)، قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذه الشروط (المذكورة في الآية) منهن قال لها قد بايعت، كلاما يكلمها، واللّه ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله.
قال ابن عباس امتحانهنّ أن يستحلفهن ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا لا لتماسي دينا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحب اللّه ورسوله، وهذا هو الصواب في معنى الامتحان، وما جاء عن عائشة فهو صيغة المبايعة ليس إلا، وإنما كان كذلك لأن رد النساء المؤمنات لم يدخل في المعاهدة، وما قيل إن النساء كن داخلات فنسخ اللّه ردهن فهو تعسف عفا اللّه عن أمثال هذا القائل لأنه وأمثاله شديد والرغبة في النسخ، وقد استقصوا فيه قدرتهم من كل ما تصورته أذهانهم حتى حدا بهم الحال إلى هنا، وما أرى هذا إلا من باب الجرأة على اللّه لأن من يتورع أو يقارب الورع يبعد عليه هذا الخوض إلى هذا الحد.
هذا وقد امتثل المؤمنون ما أمر اللّه به حتى أن عمر طلق زوجتيه المشركتين القاطنتين في مكة وهما فاطمة بنت أميه بن المغيرة وتزوجها معاوية، وكلثوم بنت عمرو الخزاعية وتزوجها أبو جهم بن حذافة، وطلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة وتزوجها بعد في الإسلام خالد بن سعد بن العاص، وأسلمت زينب بنت رسول اللّه فتركت زوجها أبو العاص بن الربيع على كفره في مكة ولحقت بالمدينة ثم أتى وأسلم فردها إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
ولما أبى المشركون أن يقروا بحكم اللّه ورسوله في ذلك أنزل اللّه جل شأنه: {وَإِنْ فاتَكُمْ} أيها المؤمنون {شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} بأن ذهبن مرتدات ولم يردوا إليكم مهوركم لا هن ولا أوليائهن ولا الذين تزوجوا بهن بعدكم {فَعاقَبْتُمْ} به المشركين بأن غزوتموهم وغنمتم منهم أموالا وغيرها {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا} عليهن من هذه الغنيمة وما بقي فاقسموه بينكم كما أمر اللّه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (11) واعلموا أنكم محاسبون على عملكم إذا خالفتم أمره فاعملوا بحكمه فيكم تفوزوا وتنجحوا.
قالوا إن النساء اللاتي ارتددن ستة، أم الحكم بنت أبي سفيان تركت زوجها عاصي بن شداد الفهري وفاطمة بنت أمية تركت زوجها عمر بن الخطاب ومروع بنت عقبة تركت زوجها شماس بن عثمان وعبدة بنت عبد العزى تركت زوجها عمرو بن عبد ودّ هند بنت أبي جهل تركت زوجها هشام بن العاص وكلثوم بنت عمرو تركت زوجها عمر بن الخطاب لأنها لما أبت الإسلام وأصرت على الكفر طلقها هي وزوجته الأولى فاطمة كما مرت الإشارة إليها آنفا، فأعطاهم رسول اللّه مهورهن من الغنيمة، فلو فرض وقوع معاهدة كهذه بين المسلمين والكافرين فيكون العمل بحق النساء اللاتي يتركن أزواجهن من الطرفين على هذا، لأن الآية محكمة ولا دليل على نسخها البتة.
وخلاصة القصة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد أن وفقه اللّه في حادثة الأحزاب وفعل ما فعل في بني قريظة وبرد ظهره من الأعداء المجاورين له اشتاق لزيارة البيت الشريف وأمر الناس أن يتجهزوا ففعلوا وخرج بهم من المدينة يوم الاثنين من ذي القعدة سنة ست من الهجرة الشريفة في بضع عشر مئة من أصحابه بقصد الزيارة وساقوا معهم البدن، فلما وصلوا ذا الخليفة قادوا الهدى وأشعروه وأحرموا بعمرة وبعث عينا (جاسوسا) يخبره عن قريش، ولما بلغوا غدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه عتبة الخزاعي، وقال إن قريشا قد بلغها مقدمك، وقد هاجت وماجت وأجمعت على صدك عن البيت فأمر صلى الله عليه وسلم بالنزول، ونزل القوم، فقال وهو عازم على زيارة الحرم رغم كل مقاومة «أشيروا علي أيها الناس، أتريدون أن أميل أولا على ذراري من انضمّ إلى قريش من الأحابيش وغيرهم يوم الخندق دعا وعاونوهم علينا، فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها اللّه أو تريدون أن نؤم البيت أولا لا نريد قتالا ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه؟» فقال أبو بكر يا رسول اللّه إنما جنت عامدا للزيارة فتوجه لقصدك فمن صدنا قاتلناه، قال: «امضوا على اسم اللّه».
