فصل: بلاغة التعريف بالوصف في جملة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بلاغة التعريف بالوصف في جملة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}:

وهذه الجملة الشرطية مترتبة على سابقتها، ومكونات الشرط هنا كما يلي:
أداة الشرط: إن الدالة على ندرة الوقوع، فكأن الحديث هنا عن حالة نادرة.
وفعل الشرط: {يكونا رجلين} وفي دلالته ما يشير إلى أن الأصل هو البحث عن شهود عدول، رجالًا كانوا أم نساءً، ولو كان البحث عن الرجال خاصة لقيل: فإن لم يوجد رجلان.
أما جواب الشرط فهو {فرجل وامرأتان}.
وهما إما فاعل لفعل محذوف، تقديره:فإن يشهد رجل وامرأتان، أو فليستشهد رجل وامرأتان وإما مبتدأ، والخبر محذوف تقديره- يشهدان-.
وإما خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فالشاهد رجل وامرأتان.
وأولى هذه التقديرات- في رأيي- أن يكون قوله: {فرجل وامرأتان} فاعلًا لفعل محذوف تقديره: فليستشهد، ليوافق قوله من قبل: {فاستشهدوا}، ولأن طلب هؤلاء الثلاثة يكون أصعب، وبخاصة إذا ضم إلى هذا المعنى قوله: {ممن ترضون}.
والسياق العام للآية يضيِّق الخناق على التعامل بالدين، فكان البحث عن رجل وامرأتين يرضى عنهم المتداينين من الصعوبة بمكان؛ لذلك كان أقرب رحمًا بالغرض العام للآية.
وجيء في الآية بكان الناقصة، مع إمكان القول- فإن لم يكن رجلان؛ لئلا يتوهم منه أن شهادة المرأتين لا تقبل إلا عند تعذر الرجلين..
وفيه مرمى آخر، وهو تعويدهم على إدخال المرأة في شؤون الحياة؛ فإذا كانت في الجاهلية لا تشترك في مثل هذه الشؤون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد.
وهذا وإن كان فيه توسعة- إلا أن في إشراك النساء في الشهادة على مثل هذه المعاملات هدفًا آخر، وهو إحراج المدين، والتضييق عليه.
فالرجل إذا استدان وشهد عليه الرجل يكون في حالة من الذل والضعف، ولذلك يستعيذ بالله تعالى من غلبة الدين، فهو يخجل أن يعرف عنه الناس أنه مدين، فما بالك إذا كان الشاهد عليه رجلًا وامرأتين.؟!
إن في إشهاد النساء على الديون ضربًا آخر من التنفير؛ فطبيعة المرأة لا تقوى على كتم الأسرار، وهذا يعني أن إشهادها على الديون فيه إشاعة لذلك الأمر بين الناس، وهو ما يخشاه المدين، مما يترتب عليه العزوف عن هذه الديون قدر الطاقة.
والذي يظهر في هذه الجملة من الأساليب هو أسلوب تعريف الشهود بالوصف؛ حيث قيل: {فرجل وامرأتان ممن ترضون}، وهذا التعريف يشير إلى أن كل واحد منهم مُختَبر في مثل هذه المواقف؛ حيث ثبت عدلُه، وصدقهُ، وهذا يقارب معنى {شهيدين من رجالكم}.
لكن قوله: {شهيدين} فيه من الشهرة ما لا يوجد في {فرجل وامرأتان}؛ إذ الأصل في المرأة عدم الشهرة، وإن كان لا يمنع تجربة الشهادة عليها؛ ولذلك زيد بعد الوصف قوله: {من الشهداء}، ولم يقل- من المسلمين، أو من الناس-.
فهذا يعني أن الرضا هنا رضا شهادة سابقه، كما أن تمام الوصف قوله من الشهداء-وقيل اللفظ المذكر إما تغليبًا كما هي عادة العربية، أو إشارة إلي أن الأصل في الشهود أن يكونوا رجالًا.
