فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} أي: أنصارًا. نهيٌ لأصحاب النبي صلوات الله عليه، عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي.
{تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} أي: صميم المحبة، والباء زائدة في المفعول {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} أي: من الإيمان بالله ورسوله وكتابه، الذي هو نهاية الهدى، وغاية السعادة.
ثم أشار إلى أنهم لم يكفهم ذلك حتى آذوا المؤمنين، بما يقطع العلائق معهم رأسًا، بقوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} أي: من أرضكم ودياركم {أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي: يخرجونكم لإيمانكم بالله، الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بوصف كونه رباكم بالكمالات، فهي بالحقيقة عداوة مع الله.
قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم، وعدم موالاتهم، لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال تعالى: {أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقولوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]، وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} أي: هاجرتم {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي} أي: للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به. والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بـ {لَا تَتَّخِذُوا} أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي {تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} أي: من المودة معهم وغيرها {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي: اتخاذهم أولياء {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله هدى ونجاة.
{إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [2]
{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أي: يظفروا بكم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء} أي: حربًا، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} أي: بما يسوؤكم كالقتل والشتّم {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أي: بما جاءكم من الحق.
{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} أي: قراباتكم {وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} أي: بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين.
وقال القاشانيّ: أي: لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله، لأن القيامة مفرقة. وهذا معنى قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34- 36]، انتهى. وهو تأويل جيد.
لطيفة:
قال السمين: يجوز في {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بما قبله، أي: لن تنفعكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ بـ {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}
والثاني: أي: يتعلق بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على {أَوْلاَدَكُمْ}، ويبتدأ بـ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
{وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فيجازيكم عليه.
تنبيهات:
الأول: قال ابن جرير: ذكر أن هذه الآيات، من أول هذه السورة، نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ثم ساق الروايات.
وأما رواية البخاري فعن عليّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» فذهبنا تَعَادَى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب! فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب، أو لنلقيَنَّ الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا حاطب» قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش، ولو سلم: من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا، ولا ارتدادًا عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه قد صدقكم» فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال: «إنه شهد بدرًا، وما يدريك، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم!». قال عمرو بن دينار- راوي الحديث- ونزلت فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} الآيات.
قال ابن كثير: كان حاطب هذا رجلًا من المهاجرين، ومن أهل بدر. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفًا لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لمَّا نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: «اللهم عمِّ عليهم خبرنا» فعمد حاطب هذا، فكتب كتابًا إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدًا. كما ذكر في الحديث.
الثاني: قال ابن كثير: يعني تعالى بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} المشركين والكفار، الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]. وقال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد. انتهى.
أي أنه قبل عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة، وإن أخطأ. والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله الذي لأجله نزلت السورة، ولذلك قال الإمام إلكيَا الهَراسي: يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية، لأنها في موضوع آخر. وقد بسط الكلام على الولاء والبراء السيد المرتضى في (إيثار الحق) في المسالة الثامنة. قال بعد أن أورد الآيات والأحاديث: هذا كله في الحب الذي هو في القلب، والمخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين، إذا كان لأجل إسلامهم، وتوحيدهم عند أهل السنة. وأما المخالفة والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب، كما أشارت إليه الآية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}- كما يأتي- وأما التقية، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين. وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة. وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام.
ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في (الرسالة المخرسة، لأهل المدرسة): لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيرًا من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولّى الناصر الكثير منهم، وصلى بهم الجمعة جعفرُ الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم.
وذكر الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي موالاة الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، ونحو ذلك.
قال السيد: وهو كلام صحيح، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. ومنها قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآيتين، وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء، بعد آيات التحريم، رواه أحمد والبزار والواحدي، وتأخرهما واضح في سياق الآيات، وقرينة الحال مع هذا الحديث. ولو لم يصح تأخر ذلك، فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور. ورجحه ابن رشد في (نهايته)بالنصوصية على ما هو خاص فيه. ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليهما من حديث عليّ عليه السلام في قصة حاطب، على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة- هذه- وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعًا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة، والتقية فيما لا يضر في ظنه.
فإن قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟ قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث. وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم، لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} [النساء: 83] ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن في أكثر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيلة في حفظ المال، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم. فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم، لما فيه من الخيانة، لا نفس الفعل، لو تجرد من الكتم والخيانة- والله أعلم- انتهى.
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودّد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشفّ عن كون الآتي بذلك متزلزلًا في عقده، مضطربًا في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سببًا لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم. وهذا هو السر في الحقيقة، كما بينه آية: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5]. وسيأتي بيانه.
