فصل: الإظهار في موضع الإضمار في قوله تعالى: {فتذكر إحداهما الأخرى}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإظهار في موضع الإضمار في قوله تعالى: {فتذكر إحداهما الأخرى}:

إن مقتضى الظاهر أن يقال: أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى؛ وذلك أن- إحدى والأخرى- وصفان مبهمان، لا يتعين شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتهما في موضع الفاعل والمفعول كان المعنى واحدا.
والنكتة من إعادة لفظ {إحداهما} وكان يمكن التعبير عنه بالضمير هي: الإيهام.
لأن كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم؛ لئلا يتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكرة، ولا تكون شاهدة بالأصالة.
وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي، عصري الخفاجي عن سؤال وجهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال هو:
يا رأس أهل العلوم السادة البررة ** ومن نداه على كل الورى نشره

ما سر تكرار إحدى دون تُذكرها ** فآية لذوي الأشهاد في البقرة

وظاهر الحال إيجاز الضمير على ** تكرار إحداهما لو أنه ذكره

وحملُ إحدى على نفس الشهادة في ** أولاهما ليس مرضيًا لدى المهرة

فغص بفكرك لاستخراج جوهره ** من بحر علمك ثم ابعث لنا درره

فأجاب الغزنوي بقوله:
يا من فوائده بالعلم منتشرة ** ومَنْ فضائله في الكون مشتهرة

{تضل إحداهما} فالقول محتمل ** كليهما فهي للإظهار مفتقرة
ولو أتى بضمير كان مقتضيًا ** تعيين واحدة للحكم معتبرة

ومن رددتم عليه الحال فهو ** كما أشرتم ليس مرضيًا لمن سبره

هذا الذي سمح الذهن الكليل به ** والله أعلم بالفحوى بما ذكره

وكأن المراد هنا الإيماء إلى أن كلتا الجملتين علة لمشروعية تعدد المرأة في الشهادة؛ فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها، وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنةٌ لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى.
فقوله: {أن تضل إحداهما} تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة،، وقوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} تعليل لإشهاد امرأة ثانية؛ حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها.
وعلى هذا فكل من المرأتين مُذكرة لصاحبتها، كما أن كلًا منهما ناسية لبعض التفصيلات؛ فقوله: {إحداهما} لا يقصد به واحدة بعينها، بل على العموم، وكذلك {الأخرى}.
هذا، وقد قرئ: {فتذاكر إحداهما الأخرى}، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن: {فتُذْكِر} بسكون الذال وكسر الكاف.
فأما قراءة: {فتذاكر} فإشارة إلى المفاعلة القائمة بين المرأتين، واستعانة كل منهما بالأخرى، في استرجاع الضوابط الحافظة للحقوق، والعودة إلى تفاصيل ما تم بين الدائن والمدين، حتى تكون الشهادة بالعدل، وفي هذا تناغم واضح مع سياق الآية.
كما أن هناك هدفًا آخر: وهو سكوت الآية عن تحديد وقت التذكير؛ فالتذكير قد يكون وقت الاستدعاء لإحقاق الحق، وقد يكون قبل ذلك؛ بمعنى أن كلًا من المرأتين تُداوِم على تذكير الأخرى قبل حلول موعد السداد، فإذا حان موعده كانت شهادتهما كاملة، وهذا بلا شك يوافق طبائع النساء، من حيث مداومة سرد هذه الأحاديث، ولا يُتصوَّر هنا ما ذكره القرطبي من أن إحداهما تجعل الأخرى ذكرًا.
أما قراءة: {فتُذْكر} فهي هي{فتذكِّر}، لكن التشديد، وعدم التشديد يشير إلى كمية المعلومات التي تنساها كل منهما، فإن كانت قليلة ناسبِ التعبير بالفعل {تُذكِر} بعدم التشديد، وإن كانت كثيرة ناسَبَ التعبير بالفعل {تذكَّر} بالتشديد؛ فلكل من القراءتين وجه معتبر في المراد. ويتوافق مع هذين الفعلين قراءة: {إن تضل} وقراءة: {أن تضل}. فالأولى توافق {تُذكِر} من حيث ندرة حدوث النسيان المدلول عليه بإن الشرطية.
والثانية توافق {تذكِّر} بالتشديد من حيث كثرة حدوث النسيان؛ لأن النساء لسن على درجة واحدة في النسيان؛ فمنهن من تنسى الكثير، ومنهن من هي حاضرة الذهن قليلة النسيان.
أثر السياق في تصوير المعنى في قوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} دعوة الشهداء إلى الشهادة على وجهين:
الأول: دعوتهم إلى تحمل الشهادة وقت كتابة العقد.
والآخر: دعوتهم إلى أداء الشهادة عند حدوث خلاف.
فما المراد من دعوتهم؟ هل إلى الأداء أم إلى التحمل؟
إن الجملة القرآنية حذفت المدعو إليه، فجمعت بين الأمرين وهما:
ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أداءها.
وهذا من سعة دلالة الحذف، كما قال الإمام عبد القاهر عنه: إنه باب دقيق، المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تُبنْ.
وإذا كان المحذوف هو تحمل الشهادة؛ فإنه يستفاد منه أن تحمل الشهادة فرض كفاية، وإذا كان المعنى: إذا دُعِي إلى الأداء فعليه أن يجيب، أي أنها فرض عين.
قال مجاهد: إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب...
وروي عن ابن عباس والحسن البصري: أنها تعم الحالين، التحمل والأداء.
والذي أميل إليه في تعيين المحذوف هو: تحمل الشهادة، وذلك لعدة أسباب، ومنها:
1- أن السياق في الحديث عن الدعوة للشهادة، ولو كان السياق في شأن الأداء لأمر الشاهد بالحضور قصرًا؛ لأنه لم يشهد غيره على التداين.
2- أن الحديث هنا عن توثيق العقد، وليس عن فض نزاع، وهذا يناسبه أن تكون الدعوة للتحمل، وليس للأداء.
3- أن الآية التالية تناولت الأداء، وحذرت من كتمان الشهادة فقيل فيها {ولا تكتموا الشهادة} ولا داعي هنا للتكرار، فالحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد.
4- لو كان الأمر لأداء الشهادة لما جاز لأحد أن يتخلف عنها، ولقد جاء عن الربيع: أن الرجل كان يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله عز وجل: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}.
6- أن الآية تحدثت من قبل عن نهي الكاتب عن الإباء، فقالت: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} والكتابة والشهادة جناحان للتوثيق،وضبط الحقوق، وقد جاء عن ابن جريج أنه سأل عطاء: ما شأنه إذا دعي أن يكتب وجب عليه ألا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب إن شاء؟
قال: كذلك يجب على الكاتب أن يجيب،ولا يجب على الشاهد أن يشهد، فالشهداء كثير.
فقوله: الشهداء كثير: محمول كما لا يخفى على التحمل، وليس الأداء.

