فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}
كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم، فجاءت أم كلثوم، وهي بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد، فقالا: يا محمد أوف لنا بشرطنا، فقالت: يا رسول الله حال النساء إلى الضعف، كما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنقض الله العهد في النساء، وأنزل فيهن الآية، وحكم بحكم رضوه كلهم.
وقيل: سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية، جاءت الحديبية مسلمة، فأقبل زوجها مسافر المخدومي.
وقيل: صيفي بن الراهب، فقال: يا محمد اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت بيانًا أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف، امرأة حسان بن الدحداحة، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان.
وقرئ: مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات، وامتحانهن، قالت عائشة: بآية المبايعة.
وقيل: بأن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وقال ابن عباس: بالحلف إنها ما خرجت إلا حبًا لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام.
وقال ابن عباس أيضًا ومجاهد وقتادة وعكرمة: كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها، ولا لجريرة جرتها، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة.
{الله أعلم بإيمانهن}: لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد، {فإن علمتموهن}: أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن، والحلول في قوم ليسوا من قومها، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر.
وقرأ طلحة: لا هن يحلان لهم، وانعقد التحريم بهذه الجملة، وجاء قوله: {ولا هم يحلون لهن} على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر، علم أنه لا حل بينهما البتة.
وقيل: أفاد قوله: {ولا هم يحلون لهن} استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان.
{وآتوهم ما أنفقوا}: أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية.
قال ابن عباس: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد امتحانها زوجها الكافر، ما أنفق عليها، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وكان إذا امتحنهن، أعطى أزواجهن مهورهن.
وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين، فلا يرد عليه الصداق، والأمر كما قال قتادة، ثم ن في الحرج في نكاح المؤمنين إياهن إذا آتوهن مهورهن، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان.
وقرأ الجمهور: {تمسكوا} مضارع أمسك، كأكرم؛ وأبو عمرو ومجاهد: بخلاف عنه؛ وابن جبير والحسن والأعرج: مضارع مسك مشدّدًا؛ والحسن أيضًا وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ: تمسكوا بفتح الثلاثة، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا؛ والحسن أيضًا: تمسكوا بكسر السين، مضارع مسك ثلاثيًا.
وقال الكرخي: {الكوافر}، يشمل الرجال والنساء، فقال له أبو علي الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في النساء، جمع كافرة، وقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة؟ قال أبو علي: فبهت فقلت: هذا تأييد. انتهى.
وهذا الكرخي معتزلي فقيه، وأبو علي معتزلي، فأعجبه هذا التخريج، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعًا لموصوفها، أو يكون محذوفًا مرادًا، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث.
والعصم جمع عصمة، وهي سبب البقاء في الزوجية.
{واسألوا ما أنفقتم}: أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم، {وليسألوا}: أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين.
ولما تقرر هذا الحكم، قالت قريش، فيما روي: لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقًا، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: {وإن فاتكم}، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام، ما كان مهرها.
قال الزمخشري: فإن قلت: هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة؟ قلت: نعم، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس، وإن قل وحقر، غير معوض منه تغليظًا في هذا الحكم وتشديدًا فيه. انتهى.
واللاتي ارتددن من نساء المهاجرين ولحقن بالكفار: أم الحكم بنت أبي سفيان، زوج عياض بن شداد الفهري؛ وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية، زوج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ وعبدة بنت عبد العزى، زوج هشام بن العاصي؛ وأم كلثوم بنت جرول، زوج عمر أيضًا.
وذكر الزمخشري أنهن ست، فذكر: أم الحكم، وفاطمة بنت أبي أمية زوج عمر بن الخطاب، وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود، وكلثوم، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاصي، أعطى أزواجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مهورهن من الغنيمة.
وقرأ الجمهور {فعاقبتم} بألف؛ ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني: بشد القاف؛ والنخعي والأعرج أيضًا وأبو حيوة أيضًا والزهري أيضًا وابن وثاب: بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة؛ ومسروق والنخعي أيضًا والزهري أيضًا: بكسرها؛ ومجاهد أيضًا: فأعقبتم على وزن افعل، يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر، ويقال: أعقب، قال:
وحادرت البلد الحلاد ولم يكن ** لعقبة قدر المستعيرين يعقب

وعقب: أصاب عقبى، والتعقيب: غزو إثر غزو، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففًا.
