فصل: التفريع في قوله تعالى: {فليكتب}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفريع في قوله تعالى: {فليكتب}:

وهذا التفريع تأكيد للأمر، وتأكيد للنهي أيضًا؛ وإنما أعيد ليرتب عليه قوله: {وليملل الذي عليه الحق}؛ لبعد الأمر الأول عما وَليَه، ومثله قوله تعالى: {اتخذوه وكانوا ظالمين} بعد قوله تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم} [الأعراف 148].
والتفريع عند البلاغيين أن يُثبت حكم لمتعلق أمر بعد إثباته لمتعلق آخر؛ كقول الكميت:
أحلامكم لسنام الجهل شافية ** كما دماؤكم تشفي من الكلِب

فرّع من وصفهم بشفاء أحلامهم لسقام الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلِب.
والحاصل أن المراد بتفرع الثاني على الأول كونه ناشئًا ذكره عن ذكر الأول؛ حيث جعل الأول وسيلة للثاني؛ أي كالتقدمة، والتوطئة له؛ حتى أن الثاني في قصد المتكلم لا يستقل عن ذكر الأول.
وهذا التفريع- يحمل إيحاءً بتشعب دروب الدين، وكثرة التبعات فيه، ووحشة الطرق المؤدية إليه مما يؤدي إلى تنفير الناس منه.
لكن التفريع هنا- كما أرى- ليس على جملة: {ولا يأب كاتب}، بل على قوله: {فاكتبوه}؛ حيث فرَّع عن الأمر العام بالكتابة أمرًا آخر خاصًا للكاتب بأن يتحرى الكتابة الشرعية التي يعتقدها أما ذكر قوله: {فليكتب} بعد قوله: {ولا يأب كاتب}، فهو ضرب من التأكيد اللفظي لمضمون النهي، فمضمون النهي هو {فليكتب}... ثم قيل صراحة {فليكتب}، وهذا يعني أن أمر الكاتب بالكتابة ذكر مرتين: مرةً في جوف النهي، حين قيل: {ولا يأب كاتب أن يكتب}، ومرة صريحًا في قوله: {فليكتب}.
وهذا التلوين والتنوع- في أداء المعنى وترسيخه يوضح مدى أهميتة، مما حدا بهم إلى أن قالوا: إن الأمر للوجوب ولا ينبغي أن يعدل عن الوجوب.
ويلحق بالتداين جميع التعاملات التي يطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد.
أثر السياق في دلالة قوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق} على القصر.
إن جملة: {وليملل الذي عليه الحق} نوع ثالث من الخطاب بعد النوعين السابقين:
فالخطاب الأول: متوجه إلى الأمة عامة؛ فقيل لها: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}. والخطاب الثاني: متوجه إلى الكاتب خاصة؛ لما له من دور بارز في حفظ الحقوق، فقيل له: {يكتب كما علمه الله}.
والخطاب الثالث: توجه إلى آخذ الدين، أو الذي عليه الحق.
والأنواع الثلاثة جاءت بصيغة الأمر لأن المنظومة واحدة، والسياق واحد، والغاية المنشودة من الآية غاية واحدة، ومسؤولية الأطراف الثلاثة في حفظ هذه الأموال على درجة واحدة، ومن أجل كل ذلك عم الأمر كل الأطراف.
والسبب في أن الذي عليه الحق هو المعنيُ بإملاء الدين:
أن الغبن قد يقع عليه لو أملى الدائن فزاد في الدين أو قرب الأجل، أو ذكر شروطًا معينةً في مصلحته، وبخاصةٍ أن المدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة؛ رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها، فيقع عليه الغبن.
فإذا كان المدين هو الذي يُملي، لم يملِ إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر، ثم ليكون إقراره بالدين أقوى، وأثبت، فهو الذي يُملي.
وقد علّق الألوسي على هذه الجملة فقال: لابد أن يكون هو المُقِر لا غيره.
ثم قال: وانفهام الحصر من تعلق الحكم بالوصف؛ فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعليّة، والأصل عدم علة أخرى.
ولا شك أن قوله: لابد أن يكون هو المقر لا غيره يشير إلى أن الأسلوب أسلوب قصر، لكن طريقه غير اصطلاحي؛ فللقصر طرقه الاصطلاحية التي ارتضاها أهل هذا الفن، وليس من بينها تعليق الحكم بالوصف؛ أعني: تعليق قوله: {وليملل} بقوله: {الذي عليه الحق}.