ويلحظ هنا أن الكلام جاء بالأسلوب الصريح المكشوف الخالي من الصور البلاغية، أو اللون البديعي؛ وذلك لأن السياق يحتاج إلي هذا الوضوح والصراحة في هذه المعاملة؛ فالأخذ والعطاء والكتابة والشهادة كلها أمور تحتاج إلي هذه الشفافية.
لكن الزمخشري عدّ هذا اللفظ من قبيل المجاز المرسل؛ حيث قال: وقيل لهم: شهداء قبل التحمل تنزيلًا لما يشارف منزلة الكائن، يعني: أن العلاقة هنا اعتبار ما سيكون، كما في قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرًا}.
فلما كانوا قبل الشهادة ليسوا شهودًا أطلق اللفظ عليهم، باعتبار أنهم سيكونون شهودًا.
وهذا وإن كان مقبولًا شكلًا إلا أنه لا يتناغم مع السياق الرامي إلى البحث عن رجل وامرأتين، ذات صفات مخصوصة.
منها: قبولهما عند كلٍّ من الدائن، والمدين.
ومنها: تجريب الشهادة عليهما من قبل.
وكل من الأمرين متعلق بالآخر كما لا يخفى.

.أثر القراءات في تصوير المعنى في جملة: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}:

اختلف القراء في قراءة هذه الجملة؛ فقرأ عامة أهل الحجاز، والمدينة، وبعض أهل العراق: {أن تضل إحداهما فتذكرَ إحداهما الأخرى}، بفتح الألف من {أن} ونصب {تضل} و{تذكرَ}؛ بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت.
فهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير؛ لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان {تضل}.
وقالوا: إنما نصبنا {تذكر}؛ لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله، فصار جوابه مردودا عليه، كما تقول في الكلام: إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطي، بمعنى إنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل، أو إذا سأل، فالذي يعجبك هو الإعطاء، دون المسألة. ولكن قوله أن يسأل لما تقدم اتصل بما قبله، وهو قوله: ليعجبني. وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرؤونه بتسكين الذال من {تُذْكِر} وتخفيف كافها.
وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه: فتصيِّر إحداهما الأخرى ذكَرًا باجتماعهما، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها: جازت، كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين؛ لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون، إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحدة، فتصير شهادتهما حينئذٍ بمنزلة شهادة واحد من الذكور.
فكأن كل واحدة منهما- في قول متأولي ذلك بهذا المعنى- صيَّرت صاحبتها معها ذكرًا، وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى الذِكرِ بعد النسيان.
وقرأ آخرون: {إن تضل إحداهما فتُذكَّرُ إحداهما الأخرى} بكسر {إن}، ورفع {فتذكر} وتشديده، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها تذكرها الأخرى، من تثبيت الذاكرة الناسية، وتذكيرها ذلك.
ومعنى الكلام: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء؛ فإنْ إحداهما ضلت ذكرتها الأخرى.
يقول قتادة: علِم اللهُ تعالى أن ستكون حقوق فأخذ لبعضهم من بعض الثقة، فخذوا ثقة الله تعالى، فإنه أطوع لربكم، وأدرك لأموالكم، ولعمري لئن كان تقيًا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا، وإن كان فاجرًا فبالأحرى أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودًا.
والضلال هنا: النسيان- كما قال أبوعبيدة- معنى {تضل} تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها، وذكر جزء، ويبقى المرء حيران بين ذلك، ضالًا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضلَّ.
وقد جعل الزمخشري هذا اللفظ من قبيل المجاز المرسل؛ حيث قال: {أن تضل} أي: إرادة أن تضل، فإن قلت: كيف يكون ضلالهما مرادا لله تعالى؟
قلت: لما كان الضلال سببًا للإذكار، والإذكار مسببًا عنه، وهم ينزلون كل واحد من السبب، والمسبب منزلة الآخر؛ لالتباسهما، واتصالهما كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ونظيره:- أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه-، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه.