ثم إن رسول اللّه قال لقومه «إن خالد بن الوليد بالتنعيم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين»، فأخذوا قال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم واللّه ما شعر خالد إلا وهو في قترة أي غبار الجيش، وهذه معجزة له صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم به قبل أن يصلوا إليه، فلما رآهم انطلق ينذر قريشا، وكان ذلك قصد الرسول، ولما وصلوا إلى الثنية التي يهبط منها بركت راحلته فقالوا فلأت القصوى أي حرنت ناقة رسول اللّه، فقال: «ما فلأت ولكن حبسها حابس الفيل»، ثم زجرها فوثبت وعدل عن الثنية، ونزل بأقصى الحديبية وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة سميت باسم بئر فيها قليل الماء، فنزلوا ونزح الماء وشكوا العطش، فقال صلى الله عليه وسلم إلى ناجية سائق بدنه «خذ هذا السهم واغرزه فيها» ففعل ففاضت وما زالت تجيش بالري أي الماء حتى صدروا، وهذه معجزة أخرى ثم قال لأصحابه «لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات اللّه وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها وأجبتهم إليها وإن كان فيها مشقة».
وفي هذه الجملة تعليم لأمته وإرشاد لها إلى مكارم الأخلاق ولو كانت من أحرج المواقف، فلما رأى بديل بن ورقاء الخزاعي خروج قريش إلى إعداد مياه الحديبية وتصميمهم على صد محمد وأصحابه وعرف عزم محمد صلى الله عليه وسلم على دخول البيت، وكانت خزاعة حليفة لبني هاشم، جاء بنفر من قومه إلى حضرة الرسول وأخبره خبر قريش وإنهم أخرجوا معهم النياق ذوات اللبن وذوات الحيران بما يدل على عزمهم على طول الإقامة وقصدهم القتال وإنك غوّرت أي بعدت عن المدينة ولا سلاح معك، فقال صلى الله عليه وسلم «إنا لم نأت لقتال وإن قريشا نهكتهم الحرب وقد جئنا معتمرين، فإن شاءوا ماددتهم مدة تترك فيها الحرب، وإلا فإن لم يفعلوا وأصروا على صدي فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا حتى تنفرد سالفتي (السالفة صفحة العنق وكنى عنها بالموت) ولينفّذن اللّه أمره».
فرجع بديل إلى قومه وعرض عليهم ما قاله، فقال عمرو بن مسعود الثقفي قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقالوا له ائته وكلمه، فجاء عروة وقال يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أو أوقع المكروه في أصله قبلك؟ ثم قال له إن المسلمين أصحابك ليسوا من قبيلة واحدة فلا رابطة بينهم ولا يؤمن فرارهم وعظم من قريش، فقال له أبو بكر رضي اللّه عنه امصص بظر اللات (البظر من المرأة كالقلقة من الرجل) فقال لولا يدك عندي لأجبتك يا أبا بكر، وكان المغيرة بن شعبة مصلتا سيفه وعليه المغفر واقفا على رأس رسول اللّه، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللّه يتودده بالكف والرجوع حقنا للدماء ضربها بنصل السيف، ويقول أخر يدك عن لحية رسول اللّه فقال له عروة أغدر، وإنما قال له هذه الكلمة لأنه صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم أسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم «أقبل إسلامك، أما المال فلست منه في شيء»، وصار عروة يرمق أصحاب رسول اللّه ورجع إلى قومه فقال أي قوم واللّه لقد وفدت على الملوك فما وجدت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحاب محمد، وما هو يملك، واللّه ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل فيدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، وإني رأيت قومه لا يسلمون بشيء أبدا، وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة، فانظروا رأيكم فقال رجل من كنانة دعوني آته فقالوا ائته، فلما أشرف قال صلى الله عليه وسلم «هذا رجل من قوم يعظمون البدن فابعثوها إليه»، فلما رآها واستقبله الناس يلبون وقد بعثت إليه البدن قال سبحان اللّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه وقال إن البدن قلدت وأشعرت فلا أرى أن يصدوا عن البيت، ثم بعثوا رئيس الأحابيش الحليس بن علقمة، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: «هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه» فبعثت، فلما رأى الهدي يسيل بالوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش وقال لهم إني رأيت ما لا يحلّ صده، لأن القوم زائرون معتمرون ليسوا بمقاتلين ولا محاربين، فقالوا له أنت أعرابي لا علم لك بشيء، فغضب وقال ما على هذا حالفناكم، والذي نفسي لنخلّين بين محمد وبين ما جاء به أو لأنفرنّ بالأحابيش، فقالوا له كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا من محمد ما نرضى به.
