فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}
ذكر أهل التفسير أنها: نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صَيْفيّ بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهَّزُ لفتح مكة، فقال لها: «أمسلمةً جئتِ؟» قالتْ: لا، قال: «فما جاء بكِ؟» قالت: أنتم الأهل، والعشيرة، والموالي، وقد احتجت حاجةً شديدة، فقدِمت إليكم لتعطوني.
قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين أنتِ من شباب أهل مكة؟» وكانت مغنية، فقالت: ما طُلِبَ مني شيءٌ بعد وقعة بدر، فحثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، فَكَسَوْها، وحملوها، وأعطَوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتابًا إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إِلى أهل مكة، وكتب في الكتاب: مِن حاطب إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم.
فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا، وعمارًا، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مَرْثَدٍ، وقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن فيها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئًا فهمُّوا بالرجوع.
فقال عليٌّ: والله ما كَذَبْنَا ولا كُذِّبْنَا، وسلَّ سيفه، وقل أخرجي الكِتابَ، وإلا ضربت عنقكِ، فلما رأت الجِدِّ أخرجته من ذؤابتها، فخلَّوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له: «هل تعرف الكتاب؟» قال: نعم. قال: «فما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلاَّ وَلَه بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريبًا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانَيْهم، فخشيتُ على أهلي، فأردت أن أَتَّخِذَ عندهم يدًا، وقد علمتُ أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئًا، فصدَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعذَرَهُ، ونزلت هذه السورة تنهى حاطبًا عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقالوا: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
وقد أخرج هذا الحديث في (الصحيحين) مختصرًا، وفيه ذكر علي، وابن الزبير، وأبي مَرْثَدٍ فقط.
قوله تعالى: {تلقون إليهم بالمودة} وفيه قولان.
أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم المودَّة، ومثله {ومن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلم} [الحج: 25]، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور.
والثاني: تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسِرَّه بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {وقد كفروا} الواو للحال، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن {يخرجون الرسول وإِيَّاكم} من مكة {أن تؤمنوا بالله} {إن كنتم خرجتم} هذا شرط، جوابه، متقدّم، وفي الكلام تقديم وتأخير.
قال الزجاج: معنى الآية: إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
قوله تعالى: {تُسِرُّون إليهم بالمودَّة} الباء في (المودّة) حكمها حكم الأولى.
قال المفسرون: والمعنى: تُسِرُّون إليهم النصيحة {وأنا أعلم بما أخفيتم} من المودَّة للكفار {وما أعلنتم} أي: أظهرتم بألسنتكم.
وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستسرُّون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟!
قوله تعالى: {ومن يفعلْه منكم} يعني: الإسرار والإلقاء إليهم {فقد ضلَّ سواء السبيل} أي: أخطأ طريق الهدى.
ثم أخبر بعداوة الكفار فقال تعالى: {إن يثقفوكم} أي: يظفروا بكم {يكونوا لكم أعداءً} لا موالين {ويبسطوا إليكم أَيديهم} بالضرب والقتل {وألسنتَهم بالسوء} وهو: الشتم {وودُّوا لو تكفرون} فترجعون إلى دينهم.
والمعنى: أنه لا ينفعكم التقرُّب إليهم، بنقل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {لن تنفعَكم أرحامُكم} أي: قراباتكم.
والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد، لن ينفعَكم الذين عصيتم الله لأجلهم، {يوم القيامة يفصل بينكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {يُفصَل} برفع الياء وتسكين الفاء، ونصب الصاد.
وقرأ ابن عامر {يُفصَّل بينكم} برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف إلا أنهم كسروا الصاد.
وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها.
وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية: {نُفصِّل} بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة.
وقرأ أبو رزين، وعكرمة، والضحاك: {نَفصِل} بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده.
قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إِظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلُّف لأجل أموالهم وأولادهم.
وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقيَّة، وإِنما قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل.
قوله تعالى: {قد كانت لكم إِسوة حسنة في إبراهيم} وقرأ عاصم: {أُسوة} بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه، وفيهم قولان.
