فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في إبراهيمَ ومن مَعَهُ {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} تكريرٌ للمبالغةِ في الحثِّ على الائتساءِ به عليهِ الصلاةُ والسلام ولذلكَ صُدرَ بالقسمِ. وقولهُ تعالى: {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر} بدلٌ من لكُم فائدَتُهُ الإيذانُ بأنَّ منْ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ لا يتركُ الاقتداءَ بهم وأنَّ تركَهُ منْ مخايل عدمِ الإيمانِ بهما كما ينبئُ عنه قولهُ تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنَّهُ مما يوعَدُ بأمثالِهِ الكفرةُ.
{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم} أي منْ أقاربكم المشركينَ {مَّوَدَّةَ} بأنْ يوافقوكُم في الدين وعدهم الله تعالى بذلكَ لِما رأى منهم من التصلبِ في الدينِ والتشددِ لله في معاداةِ آبائِهِم وأبنائِهِم وسائِرِ أقربائِهِم ومقاطعَتِهِم إيَّاهُم بالكليةِ تطييبًا لقلوبِهِم ولقد أنجزَ وعدَهُ الكريمَ حينَ أتاحَ لهم الفتحَ فأسلمَ قومُهُمْ فتمَّ بينَهُم من التحابِّ والتَّصافِي ما تمَّ {والله قَدِيرٌ} أي مبالغٌ في القُدرةِ فيقدرُ على تقليبِ القلوبِ وتغييرِ الأحوالِ وتسهيلِ أسبابِ المودَّةِ {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفرُ لمن أسلمَ منَ المشركينَ ويرحمُهُم وقيلَ غفورٌ لما فرطَ منكُم في موالاتِهِم مِن قبلُ ولِمَا بقِيَ في قلوبِكُم من ميلِ الرحمِ. {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم في الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم} أي لا ينهاكُم عن البرِّ بهؤلاءِ فإنَّ قولهُ تعالى: {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدلٌ من الموصولِ {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} أي تُفضلوا إليهم بالقسطِ أي العدلِ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي العادلينَ. رُويَ أنَّ قُتيلةَ بنتَ عبدِ العُزَّى قدمتْ مشركةً على بنتِهَا أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنهُ بهدايَا فلم تقبلْها ولم تأذنْ لَها بالدخولِ فنزلتْ فأمرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ تُدخلَها وتقبلَ منْهَا وتُكرمَها وتُحسنَ إليها وقيلَ المرادُ بهم خزاعةُ وكانوا صالحُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلُوه ولا يعينوا عليهِ {إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم في الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم} وهم عتاةُ أهلِ مكةَ {وظاهروا على إخراجكم} وهم سائرُ أهلِها {أَن تَوَلَّوْهُمْ} بدلُ اشتمالٍ من الموصولِ أي إنما ينهاكُم عن أنْ تتولَّوهُم {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لوضعهم الولايةَ في موضعِ العداوةِ أو هم الظالمونَ لأنفسِهِم بتعريضِها للعذابِ.