وهذا الفهم ناشئ من وجود عدة أطراف في عملية التداين، وهم: الذي عليه الحق، والذي له الحق، والكاتب، والشاهدان.
وهذه الأطراف لابد أن تجتمع عند الكتابة ليتحقق الأمر كما يقتضيه النص القرآني، وعند هذا الاجتماع تأتي جملة: {وليملل الذي عليه الحق}؛ لتحدد واحدًا بعينه ليقوم بالإملال، وهو الذي عليه الحق.
وهذا التعيين والتحديد مع وجود كل هذا العدد مشعر بقصر الإملال عليه دون غيره.
وهذا، وإن لم يكن منصوصًا عليه لفظًا لكنه مفهوم من النظم، وإيحاءات المعنى؛ لأن مفهوم القصر يقوم على أمرين لا كيان له بغيرهما:
1- تخصيص شيء بشيء.
2- أن يكون التخصيص بطريق معهود.
فليس كل تخصيص داخلًا في القصر، وإنما المراد هنا تخصيصٌ ذو سمات محددة.
- أن يكون جامعًا بين إثبات ونفي.
- أن يكون جمعها في جملة واحدة.
- أن يكون القصد الأول إلى الإثبات، والنفي تأكيد للإثبات.
ذلك التخصيص ذو السمات الآنفة لا يعتد به البلاغيون إلا إذا انداح في تضاعيف تراكيب معينة سميت بطرق القصر.
والكلام في تحقيق أنواع الحصر محرر في علم البيان، وله صور كثيرة تزيد على خمس عشرة نوعًا، وليس منها تعليق الحكم بالوصف وهذا يفيد أن معنى الحصر في الجملة مفهوم من السياق، وليس مدلولًا عليه باللفظ؛ فدلالته غير اصطلاحية، وهذا كثير في لغة العرب.

.وجه البلاغة في تعريف الدَّين بجملة الصلة:

أعني: ما الفرق بين أن يقال وليملل المدين وأن يقال: {وليملل الذي عليه الحق}
الذي يبدو أن كلمة المدين لن تفيد معنى جديدًا في هذا السياق لكن لما أريد التأكيد على المدين بأن يعترف بما عليه أمام الشهود، والكاتب، ولما أريد تذكيره بأن ما أخذه ليس حقه، بل هو حق الدائن، والحقوق لابد أن ترجع إلى أصحابها، عرّف المدين بجملة الصلة؛ كي تجمع كل هذه المعاني في وسيلة واحدة للتعريف.
يقول الإمام عبد القاهر: إن اسم الموصول الذي اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، وإنما اجتلب حتى إذا كان قد عرف رجل بقصة، وأمرٍ جَرَى له، فتخصص بتلك القصة، وبذلك الأمر عند السامع، ثم أريد القصد إليه ذكر الذي.
وكأن من مقاصد جملة الصلة هنا إشهار المدين، وتعريفه للناس بأنه {الذي عليه الحق}. أترى إلى أي مدى يكون هذا مؤثرًا في المدين بين الناس؟
حيث يشتهر بهذا الوصف العجيب، وكأنه لا يعرف باسمه، ولكن يعرف بأنه {الذي عليه الحق}، وفي ذلك ما فيه من التنفير لهذا النوع من المعاملات.
كما أن في اصطفاء اسم {الحق} تذكيرًا للجميع، وعلى رأسهم المدين بوجوب عودته إلى صاحبه، ووجوب إحقاقه، والحرص على عدم تضييعه.
كما أنه متوجه أيضًا إلى الدائن؛ طمأنة له، وتسكينًا لفؤاده من أن ماله لن يضيع.
كما أنه متوجه إلى الشاهدَين، بأن ما يشهدان عليه ليس إلا الحق، فعليهما الإقدام، وعدم التخاذل، كما أن عليهما الشهادة الصادقة التي تحفظ الحقوق.
كما أنه متوجه إلى الكاتب بأن ما سيكتبه ليس إلا الحق؛ فلا ينبغي أن يحيد عنه، وإلا فقد ضيعه؛ فالكلمة جرس إنذار للجميع؛ {ويحق الله الحق بكلماته}. البناء التركيبي لجملتي: {وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا}.
والجملتان معطوفتان على ما سبق، من قوله: {وليملل الذي عليه الحق} وهما أمر ونهي، والجملة المعطوف عليها هي الأخرى أمر.