أحدهما: أنهم الأنبياء.
والثاني: المؤمنون {إذ قالوا لقومهم إنا بُرَءاءُ منكم} قال الفراء: يقول: أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!
قوله تعالى: {إلا قول إبراهيم لأبيه} قال المفسرون: والمعنى: تأسّوا بإبراهيم إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأسَّوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه، {وما أملك لك من الله من شيء} أي: ما أدفع عنك عذاب الله إِن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه {ربنا عليك توكلنا} إلى قوله تعالى: {العزيز الحكيم} قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكلنا.
وقد بينا معنى قوله تعالى: {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} في (يونس) [آية: 85].
ثم أعاد الكلام في ذكر الأُسوة فقال تعالى: {لقد كان لكم فيهم} أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله.
وقوله تعالى: {لمن كان يرجوا الله} بدل من قوله تعالى: {لكم} وبيان أن هذه الأسوة، لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة.
قوله تعالى: {ومن يتولَّ} أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار، {فإن الله هو الغني} عن خلقه {الحميد} إلى أوليائه.
فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا أقرباءهم، فأنزل الله تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم} أي: من كفار مكة {مودة} ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام، {والله قدير} على جعل المودة {والله غفور} لهم {رحيم} بهم بعدما أسلموا.
قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين} اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال.
أحدها: أنها في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العُزىَّ، قَدِمَت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها، وتقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير.
والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدًا، قاله ابن عباس.
وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به.
والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطية العوفي ومرة.
والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] قاله قتادة.
والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج.
قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز بِرِّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم.
قوله تعالى: {ولم يخرجوكم من دياركم} أي: من مكة {أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم} أي: تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم.
قوله تعالى: {وظاهروا على إخراجكم} أي: عاونوا على ذلك {أن تولَّوهم} والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تَولّوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسرَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم موالاة.
وذكر بعض المفسرين أن معنى الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف.
قال ابن جرير: لا وجه لادِّعاء النسخ، لأن بِرَّ المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام.
ويدل على ذلك حديث أسماء وأُمِّها الذي سبق.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنَّ} قال ابن عباس: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية على أنَّ من أتاه من أهل مكة ردَّه إليهم.
ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه، فجاءت سُبَيْعَة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحُديبية، فأقبل زوجها وكان كافرًا، فقال: يا محمد: اردد عليَّ امرأتي، فإِنك قد شرطت لنا أن تردَّ علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تَجِفَّ بعدُ فنزلت هذه الآية.
وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَدِمَتْ المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وُعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمد، أوف لنا بشرطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، أنا امرأة، وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله عزَّ وجل العهد في النِّساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهنَّ بحكم رضوه كلّهم، ونزل في أم كلثوم {فامتحنوهنَّ} فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها، يقول: والله ما أخرجكنَّ إلا حبُّ الله ورسولهِ، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن.
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببًا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم، وهو المشهور.
والثالث: أُميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني.
قال الماوردي: وقد اختلف أهل العلم هل دخل ردُّ النساء في عقد الهدنة لفظًا أو عمومًا؟ فقالت طائفة: قد كان شرط ردِّهن في لفظ الهدنة لفظًا صريحًا؛ فنسخ الله تعالى ردَّهن من العقد، ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان.
وقالت طائفة: لم يشرط ردُّهن في العقد صريحًا، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عز وجل خروجهنَّ عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين.
أحدهما: أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم.
والثاني: أنهن أرقُّ قلوبًا، وأسرع تقلُّبًا منهم.
فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم.
وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم يردَّ النساء عليهم، لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل، وإِن لم يقع الفعل.
قال المفسرون: والمراد بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي تولَّى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقنَّ بمحمد.
وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه كان يمتحنهن بـ: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله)، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجتِ من بغض زوج، ولا رغبةً عن أرض إِلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجتِ إلا حبًا لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضًا.
والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى: {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول عائشة.
قوله تعالى: {الله أعلم بإيمانهن} أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، {فإن علمتموهن مؤمنات} وذلك يُعلم بإقرارهن، فحينئذ لا يحل ردُّهن {إِلى الكفار} لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك {وآتوهم} يعني أزواجهن الكفار {ما أنفقوا} يعني: المهر.
قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم.
فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهنَّ} وهي المهور.
فصل:
عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها.
فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي.
وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين.
قوله تعالى: {ولا تُمسِكوا بعصم الكوافر} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، {تُمسِكوا} بضم التاء، والتخفيف.
وقرأ أبو عمرو، ويعقوب {تُمسِّكوا} بضم التاء، وبالتشديد.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة {تَمسَّكوا} بفتح التاء، والميم، والسين مشددة.
و{الكوافر} جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهن.
وقال الزجاج: المعنى: أنها إذا كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عَقْدُ النكاح، وأصل العصمة: الحبل، وكلُّ ما أمسك شيئًا فقد عصمه.
قوله تعالى: {واسألوا ما أنفقتم} أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدَّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم {وليسألوا ما أنفقوا} يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن {ما أنفقوا} وهو المهر.
والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم.
قال أهل السِّيَر: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقًا لم يكن لها زوج فيبعث إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة.
قوله تعالى: {ذلكم حكم الله} يعني ما ذكر في هذه الآية.
فصل:
وذكر بعضهم في قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5]، وهذا تخصيص لا نسخ.
قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم} قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم.
وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: {فعَقَبتم} بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها، وقرأ ابن عباس، وعائشة، وحميد، والأعمش مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة.
قال الزجاج: المعنى: في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم.
وقرأ أُبي بن كعب وعكرمة، ومجاهد: {فأعقبتم} بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة.
وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني: {فعَقِبتم} بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف {فآتُوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} أي: أعطُوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر.
وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدَّتْ، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطُوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إِليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله} [التوبة: 1] إِلى رأس الخمس.
فصل:
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزوج من الغنيمة، أومن صداق قد وجب ردُّه على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم.
وقد نص أحمد على هذا.
قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف.
قوله تعالى: {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهن الشرائط المذكورة في الآية فبايَعهن، وهو على الصفا، فلما قال: «ولا يزنين»، قالت هند: أوَتزني الحرة؟ فقال: «ولا يقتلن أولادهن»، فقالت: ربَّيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارًا، فأنتم وهم أعلم.
وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام.
وقد سمَّينا من أحصينا من المبايِعات في كتاب (التلقيح) على حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسون امرأة، والله الموفق.
قوله تعالى: {ولا يقتلن أولادهن} قال المفسرون: هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله.
قوله تعالى: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى.
وإِنما قال: {بين أيديهن وأرجلهن} لأن الولد إِذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها.
وقيل: معنى {يفترينه بين أيديهن}: يأخذنه لقيطا {وأرجلهن} ما ولدنه من زنى.
والثاني: السحر.
والثالث: المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: {ولا يعصينك في معروف} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه النَّوح، قاله ابن عباس، وروي مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه لا يَدْعين ويلًا، ولا يَخْدِشْنَ وجهًا، ولا يَنْشُرنَ شعرًا، ولا يَشْقُقْنَ ثوبًا، قاله زيد بن أسلم.
والثالث: جميع ما يأمرهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إِنما تلزم في المباح دون المحظور.
قوله تعالى: {فبايعهن} المعنى: إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولَّوا قومًا غضب الله عليهم} وهم اليهود، وذلك أن ناسًا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتقرَّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {قد يئسوا من الآخرة} وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمدًا، وهم يعرفون صدقه، قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير، والمعنى: قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح.
وقال قتادة: قد يئسوا أن يبعثوا، {كما يئس الكفار} فيه قولان.
أحدهما: كما يئس الكفار مِن بعث مَن في القبور، قاله ابن عباس.
والثاني: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد. اهـ.