فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

سورة الممتحنة.
مدنية وآيها ثلاث عشرة آية.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، فإنه لما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو أهل مكة كتب إليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وأرسل كتابه مع سارة مولاة بني المطلب، فنزل جبريل عليه السلام فأعلم رسول الله، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وعمارًا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها» فأدركوها ثمة فجحدت فهموا بالرجوع، فسل علي رضي الله تعالى عنه السيف فأخرجته من عقاصها، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا وقال: «ما حملك عليه»؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكني كنت امرأ ملصقًا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أهلي، فأردت أن آخذ عندهم يدًا وقد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئًا، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره. {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} تفضون إليهم المودة بالمكاتبة، والباء مزيدة أو إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة، والجملة حال من فاعل {لاَ تَتَّخِذُواْ} أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له، ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط في الاسم دون الفعل. {وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق} حال من فاعل أحد الفعلين. {يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم} أي من مكة وهو حال من {كَفَرُواْ} أو استئناف لبيانه. {أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبّكُمْ} بأن تؤمنوا به وفيه تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإِيمان. {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} عن أوطانكم. {جِهَادًا في سَبِيلِي وابتغاء مَرْضَاتِي} علة للخروج وعمدة للتعليق وجواب الشرط محذوف دل عليه {لاَ تَتَّخِذُواْ}. {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} بدل من {تُلْقُونَ} أو استئناف معناه: أي طائل لكم في أسرار المودة أو الإخبار بسبب المودة. {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} أي منكم. وقيل {أَعْلَمُ} مضارع والباء مزيدة و(ما) موصولة أو مصدرية. {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي من يفعل الاتخاذ. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أخطأه.
{إِن يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم. {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاءً} ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم. {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} ما يسوؤكم كالقتل والشتم. {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} وتمنوا ارتدادكم، ومجيء {وَدُّواْ} وحده بلفظ الماضي للإِشعار بأنهم {وَدُّواْ} قبل كل شيء، وأن ودادتهم حاصلة وإن لم يثقفوكم.
{لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم} قراباتكم.
{وَلاَ أولادكم} الذين توالون المشركين لأجلهم. {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} يفرق بينكم بما عراكم من الهول فيفر بعضكم من بعض فما لكم ترفضون اليوم حق الله لمن يفر منكم غدًا، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الصاد والتشديد وفتح الفاء، وقرأ ابن عامر {يُفَصّلُ} على البناء للمفعول وهو {بَيْنِكُمْ}، وقرأ عاصم {يُفَصّلُ}. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قدوة. اسم لما يؤتسى به. {في إبراهيم والذين مَعَهُ} صفة ثانية أو خبر كان و{لَكُمْ} لغو أو حال من المستكن في {حَسَنَةٌ} أو صلة لها لا لـ: {أُسْوَةٌ} لأنها وصفت. {إِذْ قالواْ لِقَوْمِهِمْ} ظرف لخبر كان. {إِنَّا بُرَاءُ مّنكُمْ} جمع بريء كظريف وظرفاء. {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينكم أو بمعبودكم، أو بكم وبه فلا نعتد بشأنكم وآلهتكم. {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ} فتنقلب العداوة والبغضاء ألفة ومحبة. {إِلاَّ قول إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} استثناء من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فإن استغفاره إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر ليس مما ينبغي أن يأتسوا به، فإنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه. {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شيء} من تمام قوله المستثنى ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه. {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير} متصل بما قبل الاستثناء أو أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه تتميمًا لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار.
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نتحمله. {واغفر لَنَا} ما فرط منا {رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} ومن كان كذلك كان حقيقًا بأن يجير المتوكل ويجيب الداعي.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} تكرير لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم ولذلك صدر بالقسم وأبدل قوله: {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} من {لَكُمْ} فإنه يدل على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وإن تركه مؤذن بسوء العقيدة ولذلك عقبه بقوله: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنه جدير بأن يوعد به الكفرة.
{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً} لما نزل {لاَ تَتَّخِذُواْ} عادى المؤمنون أقاربهم المشركين وتبرؤوا عنهم، فوعدهم الله بذلك وأنجز إذ أسلم أكثرهم وصاروا لهم أولياء. {والله قَدِيرٌ} على ذلك. {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لما فرط منكم في موالاتهم من قبل ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.
{لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم في الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم} أي لا ينهاكم عن مبرَّة هؤلاء لأن قوله: {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدل من {الذين}. {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} وتفضوا إليهم بالقسط أي العدل. {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العادلين، روي أن قتيلة بنت عبد العزى قدمت مشركة على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت.
{إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم في الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم} كمشركي مكة فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين. {أَن تَوَلَّوْهُمْ} بدل من {الذين} بدل الاشتمال. {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لوضعهم الولاية في غير موضعها.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن}
فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهم لسانهم في الإِيمان. {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} فإنه المطلع على ما في قلوبهم. {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} العلم الذي يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علمًا إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل به. {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} والتكرير للمطابقة والمبالغة، أو الأولى لحصول الفرقة والثانية للمنع عن الاستئناف. {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ما دفعوا إليهن من المهور، وذلك لأن صلح الحديبية جرى: على أن من جاءنا منكم رددناه. فلما تعذر عليه ردهن لورود النهي عنه لزمه رد مهورهن. إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد الحديبية إذ جاءته سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة فأقبل زوجها مسافر المخزومي طالبًا لها فنزلت. فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه.
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} فإن الإِسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار. {إِذَا آتيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانًا بأن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر. {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} بما يعتصم به الكافرات من عقد وسبب جمع عصمة، والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، وقرأ البصريان {وَلاَ تُمْسِكُواْ} بالتشديد. {وَاسْئَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ} من مهور نسائكم اللاحقات بالكفار. {وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ} من مهور أزواجهم المهاجرات. {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله} يعني جميع ما ذكر في الآية. {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} استئناف أو حال من الحكم على حذف الضمير، أو جعل الحكم حاكمًا على المبالغة. {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرع ما تقتضيه حكمته.
{وَإِن فَاتَكُمْ} وإن سبقكم وانفلت منكم. {شَيْءٌ مّنْ أزواجكم} أحد من أزواجكم، وقد قرئ به وإيقاع {شَيْء} موقعه للتحقير والمبالغة في التعميم، أو {شَيْء} من مهورهن. {إِلَى الكفار فعاقبتم} فجاءت أي نوبتكم من أداء المهر، شبه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. {فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر. روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة أبى المُشركون أن يؤدوا مهر الكوافر فنزلت. وقيل معناه إن فاتكم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة {فَاتُواْ} بدل الفائت من الغنيمة. {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإِيمان به يقتضي التقوى منه.
{يا أيها النبي إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا} نزلت يوم الفتح فإنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء. {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} يريد وأد البنات. {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ} في حسنة تأمرهن بها، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. {فَبَايِعْهُنَّ} إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء. {واستغفر لَهُنَّ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} يعني عامة الكفار أو اليهود. إذ روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم. {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} لكفرهم بها أو لعلمهم بأنهم لاحظ لهم فيها لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة المؤيد بالآيات. {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور} أن يبعثوا أو يثابوا أو ينالهم خير منهم، وعلى الأول وضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أن الكفر آيسهم.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}