وكل هذه الأوامر موجهة إلى {الذي عليه الحق}؛ فقيل له: أملل- واتق الله- ولا تبخس منه شيئًا.
وهذه الدقَّات الثلاث إنما هي إنذار وتحذير من أن يوسوس له شيطانه، بأن يتملص من بعض الحق، أو أن يأكل بعض الأموال، أو أن يفعل شيئًا يضيّع به الحق على صاحبه.
كل هذا استلزم تتابع هذه الأوامر على نحو خاص، ووضعت فيه التقوى بين الأمر بالإملال، والنهي عن البخس، لتأخذ التقوى بحُجز هذين الأمرين، فتكون كالقلب الذي يغذوهما.
فوضع التقوى في الوسط هكذا {وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربهولا يبخس منه شيئًا}.
هذا النسق يشير إلى أن الأمر بالإملال يحتاج إلى شيء من التقوى.
والنهي عن البخس يحتاج إلى شيء من التقوى؛ فوضعت التقوى بينهما؛ لتمدهما بحاجتهما؛ كي يتم الأمر، والنهي على وفق مراد الشارع.
ولو قدمت التقوى، أو أخرت لزاد التشديد في جانب على حساب جانب آخر.
وتقديم الأمر بالتقوى على النهي عن البخس يفيد تهيئة النفوس التي عليها الحق لتلقي الأوامر والنواهي، بالامتثال، والطاعة.
وأسند الفعل يتقي إلى ضمير الغائب؛ لأن الذي عليه الحق في مقام ضعف، ولا يرقى ليكون محل تشريف، وإعزاز؛ حتى يباشره الله تعالى بالخطاب، وفي ذلك ما فيه من التنفير الخفي من الديون، وفي الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والدين». فقال رجل: يا رسول الله أيعدل الدين الكفر؟ قال: «نعم».
وفي الجملة الأولى جمعٌ بين اسم الله واسم الرب؛ حيث قيل: {وليتق الله ربه} لحكمة بليغة، وهي كما يقول أبو حيان: أن الله تعالى مربيًا له مصلحًا لأمره، باسطًا عليه نعمه.
وقدم اسم الله لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم.
كما أن مقام الذي عليه الحق يحتاج إلى صفات الجلال الكامنة في اسم الله.
وكذا إلى صفات الجمال الشاخصة في اسم الرب.
أما صفة الجمال، فمن حيث تذكيره بأن سداد الدين يحتاج إلى عون الله تعالى، وفتح أبواب الرزق.
وأما صفة الجلال فمن حيث زجره وتهديده حتى لا يبخس أو يماطل، أو ينكر الدين.
إذًا الذي عليه الحق ينبغي أن يتذكر أمرين:
الأول: يتذكر قوة الله وسلطانه وانتقامه، فلا يأكل أموال الناس.
والآخر: يتذكر رحمة الله تعالى وعطفه وامتنانه عليه، حيث أحل هذا الضرب من المعاملات والتي استطاع بسببها أن يأخذ من أموال الناس إلى حين.
أما اصطفاء لفظ البخس هنا دون غيره:
فلأن من دلالته النقص والإخفاء، وأقرب الألفاظ إلى معناه هو: الغبن.
والبخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب، والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل، أو النقصان منه، أي: عن غفلة من صاحب الحق.
وتعدي الفعل إلى كلمة {شيئًا} وهي نكرة لإفادة العموم والإحاطة، أي: أي شيء، ولو كان حقيرًا، ولذلك كله، أسند لفظ رب إلى الضمير العائد على المدين، فقيل: {ربه}، ولم يقل: ربكم، أو ربهم، بل {ربه} أي: الذي أنعم عليه، وأحل له أخذ هذه الأموال لينتفع بها إلى حين، ووعده بأن يسد عنه إن هو أخلص النية في السداد.
وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّ الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى».
وكأنه رقيب عليه وحده، كما أن فيها معنى التحذير؛ لأن ربه رقيب عليه.
وفي ذكر الجار والمجرور {منه} حيث قيل: {ولا يبخس منه شيئًا} تذكير بالحق مرة أخرى، حتى تكون الأذهان على ذكر منه دائمًا، إما صراحة، وإما تقديرًا فتكون العقول والقلوب مرتبطة به، فتراعي الوفاء، والضبط عند كتابته، لأنه حق.