{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ}
بيانٌ لحكمِ من يُظهرُ الإيمانَ بعدَ بيانِ حُكم فريقي الكافرينِ {إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات} من بينِ الكفارِ {فامتحنوهن} فاختبروهُنَّ بما يغلبُ على ظَنِّكم موافقة قلوبهنَّ للسانِهنَّ في الإيمانِ. يُروى أنَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يقول للتي يمتحنُهَا بالله الذي لا إلَه إلا هُو ما خرجتِ من بغضِ زوجٍ بالله ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرضٍ بالله ما خرجتِ التماسَ دُنيا بالله ما خرجتِ إلا حبًا لله ورسولِه {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} لأنَّه المطلعُ على ما في قلوبهنَّ والجملة اعتراضٌ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعدَ الامتحانِ {مؤمنات} علمًا يمكنكم تحصيلُه وتبلغُه طاقتُكم بعد اللَّتيا وَالتي من الاستدلال بالعلائمِ والدلائلِ والاستشهادِ بالأماراتِ والمخايلِ وهو الظنُّ الغالبُ، وتسميتُه علمًا للإيذانِ بأنه جارٍ مجرى العلمِ في وجوبِ العملِ به {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي إلى أزواجِهِنَّ الكفرةِ لقولهِ تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنَّه تعليلٌ للنهي عن رجعهنَّ إليهمِ، والتكريرُ إما لتأكيدِ الحرمةِ أو لأنَّ الأولَ لبيانِ زوالِ النكاحِ الأولِ والثانيَ لبيانِ امتناعِ النِّكاحِ الجديدِ {وَأَتُوهُم مَا أَنفَقُواْ} أي وأعطُوا أزواجهنَّ مثلَ ما دفعُوا إليهنَّ من المهورِ وذلكَ أنَّ صلحَ الحديبيةِ كانَ على أنَّ من جاءَنا منكُم رددناهُ فجاءتْ سُبيعةُ بنتُ الحارثِ الأسلمية مسلمة والنبي عليه الصلاة والسلام بالحديبية فأقبل زوجها مسافرٌ المخزوميُّ وقيلَ صيفيُّ بنُ الراهبِ فقال يا محمدُ ارددْ عليَّ امرأتِي فإنكَ قد شرطتَ أن تردَّ علينا من أتاكَ منا فنزلتْ لبيانِ أن الشرطَ إنما كانَ في الرجالِ دُونَ النساءِ فاستحلفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلفتْ فأَعطى زوجَها ما أنفقَ وتزوجَها عمرُ رضيَ الله عنهُ.
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} فإنَّ إسلامَهُنَّ حالَ بينهنَّ وبينَ أزواجهنَّ الكفارِ {إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} شُرطَ إيتاءُ المهرِ في نكاحهنَّ إيذانًا بأنَّ ما أُعطَى أزواجُهُنَّ لا يقومُ مقامَ المَهْرِ {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} جمعُ عصمةٍ وهي ما يُعتصم به من عقدٍ وسببٍ أيْ لا يكُنْ بينكُم وبينَ المشركاتِ عصمةٌ ولا عُلقةٌ زوجيةٌ قال ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: من كانتْ له امرأةٌ كافرةٌ بمكةَ فلا يعتدنَّ بها من نسائِهِ لأنَّ اختلافَ الدارينِ قطعَ عصمتَها منْهُ وعنِ النخعيِّ رحمه الله هيَ المسلمةُ تلحقُ بدارِ الحربِ فتكفُرُ وعن مجاهدٍ أمرهُم بطلاقِ الباقياتِ مع الكفارِ ومفارقتِهِنَّ، وقرئ {ولا تُمسّكوا} بالتشديد {ولا تَمسّكوا} بحذف إحدى التاءين من تتمسكوا {وَسْئَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ} من مهورِ نسائِكم اللاحقاتِ بالكُفَّارِ {وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ} من مهورِ أزواجهنَّ المهاجراتِ {ذلكم} الذي ذُكِرَ {حُكْمُ الله} وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ أو حالٌ من حكمِ الله على حذفِ الضميرِ أي يحكمُه الله أو جعلَ الحكمَ حاكمًا على المبالغةِ {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرعُ ما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ.