وأرسلوا إليه مكرز بن حفص، فلما أشرف قال صلى الله عليه وسلم هذا رجل فاجر، فلما وصل وصار يكلم محمدا فلم ينته بشيء، ورجع فلما رأى رسول اللّه إخفاق مساعي سفراء قريش الخمسة المذكورين، استدعى عمر بن الخطاب وأمره بالذهاب إلى مكة لاستطلاع خبر أهلها، فقال يا رسول اللّه ليس بمكة من بني عدي أحد، وقد علمت قريش عداوتي لها، وإن عثمان أعزّ بها مني، فبعث أولا خراشة بن أمية الخزاعي فانبعث عليه عكرمة ابن أبي جهل وعقر ناقته وهمّ بقتله، فتداركه القوم وأنقذوه وردوه إلى قومه، وهذا الفرق بين الكفر والإيمان خمسة سفراء من قريش لم يتعرض لهم المسلمون وسفير واحد فعلوا به ذلك، فدعا صلى الله عليه وسلم عثمان وبعثه إلى أبي سفيان بأن يخبره سبب قدومهم، وزوده بكتاب شرح فيه ما وقع، وأمره أن يزور المسلمين بمكة ويغريهم ويصبرهم حتى يأتي فرج اللّه، فذهب وفعل ما أمره به، وغاية ما سمحوا له أن يطوف البيت، وحبسوه عن الرجوع، وأشيع أنهم قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم «إن كان حقا فلا نبرح حتى نناجزهم»، ودعا الناس إلى البيعة على مقاتلتهم، فأجابوه، وأول من بايعه سنان الأسدي وقال أبايعك على ما في نفسي، قال: «وما في نفسك؟» قال سنان أضرب بسيفي حتى يظهرك اللّه أو أقتل، وبايعه الآخرون على مثل هذا، ومنهم من بايعه على أن لا يفر وقبل صلى الله عليه وسلم مبايعتهم كلها.
روى البخاري ومسلم عن يزيد بن عبيد قال قلت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول اللّه؟ قال على الموت وروى مسلم عن معقل بن يسار قال لقد رأيتني يوم الشجرة (التي وقعت تحتها المبايعة في الحديبية) والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة، قال لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ.
وروى البخاري عن ابن عمر قال إن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وتفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس يحدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر يا عبد اللّه أنظر ما شأن الناس أحدقوا برسول اللّه؟ فذهب فوجدهم يبايعون، فبايع، ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع، وكان أول من بايع سفيان بن وهب من بني أسد، وهذا بالنسبة لما رأى فلا تنافي بين القول بأن أول من بايع سنان الأسدي، ولم يتخلف إلّا جدّ بن قيس من بني سلمة مختفيا بإبط ناقته.
ولما بلغ قريشا خبر هذه المبايعة خفضت من غلوائها وأمرت بإطلاق عثمان، وأرسلت سهيل ابن عمرو العامري، وحويطب بن عبد العزى لعقد معاهدة بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما ورأى عثمان جاء سالما قال لقومه «لقد سهل اللّه لكم من أمركم».