ثم علّم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم، وبقوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} أي: قدوة {حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: أتباعه الذين آمنوا معه، كلوط عليه السلام {إِذْ قالوا لِقَوْمِهِمْ} يعني الذين أشركوا بالله وعبدوا الطاغوت {إِنَّا بُرَاء} جمع بريء، كظريف وظرفاء {مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} أي: بدينكم ومعبودكم. قال ابن جرير: أي: أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقًا {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي: لا صلح بيننا ولا مودة إلى أن تؤمنوا بالله وحده. أي: توحدوه وتفردوه بالعبادة {إِلَّا قول إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} استثناء من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قال ابن جرير: أي: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها، من مباينة الكفار ومعاداتهم، وترك موالاتهم، إلا في قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، فإنه لا أسوة لكم فيه في ذلك، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين أنه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله، تبرؤوا من أعداء الله المشركين به، ولا تتخذوا منهم أولياء، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء، حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرءوا عن عبادة ما سواه.
ثم روي عن مجاهد أنه قال في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه، فيستغفروا للمشركين.
{وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} أي: وما أدفع عنك من عقوبة الله شيئًا إن أراد عقابك. والجملة من تمام المستثنى، إلا أنه لا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم أفراده، ولذا قال الزمخشريّ: القصد إلى موعد الاستغفار وما بعده مبنيّ عليه، وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك، وما في طاقتي إلا الاستغفار.
وقوله تعالى: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} متصل بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة، أو أمر منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوا ذلك، تتميمًا لما وصاهم به من قطع الصلات المضرّة بينهم وبين المحاربين لهم. ومعنى {إِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي: إليك رجعنا بالتوبة مما تكره، إلى ما تحب وترضى.
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [5]
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال مجاهد: أي: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا. وكذا قال قتادة، أي: لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك. يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. انتهى.
ومآل هذا الدعاء هو التعوذ من مثل ما صنع حاطب، مما يورث افتتان المشركين بالدين إذ يكون ذلك مدعاة لقولهم: لو كان هؤلاء على حق، وما يوعدون به من الظفر حق، لما صانعنا مؤمنهم، فإذن ما هم عليه أماني. فيتزلزل من كان في نفسه الانتظام في سلكهم، والاستسعاد بحقهم. ففي الآية معنى كبير، وتأديب عظيم. أي: ربنا لا تجعلنا نهمل من ديننا ما أمرنا به، أو نتساهل فيما عزم علينا منه، حتى لا تنحل بذلك قوتنا، ويتزلزل عمادنا، ويفتح لعدو الدين الافتتان به، لأن المؤمنين ما داموا متمسكين بآداب الدين، محافظين عليها، قائمين بها حق القيام، فإن النصر قائدهم والظفر رائدهم، ولذا أصبح المسلمون في القرون الأخيرة بحالهم حجة على دينهم أمام عدوهم، ولا مسترد لقولهم، ومستعاد لمجدهم، إلا بالرجوع إلى أصل كتابهم، والعلم بآدابه، والمحافظة على أحكامه، ونبذ ما ألصق به، مما يحرف كلمته، ويجافي حقيقته، وللحكماء في هذا الموضوع مقالات معروفة.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [6]
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} تكرير لوجوب التأسي بإبراهيم وأصحابه، لمزيد الحث على التبرؤ من المشركين، والاسترسال إليهم، فإن محبة المفسدين فيها تخريب لمباني الحق، وتوهين لقوى أهله، وتشكيك لضعفاء القلوب، مما يفسد عمل المخلصين، ويزلزل مساعيهم، ويفتن أعداؤهم بهم، لذلك كان البغض في الله من شعب الإيمان، لأن الحق لا يقوى إلا باعتصاب أهله على كلمته، ورمي أعدائه عن قوس واحدة. وفي إبدال {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} من {لِكُمْ} دلالة على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وأن تركه مؤذن بسوء العقيدة. ولذلك عقبه بقوله: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: من يتول عما أمر به، ويوالي أعداء الله، ويلقي إليهم بالمودة، فإنه لا يضرّ إلا نفسه، والله هو الغني عن إيمانه به وطاعته، المحمود على كل حال.
{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذا وعد منه تعالى، وقد أنجزه بأن أسلم كثير منهم بعدُ، وصاروا لهم أولياء وأحزابًا. والآية من معجزات القرآن، لما فيها من الإخبار عن مغيب، وقع مصداقه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} هذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. فهو في المعنى تخصيص لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} إلخ أي: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، أي: تفضوا إليهم بالبرّ، وهو الإحسان، والقسط وهو العدل، فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه، بل مأمور به في حقهم. والخطاب، وإن يكن في مشركي مكة، إلا أن العبرة بعموم لفظه، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه، فردّ ذلك الإمام ابن جرير بقوله:
والصواب قول من قال: عني بقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، فإن الله عز وجل عمّ بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ} جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة ونسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة على له، أو لأهل الحرب، على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح، وقد بين صحة ما قلناه الخبر في قصة أسماء وأمها. انتهى.