التفسير: يروى أن مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متجهز لفتح مكة فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردًا واستحملها كتابًا إلى أهل مكة هذه نسخته (من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة. اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم). فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا رضي الله عنه وعمارًا وعمرو فرسانًا أخر وقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فإن أبت فاضربوا عنقها». فأدركوها فجحدته وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب أن تضعي رأسك فأخرجته من عقاص شعرها. فقال رسول الله عليه وسلم لحاطب: «ما حملك عليه»؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت غريبًا في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدًا، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئًا فصدّقه وقبل عذره فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «وما يدريك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم وأنزلت السورة. و{تلقون} مستأنف أو حال من ضمير {لا تتخذوا} أو صفة لأولياء، ولا حاجة إلى الضمير البارز وهو أنتم وإن جرى على غير من هو له لأن ذاك في الأسماء دون الأفعال كما لو قلت مثلًا ملقين أنتم والإلقاء عبارة عن الإيصال التام. والباء في {بالمودة} إما زائدة كما في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم} [البقرة: 195] أو للسببية ومفعول {تلقون} محذوف معناه تلقون إليهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب المودة. و{أن تؤمنوا} تعليل لـ: {يخرجون} أي يخرجونكم لإيمانكم. و{إن كنتم خرجتم} تأكيد متعلق بـ: {لا تتخذوا} وجوابه مثله. وانتصب {جهادًا} و{ابتغاء} على العلة أي إن كنتم خرجتم من أوطانكم لأجل جهاد عدوّى ولابتغاء رضواني فلا تتولوا أعدائي. وقوله: {تسرون} مستأنف والمقصود أنه لا فائدة في الإسرار فإن علام الغيوب لا يخفى عليه شيء. ثم خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أنهم إن يظفروا بهم أخلصوا العداوة ويقصدونهم بكل سوء باللسان والسنان. قال علماء المعاني: إنما عطف قوله: {وودّوا} وهو ماضٍ لفظًا على ما تقدمه وهو مضارع تنبيهًا على أن ودادهم كفرهم أسبق شيء عندهم لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من الأرواح والأموال وأهم شيء عند العدوّ أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. ثم بين خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أن المودة إذا لم تكن في الله لم تنفع في القيامة لانفصال كل اتصال يومئذ كما قال: {يوم يفر المرء من أخيه} [عبس: 34] الآية. ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم. ثم ذكر أن وجوب البغض في الله وإن كان أخاه أو أباه أسوة في إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه حيث جاهروا قومهم بالعداوة وقشروا لهم العصا وصرحوا بأن سبب العداوة ليس إلا الكفر بالله، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة والمناوأة مصافاة والمقت محبة. ثم استثنى {إلا قول إبراهيم} من قوله أسوة كأنه قال حق عليكم أن تأتسوا بأقواله إلا هذا القول الذي هو الاستغفار لقوله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} [التوبة: 113] أما قوله: {وما أملك لك من الله من شيء} فليس بداخل في حكم الاستثناء لأنه قول حق، وإنما أورده إتمامًا لقصة إبراهيم مع أبيه.
وقال في الكشاف: هو مبني على الاستغفار وتابع له كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. ثم أكد أمر المؤمنين بأن يقولوا {ربنا عليك توكلنا} الآية. ويجوز أن يكون من تتمة قول إبراهيم ومن معه وفيه مزيد توجيه.
ثم أكد أمر الائتساء بقوله: {لقد كان} فأدخل لام الابتداء وأبدل من قوله: {لكم} قوله: {لمن كان يرجو} وختم الآية بنوع من الوعيد. ثم أطمع المؤمنين فيما تمنوا من عداوة أقاربهم بالمودة {والله قدير} على تقليب القلوب وتصريف الأحوال {والله غفور رحيم} لمن وادهم قبل النهي أو لمن أسلم من المشركين، فحين يسر الله فتح مكة أسلم كثير منهم ولم يبق بينهم إلا التحاب والتصافي. ولما نزلت هذه الآيات تشدّد المؤمنون في عداوة أقاربهم وعشائرهم فنزل {لا ينهاكم الله} وقوله: {أن تبروهم} بدل من {الذين لم يقاتلوكم} وكذا قوله: {أن تولوهم} من {الذين قاتلوكم} والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء. ومعنى {تقسطوا إليهم} تعطوهم مما تملكون من طعام وغيره قسطًا. وعدّي بـ: (إلى) لتضمنه معنى الإحسان وقال في الكشاف: تقضوا إليهم بالقسط أي العدل ولا تظلموهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. وعن مجاهد: الذين آمنوا بمكة. وقيل: هم النساء والصبيان. وعن قتادة: نسختها آية القتال.