وقال الزمخشري: فعاقبتم من العقبة، وهي النوبة.
شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الركوب وغيره، ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر.
{فآتوا} من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا يؤتوه زوجها الكافر، وهكذا عن الزهري، يعطي من صداق من لحق بهم.
ومعنى أعقبتم: دخلتم في العقبة، وعقبتم من عقبه إذا قفاه، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه، وكذلك عقبتم بالتخفيف، يقال: عقبه يعقبه. انتهى.
وقال الزجاج: فعاقبتم: قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، وفسر غيرها من القراءات: لكانت العقبى لكم: أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم والكفار من قوله: {إلى الكفار}، ظاهره العموم في جميع الكفار، قاله قتادة ومجاهد.
قال قتادة: ثم نسخ هذا الحكم.
وقال ابن عباس: يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس.
وقال الزهري: من مال الفيء؛ وعنه: من صداق من لحق بنا.
وقيل: الكفار مخصوص بأهل العهد.
وقال الزهري: اقتطع هذا يوم الفتح.
وقال الثوري: لا يعمل به اليوم.
وقال مقاتل: كان في عهد الرسول فنسخ.
وقال ابن عطية: هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها.
وقال أبو بكر بن العربي القاضي: كان هذا حكم الله مخصوصًا بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة.
وقال القشيري: قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن.
{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك}: كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفاء، بعدما فرغ من بيعة الرجال، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط.
وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن: كنت في النسوة المبايعات، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك نبايعك، فقال لي عليه الصلاة والسلام: «إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن» وكانت هند بنت عتبة في النساء، فقرأ عليهن الآية.
فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئًا، قالت هند: وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال؟ تعني أن هذا بين لزومه.
فلما وقف على السرقة قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان، لا أدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما عبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة» قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
فقال: {ولا يزنين}، فقالت: أوتزني الحرة؟ قال: {ولا يقتلن أولادهن}، فقالت: ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {ولا يأتين ببهتان}، فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فقال: {ولا يعصينك في معروف}، فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
ومعنى قول هند: أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالبًا، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر.
وقرأ عليّ والحسن والسلمي: {ولا يقتلن} مشددًا، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة، وكانت العرب تفعل ذلك.
والبهتان، قال الأكثرون: أن تنسب إلى زوجها ولدًا ليس منه، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك.
{بين أيديهن وأرجلهن}: لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين.
وروى الضحاك: البهتان: العضة، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها، إذ نفت عنها ولدًا قد ولدته، أو ألحقت بها ولدًا لم تلده.
وقيل: البهتان: السحر.
وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن؛ فروجهن.
وقيل: بين أيديهن قبله أو جسة، وأرجلهن الجماع.
ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم: هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها.
وروي أن قومًا من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم، فقيل لهم: لا تتولوا قومًا مغضوبًا عليهم وعلى أنهم اليهود، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد، لأن غضب الله قد صار عرفًا لهم.
وقال ابن عباس: كفار قريش، لأن كل كافر عليه غضب من الله.
وقيل: اليهود والنصارى.
{قد يئسوا من الآخرة}، قال ابن عباس: من خيرها وثوابها.
والظاهر أن من في {من أصحاب القبور} لابتداء الغاية، أي لقاء أصحاب القبور.
فمن الثانية كالأولى من الآخرة.
فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم.
وقال ابن عرفة: هم الذين قالوا: ما يهلكنا إلا الدهر. انتهى.
والكفار على هذا كفار مكة، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا: هذا آخر العهد به، لن يبعث أبدًا، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن.
وقيل: من لبيان الجنس، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور، والمأيوس منه محذوف، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله، لأنه إذا كان حيًا لم يقبر، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله، إذ هو متوقع إيمانه، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد.
وقال ابن عطية: وبيان الجنس أظهر. انتهى.
وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف.
وقرأ ابن أبي الزناد: كما يئس الكافر على الإفراد.
والجمهور: على الجمع.
ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء، ختمها بمثل ذلك تأكيدًا لترك موالاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم. اهـ.