وذلك أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: «نعم! صلي أمك». رواه أحمد والشيخان ورواه أيضًا الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب، وقرظ، وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها. قال الرازي: وقوله تعالى: {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدل من {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} وكذلك {أَن تَوَلَّوْهُمْ} بدل من {الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم، لشدتهم في العداوة، وهذه الآية على جواز البرّ بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة. انتهى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} أي: من مكة إلى المدينة، {فَامْتَحِنُوهُنَّ} أي: فاختبروهن بما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} أي: المطلع على قلوبهن، لا أنتم، فإنه غير مقدور لكم، فحسبكم أماراته وقرائنه.
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حلّفها بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله.
وقال مجاهد: أي: سلوهن ما جاء بهن؟ فإن كان بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره، ولم يؤمنَّ، فارجعوهن إلى أزواجهن.
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} قال الزمخشري: أي: العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف، وظهور الأمارات، وإنما سماه علمًا، إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل به.
{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} أي: فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين، إذ لا حلّ بين المؤمنة والمشرك، لأن إيمانها قطع عصمتها من المشرك المعادي لله ولرسوله.
قال ابن جرير: وإنما قيل ذلك للمؤمنين، لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية، أن يردّ المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلمًا، فأبطل ذلك الشرط في النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات، فامتُحنَّ فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم مما ذكرنا، وأمروا أن لا يردوهن إلى المشركين، إذا علم أنهن مؤمنات، {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي: لانقطاع النكاح بينهنّ. قال ابن كثير: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين. وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك من المؤمنة. ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع،، زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وهو على دين قومه. فلما وقع الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة. وقال للمسلمين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا»، ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فو في بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صدقًا، ومنهم من يقول بعد سنتين، وهو صحيح لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين، انتهى.
{وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} قال ابن جرير: أي: وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات، إذا علمتموهن مؤمنات، فلم ترجعوهن إليهم، ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي: هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب، مفارقات لأزواجهن، وإن كان لهن أزواج {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن. قال ابن زيد: لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرأت أرحامهن.
ثم أشار إلى أنه، كما بطل نكاح المؤمنة على الكافر، بطل نكاح الكافرة على المسلم. بقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أي: بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال.
قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأسبابهن. و{الْكَوَافِرِ} جمع كافرة. والعصم: جمع عصمة، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب. وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن الإقدام على نكاح المشركات من أهل الأوثان، وأمر لهم بفراقهن. ثم روي عن مجاهد قال: أُمر أصحاب محمد بطلاق نسائهم كوافر بمكة قعدن مع الكفار.
وعن الزهري: لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} إلى قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة: ابنة أبي أمية، وابنة جرول. وطلحة بن عبيد الله بنت ربيعة، ففرق بينهما الإسلام، حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر، وكن ممن فرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار، ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فحبسها وزوجها رجلًا من المسلمين، أميمة بنت بشر الأنصارية كانت عند ثابت بن الدحداحة، ففرّت منه، وهو يومئذ كافر، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف، أحد بني عمرو بن عوف، فولدت عبد الله بن سهل.
{وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ} أي: اطلبوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم فلحقن بالمشركين ما أنفقتم على أزواجكم اللواتي لحقن بهم، من الصداق، من تزوجن منهم {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا} أي: وليسألكم المشركون منهم، الذي لحق بكم أزواجهم مؤمنات، إذا تزوجن فيكم، من تزوجها منكم، ما أنفقوا عليهن من الصداق، {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: هذا الحكم الذي حكم به من أمير المؤمنين بمسألة المشركين ما أنفقوا، وأمر المشركين بمثل ذلك، حكم الله الحق الذي لا يعدل عنه.
{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} أي: وإن ارتدت منكم امرأة فلحقت الكفار، فلم يردّوا مهرها {فَعَاقَبْتُمْ} أي: فغزوتموهم فوجدتم منهم غنيمة {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم} أي: من المسلمين {مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} أي: في مهورهن.
قال مجاهد: مهر مثلها يدفع إلى زوجها.
وقال قتادة: كنّ إذا فررنّ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفار، ليس بينهم وبين نبي الله عهد، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة، أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة، ثم يقتسمون غنيمتهم.
{وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي: فإن الإيمان به يقتضي أداء أوامره، واجتناب نواهيه.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ} قال ابن كثير: أي: أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج معسرًا في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه، عملًا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» أخرجاه في (الصحيحين) {وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قال الزمخشريّ: يريد وأد البنات.
