فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{يا أَيُّهَا النبي إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعاتٍ لكَ أيْ قاصداتٍ للمبايعةِ نزلتْ يومَ الفتحِ فإنَّه عليهِ الصلاةُ والسلام لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ شرعَ في بيعة النساءِ {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا} أي شيئًا من الأشياءِ أو شيئًا من الإشراكِ {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} أُريدَ به وأدُ البناتِ وقرئ {ولا يُقَتِّلْنَ} بالتشديدِ {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} كانتِ المرأةُ تلتقطُ المولودَ فتقول لزوجِها هُو ولدي منكَ كُنِيَ عنْهُ بالبهتانِ المُفترى بينَ يديها ورجلَيها لأنَّ بطنَها الذي تحملُهُ فيهِ بينَ يديها وَمَخرجُه بينَ رِجْلَيْها.
{وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ} أي فيما تأمرهنَّ بهِ من معروفٍ وتنهاهنَّ عنْهُ من منكرٍ، والتقييدُ بالمعروفِ مع أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم لا يأمرُ إلا بهِ التنبيهُ على أنَّه لا يجوزُ طاعةُ مخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ وتخصيصُ الأمورِ المعدودةِ بالذكرِ في حَقِّهنَّ لكثرةِ وقوعِها فيمَا بينهنَّ معَ اختصاصِ بعضها بهنَّ {فَبَايِعْهُنَّ} أي على ما ذُكرَ وما لم يُذكرْ لوضوحِ أمرِهِ وظهورِ أصالتِهِ في المبايعةِ من الصلاةِ والزكاةِ وسائرِ أركانَ الدِّينِ وشعائرِ الإسلامِ، وتقييد مبايعتهنَّ بِما ذُكِرَ من مجيئهنَّ لحثهنَّ على المسارعةِ إليها مع كمالِ الرغبةِ فيهَا من غيرِ دعوةٍ لهنَّ إليها {واستغفر لَهُنَّ الله} زيادةٍ على ما في ضمنِ المبايعةِ فإنها عبارةٌ عن ضمانِ الثوابِ من قبلِهِ عليهِ الصلاةُ والسلام بمقابلةِ الوفاءِ بالأمورِ المذكورةِ من قبلهنَّ {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغٌ في المغفرةِ والرحمةِ فيغفرُ لهنَّ ويرحمهنَّ إذا وفَّينَ بما بايعنَ عليهِ. واختلفَ في كيفيةِ مبايعتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلام لهن يومئذٍ فَرُوِيَ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلام لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ جلسَ على الصَّفا ومعه عمرُ رضيَ الله عنْهُ أسفلَ منْهُ فجعلَ عليهِ الصلاةُ والسلام يشترطُ عليهن البيعةَ وعمرُ يصافحهنَّ.
ورُوِيَ أنَّه كلفَ امرأةٍ وقفتْ على الصَّفا فبايعتهنَّ. وقيلَ دَعا بقدحٍ من ماءٍ فغمسَ فيهِ يدَهُ ثم غمسنَ أيديهنَّ.
ورُويَ أنه عليهِ الصلاةُ والسلام بايعهنَّ وبين يديهِ وأيديهِنَّ ثوبٌ قطريٌّ.
والأظهرُ الأشهرُ ما قالتْ عائشةُ رضيَ الله عنها «والله ما أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على النساءِ قطُّ إلا بما أمرَ الله تعالَى وما مستْ كفُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأةٍ قَط وكانَ يقول إذا أخذَ عليهنَّ قَدْ بايعتكنَّ كلامًا، وكانَ المؤمناتُ إذَا
هاجرنَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهنَّ بقول الله عزَّ وجلَّ: {يا أَيُّهَا النبي إِذَا جَاءكَ المؤمنات} إلى آخرِ الآيةِ فإذا أقررنَ بذلكَ من قولهِنَّ قال لهنَّ انطلقنَ فقد بايعتكُنَّ»
.
{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ}
هُم عامةُ الكفرةِ، وقيلَ اليهودُ، لما رُوِيَ أنَّها نزلتْ في بعضِ فقراء المسلمينَ كانُوا يواصلونَ اليهودَ ليصيبُوا من ثمارِهِم.
{قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} لكفرِهِم بهَا أو لعلمِهِم بأنَّه لا خلاقَ لهُمْ فيهَا لعنادِهِم الرسولَ المنعوتَ في التوراةِ المؤيدِ بالآياتِ {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور} أيْ كَما يئسَ منها الذينَ ماتُوا منهُم لأنَّهم وقفُوا على حقيقةِ الحالِ وشاهدُوا حرمانَهُم من نعيمِهَا المقيمِ وابتلاءَهُم بعذابِهَا الأليمِ والمرادُ وصفهُم بكمالِ اليأسِ منهَا، وقيلَ المَعْنَى كما يئسُوا من موتاهُم أنْ يُبعثوا ويرجعُوا إلى الدُّنيا أحياءً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ يأسهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أَيُّهَا النبي إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا} أي شيئًا من الأشياء أو شيئًا من الإشراك {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} أريد به على ما قال غير واحد: وأد البنات بالقرينة الخارجية، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز إبقاءه على ظاهره فإن العرب كانت تفعل ذلك من أجل الفقر والفاقة، وانظر هل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك، وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن والسلمي {وَلاَ يَقْتُلْنَ} بالتشديد {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}.
قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا وليد منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وفي (الكشاف) كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبًا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، وقيل: كني بذلك عن الولد الدعي لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال إنما فعلن ذلك امتنانًا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرًا لتينك الحالتين وتهجينًا لما كن يفعلنه، وأيًا مّا كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعض الأجلة: معناه لا يأتين ببهتان من قبل أنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، أو معناه لا يأتين ببهتان ينشئنه في ضمائرهن وقلوبهن، والقلب مقره بين الأيدي والأرجل، والكلام على الأول: كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن، وعلى الثاني: كناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا يبهتن الناس كفاحًا ومواجهة كما يقال للأمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورد بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه: هو بين رجليك، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت مع الأيدي تبعًا فلا، والكلام قيل: كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وروي عن الضحاك حمل ذلك على القذف، وقيل: بين أيديهن قبلة أو جسة وأرجلهن الجماع، وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن فروجهن بالجماع، وهو وكذا ما قبله كما ترى.
وقيل: البهتان السحر، وللنساء ميل إليه جدًا فنهين عنه وليس بشيء {وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ} أي فيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أن طاعة أولى الأمر لازمة مطلقًا، وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما أخرج الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنحن» الحديث، ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأخبار من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة.
ويشهد للعموم قول ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم: هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها.
وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهنّ لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا {فَبَايِعْهُنَّ} بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كما الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها {واستغفر لَهُنَّ الله} زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه؛ وهذه الآية نزلت على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل يوم الفتح فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا. وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام بايع أيضًا بنفسه الكريمة.
أخرج الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي وصححه، وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئًا حتى بلغ {وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ} فقال: «فيما استطعن وأطقن» قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: «إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن سعد عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبًا؛ وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوي، ومن يثبت ذلك يقول بالمصافحة وقت المبايعة، والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة، أخرج ابن سعد.
وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه؛ وكأن هذا بدل المصافحة والله تعالى أعلم بصحته.
والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة؛ وممن بايعنه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلى الله عليه وسلم عليهن الآية فلما قال: {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا} قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين لزومه فلما قال: {وَلاَ يَسْرِقْنَ} قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر هو لك حلال؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة؟» قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: {ولا يَزْنِينَ} فقالت: أو تزني الحرة؟ تريد أن الزنا في الإماء بناءًا على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالبًا وإنما يزني في الغالب الإماء، وإنما قيد بالغالب لما قيل: إن ذوات الرايات كن حرائر، فقال: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} فقالت: ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد؟ا فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: {وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وكأن هذا منها دون غيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أن أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن.
{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ}
عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز وجل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم.
وروي أن قومًا من فقراء المؤمنين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت، وقيل: هم اليهود والنصارى.
وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش، وقال غير واحد: هم عامة الكفرة؛ وهذه الآية على ما قال الطيبي: متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1] وهي قوله سبحانه: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} [الممتحنة: 9] وقوله تعالى: {الظالمون يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات} [الممتحنة: 10] إلخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى، وفي الانتصاف جعل هذه الآية نفسها من باب الاستطراد وهو ظاهر على القول: بأن المراد بالقوم اليهود أو أهل الكتاب مطلقًا، وقوله تعالى: {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} استئناف، والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلى الله عليه وسلم المنعوت فيك تابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها.
{كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور} أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن {مِنْ} بيانية، والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وقيل: كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء، والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة، وكون {مِنْ} بيانية مروى عن مجاهد وابن جبير وابن زيد، وهو اختيار ابن عطية وجماعة، واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية، والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويلقوهم في دار الدنيا، وهو مروى عن ابن عباس والحسن وقتادة.
فالمراد بالكفار أولئك القوم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلًا لكفرهم وإشعارًا بعلة يأسهم.
وقرأ ابن أبي الزناد {كما يئس الكافر} بالإفراد على أرادة الجنس.
هذا ومن باب الإشارة في بعض الآيات: ما قيل: إن قوله تعالى: {الحكيم يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1] إلخ إشارة للسالك إلى ترك موالاة النفس الأمارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل: أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وهي لا تزال كارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولا تنفك عن ذلك حتى تكون مطمئنة راضية مرضية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً} [الممتحنة: 7] وقوله سبحانه: {لاَّ ينهاكم الله} [الممتحنة: 8] إلخ إشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة، وإليه الإشارة بما روي أن «لنفسك عليك حقًا» وفي قوله سبحانه: {مُؤْمِنُونَ يا أَيُّهَا النبي إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] إلخ إشارة إلى مبايعة المرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الاختيار وتفويض الأمور إلى الله عز وجل وأن لا يرغب فيما ليس له بأهل، وأن لا يلج في شهوات النفس، وأن لا يئد الوارد الإلهامي تحت تراب الطبيعة، وأن لا يفتري فيزعم أن الخاطر السري خاطر الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك، وأن لا يعصى في معروف يفيده معرفة الله عز وجل، وأن يطلب من الله سبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده، وحاصله أن يطلب له البقاء بعد الفناء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. اهـ.