رُويَ أنَّه لما نزلتْ الآيةُ أدَّى المؤمنونَ ما أُمروا بهِ من مهورِ المهاجراتِ إلى أزواجهنَّ المشركينَ وأبى المشركونَ أنْ يؤدُوا شيئًا من مهورِ الكوافرِ إلى أزواجِهنَّ المسلمينَ، فنزلَ قوله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ} أي سبقكُم وانفلتَ منكُم {شَيْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} أي أحدٌ من أزواجِكم وقد قرئ كذلكَ وإيقاعُ شيءٌ موقعَهُ للتحقيرِ والإشباعِ في التعميمِ أو شيءٌ من مهورِ أزواجِكم {فعاقبتم} أي فجاءتُ عقبتُكم أي نوبتُكم من أداءِ المهرِ شبه ما حكم به على المسلمينَ والكافرينَ من أداءِ مهورِ نساءِ أولئكَ تارةً وأداءِ أولئكَ مهورَ نساءِ هؤلاءِ أُخرى بأمرٍ يتعاقبونَ فيهِ كما يتعاقبُ في الركوبِ وغيرِه {فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من مهرِ المهاجرةِ التي تزوجتُموها ولا تؤتوهُ زوجَها الكافرَ، وقيلَ معناهُ إنْ فاتكم فأصبتُم من الكفارِ عُقْبى هيَ الغنيمةُ فآتُوا بدلَ الفائتِ من الغنيمةِ. وقرئ فأعقبتُم وفعقَّبْتُم بالتشديدِ وفعقِبْتُم بالتخفيفِ وفتحِ القافِ وبكسرِهَا. قيلَ جميعُ منْ لحقَ بالمشركينَ من نساءِ المؤمنينَ المهاجرينَ ستُّ نسوةٍ أمُّ الحكمِ بنتُ أبي سفيانَ وفاطمةُ بنتُ أميةٍ وبَرْوعُ بنتُ عُقْبةٍ وعبدةُ بنتُ عبدِ العُزَّى وهندُ بنتُ أبي جهلٍ وكلثومٌ بنتُ جرولٍ {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمانَ بهِ تعالى يقتضِي التَّقوى منهُ تعالَى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في علم:
عَلِمه يَعْلَمه عِلْمًا: عَرَفَهُ حَقَّ المعرفة.
وعَلم هو في نفسه.
ورجل عالِم وعَلِيم من عُلَمَاء.
وعلَّمه العِلم وأَعلمه إِيّاه فتعلّمه.
والعَلاَّم والعلاَّمة والعُلاَّم: العالِم جِدًّا.
وكذلك التِّعْلِمَة والتِعْلامة.
والعِلم ضربان: إِدراك ذات الشيء، والثاني الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أَو ن في شيء هو من في عنه.
فالأَوّل هو المتعدّى إِلى مفعول واحد، قال تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، والثاني: المتعدّى إِلى مفعولين، نحو قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}.
وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقول مَاذَا أُجِبْتُمْ قالواْ لاَ عِلْمَ لَنَا}، إِشارة إِلى أَن عقولهم قد طاشت.
والعلم من وجهٍ ضربان: نظريّ وعمليّ.
فالنظريّ: ما إِذا عُلم فقد كمل، نحو العلم بموجودات العالَم، والعمليّ: ما لا يتم إِلاَّ بأَن يُعمل، كالعلم بالعبادات.
ومن وجهٍ آخر ضربان: عَقْليّ وسمعيّ.
والعلم منزلة من منازل السّالكين، إِن لم يصحبه السّالك من أَوّل قَدَم يضعه، إِلى آخر قدم ينتهي إِليه يكون سلوكه على غير طريق موصِّل، وهو مقطوع عليه ومسدود عليه سُبُل الهدى والفلاح، وهذا إِجماع من السادة العارفين.
ولم ينه عن العلم إِلاَّ قُطَّاع الطَّريق ونُوَّاب إِبليس.
قال سيّد الطَّائفة وإِمامهم الجُنَيد رحمه الله: الطُّرُق كلُّها مسْدودة على الخَلْق إِلاَّ من اقتفى أَثَر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: منْ لَمْ يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدَى به في هذَا الأَمر؛ لأَن عِلمنا مقيّد بالكتاب والسنَّة.
وقال أَبو حفص: من لم يزِن أَفعاله وأَقواله في كلّ وقت بالكتاب والسنَّة ولم يتَّهم خواطره لا يعدّ في ديوان الرِّجال.
وقال أَبو سليمان الدّاراني: ربَّمَا يقعُ في قلبي النُكْتة من نُكَت القوم أَيّامًا فلا أَقبل منه إِلاَّ بشاهدين عدلين: الكتاب والسنَّة.