وقال ابن كثير: هذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية إملاق، ويعمّ قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجاهلات من النساء، تطّرح نفسها، لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قال ابن عباس: أي: لا يلحق بأزواجهن غير أولادهم. وأوضحه الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنيّ بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبًا، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، فهو غير الزنا، فلا تكرار فيه.
وقال الشهاب: في شرح البخاري للكرماني معناه: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم. واليد والرجل كناية عن الذات، لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك. أو معناه: لا تنشئوه من ضمائركم وقلوبكم، لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل. والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني عن كونه من دخيلة قلوبهم المبنية عن الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا تبهتوا الناس كفاحًا ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك. ورد بأنهم، وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال: بين أرجله وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها، أما مع الأيدي تبعًا فلا. فالمخطئ مخطئ وهو كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد: النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة. انتهى.
{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: من أمر الله تأمرهن به.
قال في(النهاية): المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع، ونهى عنه.
{فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: فبايعهن على الوفاء بذلك، وسل الله لهن مغفرة ذنوبهن، والعفو عنها، فإنه غفور رحيم لمن تاب منها.
تنبيهات:
الأول: روى البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك» كلامًا، ولا واللهِ ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: «قد بايعتك على ذلك».
قال ابن حجر: أي: لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة.
ثم قال: وروى النسائي والطبري أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع. فقلن: يا رسول الله! ابسط يدك نصافحك. فقال: «إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن» فأخذ علينا حتى بلغ {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فقال: «فيما أطقتنّ واستطعتنّ»، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا- وفي رواية الطبري: ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة- وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب- أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي.
وفي المغازي لابن إسحاق عن أبان بن صالح أنه كان يغمس يده في إناء، فيغمسن أيديهن فيه. انتهى.
والمعول على رواية البخاري الأولى لصحتها، وضعف ما عداها.
الثاني: روى مسلم عن أم عطية قالت: لما نزلت هذه الآية: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كان منه النياحة. ولفظ البخاري عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقرأ علينا {أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ونهانا عن النياحة».
وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت: «كان فيما أخذ علينا أن لا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخمش وجهًا، ولا ننشر شعرًا، ولا نشق جيبًا، ولا ندعو ويلًا».
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن يومئذ أن لا يَنُحْنَّ، ولا يحدثن الرجال إلا رجلًا منكن محرمًا. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبيّ الله! إن لنا أضيافًا وإنا نغيب عن نسائنا؟ فقال: «ليس أولئك عنيت».
الثالث: قال إلكيا الهراسي: يؤخذ من قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف. قال وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف وإنما شرطه في الطاعة، لئلا يرخص أحد في طاعة السلاطين.
وأصله مما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، قال في هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط، لم يقل: {وَلَا يَعْصِينَكَ} ويترك حتى قال: {فِي مَعْرُوفٍ} فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف، وقد اشترط الله هذا على نبيه؟
ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبّه به في فاتحتها، من النهي عن موالاة محاربي الدِّين، تحذيرًا من التهاون في ذلك، وزيادة اعتناء به، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [13]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي: مسخوطًا عليهم لمعاداتهم الحق، ومحاربتهم الصلاح، وعيثهم الفساد. وهو عام في كل محارب، ومنهم من خصه باليهود، لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، واقتصر عليه الزمخشري. قال الناصر: قد كان الزمخشريّ ذكر في قوله، {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} إلى قوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12]، أن آخر الآية استطراد، وهو فن من فنون البيان، مبوّب عليه عند أهله. وآية الممتحنة هذه ممكنة أن تكون من هذا الفن جدًا، فإنه ذم اليهود، واستطرد ذمهم بذم المشركين، على نوع حسن من النسبة. وهذا لا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه، ومما صدروا به هذا الفن قوله:
إذا ما اتقى اللهَ الفتى وأطاعه ** فليس به بأس وإن كان من جُرْمِ

وقوله:
إن كنت كاذبَة الذي حدثتني ** فنجوتِ منجى الحارث بن هشامِ

وقوله:
ترك الأحبة أَنْ يقاتِلَ دونهم ** ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ

انتهى.
وكان وجهة إيثاره الفرار من التأكيد إلى التأسيس، مع أن إرادة ما أريد بأول السورة منه، فيه من المحسنات البديعية ردّ العجز عن الصدر، تذكيرًا به وتفخيمًا، للعناية بشأنه، ولكل وجهة.
{قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: من جزائها لجحدهم بها، ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا. والجملة صفة ثانية {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أي: كما يئس من سلفهم من إخوانهم الكفار المقبورين، أي: أنهم على شاكلة من قبلهم، وكلّ مؤاخذ بكفره. وقيل: المعنى كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. ففيه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلًا لكفرهم، وبيانًا لما اقتضى الغضب عليهم، ولما آيسهم. والأول أظهر. اهـ.