قال المفسرون: إن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم ومن أتى مكة منهم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك كتابًا وختموه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافرًا المخزومي. وقيل: صيفي بن الراهب فقال: يا محمد اردد إليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} الآية. فكانت بيانًا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء. وعن الضحاك: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد أن تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها. وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك فأتت امرأة فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {فامتحنوهن} فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق ونزوّجها عمر. وفائدة قوله: {الله أعلم بأيمانهنّ} أنه لا سبيل لكم إلى ما تسكن إليه النفس من اليقين الكامل لأنكم تختبرونهن بالحلف والنظر في سائر الأمارات التي لا تفيد إلا الظن، وأما الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد به علام الغيوب {فإن علمتموهن مؤمنات} العلم الذي يليق بحالكم وهو الظن الغالب {فلا ترجعون إلى} أزواجهن {الكفار} لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك وآتوا أزواجهن {مثل ما أنفقوا} مثل ما دفعوا إليهن من المهور. ثم ن في عنهم الحرج في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا أعطوهن مهورهن.
قال العلماء: إما أن يريد بهذا الأجر ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوّجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد بيان أن ذلك المدفوع لا يقوم مقام المهر وأنه لابد من إصداق. احتج أبو حنيفة بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلمًا أو بذمة وبقي الآخر حربيًا وقعت الفرقة بينهما ولا يرى العدة على المهاجرة ويصح نكاحها إلا أن تكون حاملًا {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وهو ما يعتصم به من عقد وسبب قال ابن عباس: أراد من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعدّها من نسائه لأن اختلاف الدين قطع عصمتها وحل عقدتها. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وقال مجاهد: هذا أمر بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن {واسئلوا ما أنفقتم} من مهور أزواجكم الملحقات بالكفار {وليسئلوا ما أنفقوا} من مهور نسائهم المهاجرات. أمر المؤمنين بالإيتاء ثم أمر الكافرين بالسؤال وهذه غاية العدل ونهاية الإنصاف. ثم أكد ما ذكر من الأحكام بأنها حكم الله. قال جار الله: {يحكم بينكم} كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف العائد أي يحكمه الله، أو جعل الحكم حاكمًا على المبالغة. يروى أن بعض المشركين أبوا أن يؤدّوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فأنزل الله تعالى: {وإن فاتكم} أي سبقكم وانفلت منكم {شيء من أزواجكم} أحد منهن قال أهل المعاني: فائدة إيقاع شيء في هذا التركيب التغليظ في الحكم والتشديد فيه أي لا ينبغي أن يترك شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوّض عنه. ويجوز أن يراد وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم. ومعنى {فعاقبتم} فجاءت عقبتكم من أداء المهر والعقبة النوبة شبه أداء كل طائفة من المسلمين والكافرين المهر إلى صاحبتها بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم} إلى الكفار {مثل ما أنفقوا} أي مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر.
وقال الزجاج: معنى {فعاقبتم} فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، فالذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر. قال بعض المفسرين: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر. أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. وفي قوله: {واتقوا الله} ندب إلى سيرة التقوى ورعاية العدل ولو مع الكفرة.
ثم نبّه نبيه صلى الله عليه وسلم على شرائط المبالغة وهي المعاهدة على كل ما يقع عليه اتفاق كالإسلام والإمارة والإمامة، والمراد هاهنا المعاقدة على الإسلام وإعطاء العهود به وبشرائطه وعدم قتل الأولاد ووأد البنات، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك فكني عنه بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه هو بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين. وقيل: البهتان في الآية الكذب والتهمة والمشي بالسعاية مختلفة من تلقاء أنفسهنّ. وقيل: قذف المحصنين. قال ابن عباس: في قوله: {ولا يعصينك في معروف} إنما هو شرط شرطه الله تعالى على النساء، والمعروف كل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات. واختلف في كيفية مبايعته إياهنّ فقيل: دعا بقدح من ماء وغمس يده فيه ثم غمسن أيديهنّ. وقيل: صافحهنّ وكان على يده ثوب. وقيل: كان عمر يصافحهنّ ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة يملكها إنما كان كلامًا. وعن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه على الإسلام فأخذ علينا يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيما استطعن وأطقتن». قلنا؛ الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نصافحك يا رسول الله. قال: «إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة». يروى أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود طمعًا في ثمارهم فنزلت {لا تتلوا قومًا} الآية. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوّة الرسول ثم عنادهم كما يئس الكفار من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار لأنهم أيسوا من خير الآخرة ومعرفة المعبود الحق فكأنهم أولى. اهـ.