وقال السّريُّ: التصوّف اسم لثلاثة معان: لا يطفئُ نورُ معرفته نورَ ورعه.
ولا يتكلَّم في باطن علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك أَستار محارم الله.
وقال الجنيد: لقد هممت مرة أَن أَسأَل الله تعالى أَن يكفيني مُؤنة النِّساءِ، ثم قلت: كيف يجوز أَن أَسأَل هذا ولم يسأَله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أَسأَله، ثمّ إِنَّ اللهَ تعالى كفاني مُؤنة النساءِ حتى لا أُبالى أستقبلتني امرأَة أَو حائط.
وقال: لو نظرتم إِلى رجل أُعطى من الكرامات أَن تربَّع في الهواءِ فلا تغترُّوا به حتىَّ تنظروا كيف تجدونه عند الأَمر والنهى وحفظ الحدود وآداب الشريعة.
وقال النُّوريّ أَبو الحسين: من رأَيتموه يدّعى مع الله حالةً تُخرجه عن حدّ العلم الشرعيّ فلا تقربُوه.
وقال النصرابادي: أَفضل التصوف ملازمة الكتاب والسنَّة، وترك الأَهواء والبِدَع، وتعظيم كرامات المشايخ، ورؤْية أَعذار الخَلْق، والمداومة على الأَورَاد، وترك ارتكاب الرُّخَص والتأْويلات.
والكلمات التي تُروى عن بعضهم في التزهيد في العلم فمن أَنفاس الشيطان، كمن قال: نحن نأْخذ علمنا من الحيّ الذي لا يموت، وأَنتم تأخذونه من حَيّ يموت.
وقال آخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله.
وقال آخر: إِذا رأَيت الصّوفي يشتغل بحدّثنا وأَخبرنا فاغسِل يدك منه.
وقال آخر: لنا علم الحروف ولكم علم الورق.
وقيل: لبعضهم: أَلا ترْحل حتى تسمعَ من عبد الرزَّاق فقال: ما يصنع بالسمّاع من عبد الرزَّاق مَن يسمع من الخلاَّق؟! وأَحسن أَحوال قائل مثل هذه أَن يكون جاهلًا يُعذر بجهله، أَو والها شاطحا مصرفًا بسخطه، وإِلاَّ فلولا عبد الرزَّاق وأَمثاله من حفَّاظ السنة لما وصل إِلى هذا وأَمثاله شيء من الإِسلام، ومن فارق الدليل ضلَّ عن السّبيل.
ولا دليل إِلى الله والجنَّة إِلاَّ الكتاب والسنة.
والعلم خير من الحال.
الحال محكوم عليه والعلم حاكم.
والعلم هادٍ والحال تابع.
الحال سيف فإِن لم يصحبه علم فهو مِخْراق لاعب.
الحال مركوب لا يجارَى، فإِن لم يصحبه علم أَلقى صاحبه في المتالف والمهالك.
دائرة العلم تسع الدّنيا والآخرة، ودائرة الحال ربَّما تضيق عن صاحبه.
العلم هادٍ والحال الصّحيح مهتدٍ به.
فهو تركة الأَنبياء وتُراثهم، وأَهله عَصَبتهم ووُرّاثهم، وهو حياة القلب، ونور البصائر، وشفاءُ الصّدور، ورياض العقول، ولذَّة الأَرواح، وأُنْس المستوحِشين، ودليل المتحيّرين.
وهو الميزان الذي يوزن به الأَقوال والأَفعال والأَحوال.
وهو الحاكم المفرِّق بين الشَّك واليقين، والغَيّ والرّشاد، والهُدَى والضلال، به يعرف الله ويعبد، ويُذْكر ويوحّد.
وهو الصّاحب في الغُربة، والمحدِّث في الخلوة، والأَنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغِنَى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكَنَفُ الذي لا ضَيْعة على من أَوى إِلى حِرْزه.