والسؤال الذي يعنُّ من خلال السورة المجازية هو: ما وجه البلاغة في إيثار {أن تضل} بدلًا من أن تنسى إذا كانا بمعنى واحد؟
الذي أراه أن في الضلال معنى زائدًا وهو ترتب الهلاك على النسيان؛ ولذلك قيل: ضلت الناقة: إذا هلكت بضياعها، وفي القرآن الكريم {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة:10] أي: هلكنا بتقطع أوصالنا... كما أن من معانيها: الضياع، يقال: هو ضال في قومه؛ أي: ضائع، ومنه قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} [الضحى:7]؛ أي: ضائعًا في قومك، لا يعرفون منزلتك.
وقيل: الضلال بمعنى القصد إلى الشيء؛ {أن تضل}؛ أي تقصد إلى الشهادة فتذكرها الأخرى عونًا لها، وهذا من المقلوب المستفيض في كلامهم.
وكل ذلك يصب في نهر واحد، وهو بيان الحكمة من وضع المرأتين موضع الرجل الواحد؛ إذ أن الغالب على عقول النساء الانشغال بأمور المنزل، والأولاد، والقيام بأمر التربية؛ فصلتها بالحياة العامة ضعيفة بالنسبة للرجل، لذلك كانت في حاجة إلى تذكير.
وصياغة الجملة كان من الممكن أن يقال فيها: لتذكر إحداهما الأخرى إن ضلت... لكن قدم الضلال إيماءً إلى شدة الاهتمام بشأن الإنكار عليه.
ولما كان {أن تضل} في معنى لضلال إحداهما صارت العلة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك، بل العلة هي ما يترتب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرع عليه: {فتذكر إحداهما الأخرى} لأن- فتذكر- معطوف على- تضل- بفاء التعقيب، فهو من تكملته، والعبرة بآخر الكلام.
ومن شأن العرب في لغتهم إذا ذكروا علة، وكان للعلة علة قدَّموا ذكر علة العلة، وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء؛ لتحصل الدلالتان معًا بعبارة واحدة....
ولا شك أن هناك ظروفًا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرًا ميسورًا، فهنا يسَّر التشريع، فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال؛ لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السويّ الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها، وأنوثتها، وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية، وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد، المنحرف الذي نعيش فيه اليوم.
فإذا لم يوجد رجلان، فليكن رجل واحد وامرأتان.
ولكن لماذا امرأتان؟
إن النص لا يدعنا نحدس، ففي مجال التشريع يكون كل شيء محددًا، وواضحًا ومعللًا فيقول: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة..
فقد ينشا من قلة خبرة المرأة، بموضوع التعاقد؛ مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه، وملابساته، ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها؛ بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معًا على تذكر ملابسات الموضوع كله.
وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية؛ فإن وظيفة الأمومة العضوية البيلوجية تستدعي مقابلًا نفسيا في المرأة يجعلها شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية، لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية، لا ترجع فيها إلى التفكير البطيء، وذلك من فضل الله تعالى على المرأة، وعلى الطفولة، وهذه الطبيعة لا تتجزأ فالمرأة شخصية موحدة، هذا طابعها حيث تكون امرأة سوية، بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع، بلا تأثر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا انحرفت مع أي انفعال؛ فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة.
ومن الإضافات التي يمكن الاستئناس بها هنا ما ذكره الشيخ عبد المجيد الزنداني في برنامجه التلفزيوني معجزة القرآن المتجددة في قناة اقرأ قال: إن عقل الرجل يوجد به مركز للنطق، ومركز للتذكر، في حين أن الموضعين نفسيهما في عقل المرأة يعملان في الكلام، وهما هما يعملان في التذكر أو الذاكرة: فالرجل إذا شهد تكلم بجزء، وتذكر بجزء آخر، أما المرأة إذا شهدت فهي تحتاج إلى عمليتين: عملية الكلام، وعملية التذكر.
ولما كان الموضعان لا يستطيعان العمل بالمهمتين في وقت واحد، كان لابد من وجود امرأتين، إحداهما تتكلم، والأخرى تتذكر؛ لأن الفصين في العقل يعملان نفس الوظيفة- وظيفة الكلام ووظيفة التذكر- فالمرأة الواحدة إذا تكلمت غطت المنطقة التي تتكلم على الذاكرة؛ لذا كان لابد من وجود امرأتين.