وبعد المداولة معهما تم الصلح على وضع الحرب عشر سنين على الشروط المبينة في نص المعاهدة، وهي هذه (باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب سهيل ابن عمرو العامري، على أن تخلي قريش بيننا وبين البيت نطوف به من العام المقبل، وان من جاءنا منهم رددناه، وإن كان مسلما، ومن جاء قريشا ممن اتبعنا لا يرد إلينا) وان من دخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن دخل في عقد قريش وعهدها دخل (أي بان يقر كل على ما هو عليه قبل هذه المعاهدة).
فانتقد المسلمون هذه المعاهدة لاسيما وإن سهيلا لم يرض أن يكتب المعاهدة كاتب النبي أوس بن خولة، ولا أن يكتب فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم لأنهم لا يعرفون هذه الجملة، ولا يذكر فيها أن محمدا رسول اللّه، لأنهم لو علموا أنه رسوله ما صدوه ولا حاربوه، وكان المتفق عليه عليا كرم اللّه وجهه فأبى أن يمحو اسم رسول اللّه، فقال صلى الله عليه وسلم «أرنيه»، فأراه فمحاه بيده قائلا «أنا رسول اللّه وان كذبتموني»، وهذا يدل دلالة كافية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحسن القراءة، وإلا لما قال لعلي «أرنيه»، راجع الآية 48 من سورة العنكبوت وإنما وافق صلى الله عليه وسلم على هذه المعاهدة مع ما فيها من الحيف وعدم رضاء أصحابه بها وفاء بقوله «لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وشيء من حرمات اللّه إلا أجبتهم إليها».
ومن الشروط أن يرجعوا دون زيارة، وأنهم إذا أتوا من العام القابل لا يدخلون البيت إلا بجلباب السلاح والقوس.
هذا ولم يكد يستلم كل فريق نسخة من هذه المعاهدة التي أغاظت أصحاب محمد لأنها أمليت بإرادة سفير قريش الذي أصر على عدم دخولهم البيت لئلا يقال إن محمدا ضغط عليهم، وإذا أبو جندل بن السفير نفسه جاء يرسف بحديدة، لأن أباه حبسه بسبب إسلامه، ولما سمع بمقدم رسول اللّه وأصحابه صار هو ورفقاؤه وضعفاء المسلمين يتدبرون الحيل للهرب من مكة والالتحاق بنبيهم، فقال سهل هذا أول واحد ترّده، فقال أبو جندل يعذبوني يا رسول اللّه، فطلبه منه فلم يفعل، فقال صلى الله عليه وسلم له «احتسب فإن اللّه جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا، لأنا عقدنا الصلح ولا نغدر»، فازداد غضب المسلمين حتى قال عمر واللّه ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ.
ورسول اللّه يثبطهم ويعدهم بحسن العاقبة وهم يتمزقون غيظا مما لحقهم من الحيف في هذه المعاهدة، ويقولون نحن على الحق فلم نرض الدنية؟ فقال أبو بكر إن محمدا لن يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسكوا بغرزه فإنه على الحق.
وبعد أن تكفل حويطب بن عبد العزّى بأبي جندل وأجاره من أبيه وتعهد بأن لا يوقع به أذى، قال يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين وجئت مسلما؟ فتأثر المسلمون من ذلك، وقالوا يا رسول اللّه كيف ترد من جاءنا ولا يردون من جاءهم؟ قال: «نعم من ذهب منا إليهم فقد أبعده اللّه ومن جاء منهم فسيجعل اللّه له بعد عسر يسرا».
وأمرهم بنحر الهدي والرجوع إلى المدينة.
وقد ذكر اللّه هذه الحادثة في سورة الفتح عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ} الآية 10 الآتية وسترى نتيجة هذه المعاهدة وما ينتج عنها وأول خير وقع بسببها كما سيأتي بيانه في الآية 75 من سورة النساء الآتية، ونزلت هذه السورة بعد رجوعهم كما نبيّنه إن شاء اللّه تعالى في الآيتين المذكورتين آنفا.