مذكراته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قُرْبة، وبذله صدقة، ومدارسته تُعدل بالصّيام والقيام، والحاجة إِليه أَعظم من الحاجة إِلى الشَّرَاب والطعام؛ لأَن المرء يحتاج إِليهما مرة أَو مَرَّتين في اليوم، وحاجته إِلى العِلْم كعدد أَنفاسه، وطلبه أفضل من صلاة النافلة، نصّ عليه الشافعيّ وأَبو حنيفة.
واستشهد اللهُ-عزَّ وجلَّ- أَهلَ العلم على أَجلّ مشهود وهو التوحيد، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وفي ضمن ذلك تعديلهم فإِنَّه لا يُستشهد بمجروح.
ومن هاهُنا يوجَّه-واللهُ أَعلم- الحديث: «يَحمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَف عُدولهُ، ينفُون عنه تحريف الغالين، وتأْويل المبطلين» وهو حجة الله في أَرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إِلى جنَّته، ومُدْنيهم من كرامته.
ويكفي في شرفه أَن فَضْل أَهلِه على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وكفضل سيّد المرسلين على أَدنى الصّحابة منزلة، وأَنَّ الملائكة تضع لهم أَجنحتها، وتُظِلُّهم بها، وأَنَّ العالِمَ يستغفر له مَن في السموات ومن في الأَرض حتىَّ الحيتان في البحر، وحتىّ النَّملة في جُحْرِهَا، وأَن الله وملائكته يصلُّون على معلِّمِي النَّاس الخير، وأَمر الله أَعْلَمَ العبادِ وأَكملهم أَن يسأَل الزِّيادة من العلم فقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
واعلم أَنَّ العلم على ثلاث درجات: أَحدها: ما وقع من عِيانٍ وهو البصر.
والثاني: ما استند إِلى السمع وهو الاستفاضة.
والثالث: ما استند إِلى العلم وهو علم التجربة.
على أَن طُرُق العلم لا تنحصر فيما ذكرناه فإِنَّ سائر الحواسّ توجب العلم، وكذا ما يدرك بالباطن وهى الوِجدانيّات، وكذا ما يدرك بالمخبِر الصّادق، وإِن كان واحدا، وكذا ما يحصل بالفكر والاستنباط وإِن لم يكن تجربة.
تمّ إِنَّ الفرق بينه وبين المعرفة من وجود ثلاثة:
أَحْدها: أَن المعرفة لُبّ العلم، ونسبة العلم إِلى المعرفة كنسبة الإِيمان إِلى الإِحسان.
وهي علم خاصّ متعلَّقه أَخفى من متعلَّق العلم وأَدَقَّ.
والثاني: أَنَّ المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه ويعمل بموجبه ومقتضاه.
هو علم يتَّصل به الرعاية.
والثالث: أَن المعرفة شاهدة لنفسها وهى بمنزلة الأُمور الوِجدانيّة لا يمكن صاحبُها أَن يشكَّ فيها، ولا ينتقل عنها.
وكشفُ المعرفة أَتمّ من كشف العلم، على أَنَّ مقام العلم أَعلى وأَجَلّ، لما ذكرنا في بصيرة (عرف).
ومن أَقسام العلم العلم اللَّدُنيّ.
وهو ما يحصل للعبد بغير واسطة، بل إِلهام من الله تعالى، كما حصل للخضر بغير واسطة موسى، قال تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}.
وفَرَق بين الرّحمة والعلم وجَعَلَهما مِن عنده ومن لدنه إِذ لم يكن نَيْلهما على يد بَشَر.
وكان من لدنه أَخصّ وأَقرب ممّا عنده، ولهذا قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا
نَّصِيرًا} فالسُّلطان النَّصِير الذي من لدنه أَخصّ من الذي من عنده وأَقرب، وهو نصره الذي أَيّده به (والَّذِي من عنده)، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.
والعلم اللّدنّيّ ثمرة العبوديّة والمتابعة والصّدق مع الله والإِخلاص له، وبذل الجُهد في تلقِّى العلم من مِشكاة رسوله ومن كتابه وسنَّة رسوله وكمالِ الانقياد له، وأَمّا علم مَن أَعرض عن الكتاب والسنَّة ولم يتقيّد بهما فهو من لَدُن النفس والشيطان، فهو لدنِّىٌّ لكن مِن لدن مَنْ؟ وإِنما يُعرف كون العلم لدنّيًّا روحانيًّا بموافقته لما جاءَ به الرّسول صلى الله عليه وسلم عن ربّه عزَّ وجلَّ.
فالعلم اللدُنيّ نوعان: لدُنيّ رَحْمانيّ، ولدُنيّ شيطانيّ وبطناويّ والمَحَكّ هو الوحي، ولا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول المشايخ: العلم اللدنيّ إِسناده وُجوده، يعنى أَنَّ طريق هذا العلم وِجدانه، كما أَن طريق غيره هو الإِسناد؛ وإِدراكه عِيانُه، يعني أَنَّ هذا العلم لا يوجد بالفكر والاستنباط، وإِنما يوجد عِيانًا وشهودا؛ ونعته حكمُه، يعني أَن نعوته لا يوصل إِليها إِلاَّ به فهي قاصرة عنه.
يعنى أَن شاهده منه ودليله وجوده؛ وإِنِّيَّته لِمِّيِّته، فبرهان الإنّ فيه هو برهان اللِّمّ، فهو الدَّليل وهو المدلول، ولذلك لم يكن بينه وبين الغيب حجاب وبخلاف ما دُونه من العلوم.
والذي يشير إِليه القوم هو نور من جَناب الشهود بمجرد أَقوى الحواسّ وأَحكامها، وتقرير لصاحبها مقامها.
فيرى الشهود بنوره، ويفنى ما سواه بظهوره.
وهذا عندهم معنى الحديث الرباني: «فإِذا أَحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، فبي يسمع، وبي يبصر».
والعلم اللَّدنيّ الرّحمانيّ هو ثمرة هذه الموافقة والمحبّة التي أَوجبها التقرّب بالنَّوافل بعد الفرائض.
واللدنّيّ الشيطانيّ هو ثمرة الإِعراض عن الوحي بحكم الهوى.
والله المستعان.
والعَلَم- بالتحريك-، الأَثر الذي يُعلم به الشيء كعَلَم الطَّريق، وَعَلَم الجيش.
وسمّى الجبل عَلَمًا لذلك.
وقرئ:
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ}.
والعالَم: اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأَعراض.
وهو في الأَصل اسم لما يُعلم به كالخاتَم لما يُختم به.
فالعالَم آلة في الدّلالة على موجِدِه وخالِقه، ولهذا أَحالنا عليه في معرفة وَحْدَانِيَّتِهِ فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
وأَمّا جمعه فلأَن كلَّ نوع من هذه الموجودات قد يُسمىّ عالمًا.
فيقال: عالَم الإِنسان، وعالَم النار.
وقد رُوى: إِنَّ لِلّه بضعة عشر أَلف عالَم.
وأَما جمعه جمع السلامة فلكون النَّاس في جملتهم.
وقيل: إِنَّما جُمع به هذا الجمع لأَنه عُنى به أَصناف الخلائق من الملائكة والجنَّ والإِنس دون غيرها، رُوِى هذا عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
وقال جعفر بن محمّد الصّادقُ: عنى به النَّاس، وجعل كلّ واحد منهم عَالَما.
وقال: العالم عالمان: الكبير وهو الفَلَك بما فيه، والصّغير وهو الإِنسان لأَنَّه على هيئة العالَم الكبير، وفيه كلّ ما فيه، وقوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالَمِي زمانِهم.
وقيل: أَراد فضلاءَ زمانهم الذين يجرى كلّ واحد منهم مجرى عالَم. اهـ.