.المجاز المترتب على تقدير المحذوف:

إذا كان الأمر متعلقًا بتحمل الشهادة، فكيف يجوز إطلاق اسم الشهداء عليهم من قبل؟
لقد ذهب الطبري إلى عدم جواز هذا فقال: غير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء، إلا وقد استشهدوا قبل ذلك، فشهدوا على ما ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء، فأما قبل أن يستشهدوا على شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء؛ لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم، ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له: شاهد، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد.
وعليه كان معلومًا أن المعنيّ بقوله: {ولا يأب الشهداء} مَنْ وصفنا صفته ممن قد شهد فدُعي إلى القيام بها؛ لأن الذي لم يشهد غير مستحق اسم شهيد، ولا شاهد.
والأمر- كما أرى- أبسط من كل هذا؛ لأن من الأصول المعتمدة في علم البلاغة أن الشيء يجوز تسميته باسم ما يؤول إليه على سبيل المجاز المرسل، الذي علاقته اعتبار ما سيكون؛ مثل قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36].
وهو ما عليه الأمر هنا.
وعليه، يجوز تسمية الرجال باسم الشهداء؛ لأنهم سيصيرون شهداء، وفي ذلك نكتة، وهي أنهم بمجرد دعوتهم إليها فقد تعينت عليهم الإجابة فصاروا شهداء.
كما لا يخفى أن فيها تحريضًا لهم بالمدح بهذا اللقب، بالإضافة إلى أنهم ذو خبرة، ومجربون في الشهادة.
يقول ابن عاشور: وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر، وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي؛ اهتمامًا بما فيه التفريط؛ فإن المتعاقدين يُظن بهما إهمال الإشهاد، فأُمرا به.
والشهود يُظن بهم الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضده.
أما لبنات هذه الجملة فإنها تحمل من الكنوز الدلالية الكثير التي تتناغم مع دلالة الأساليب: وأول ما يلقانا هنا هو لا الناهية في قوله: {ولا يأب الشهداء}.
والنهي بلا مشعر برغبة المنهي في ارتكاب المنهي عنه إن كانت له مندوحة، فحين يقال: لا تفعل كذا.. يفهم منه أن له رغبة في فعله، أو أنه يفعله الآن، فنهي عنه، وهذا يصور نفرة النفوس من تبعات الشهادة، ومحاولة الفكاك منها، ولولا طاعة الله تعالى لما شهد أحد.
أما اصطفاء الفعل {يأبى} دون يمتنع مثلًا؛ فلأن الإباء فيه من الرفض المصحوب بالعلة، وخوف المستقبل، والحذر من الإقدام، فهو ليس امتناعًا ساذجًا، بل امتناع معلل، وهذه أقصى درجات الرفض، ولا يعنى هذا أن القرآن أباح الامتناع عن الشهادة؛ لأن من سنن القرآن الكريم أنه يوجه النهي إلى أعلى درجات الفعل ليكون ما دون ذلك داخلًا فيه، وهو المعروف بالتنبيه بالأعلى على الأدنى.
كما أن الكلمة بجرسها العالي تشعر بالدفع، والإعراض عن هذا الأمر، ومَنْ من المؤمنين يحب الشهادة في أمور تحفها المخاطر؟!
أما لفظ {الشهداء} فجاء جمعا لدخول النساء في هذا اللفظ، فصاروا جمعًا، وفي كلمة {إذا} ما يشير إلى كثرة ذلك منهم وأنهم صاروا معروفين بالشهادة، وقد يلوح من هذه الآية دليل على أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهودًا، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظًا لها، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت.
وقد أحسن قضاة تونس المتقدمون، وأمراؤها في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس، ويُعرفون بالعدالة، وكذلك كان الأمر في الأندلس، وذلك من حسن النظر للأمة، ولم يكن ذلك متبعًا في بلاد المشرق..
وكان مما يعد في ترجمة بعض العلماء أن يقال: كان مقبولًا عند القاضي فلان.

.دلالة ما في قوله: {إذا ما دعوا}:

قيل: {ما} مزيدة [33]، وراعى بعضهم اللفظ فقال: {ما} حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين، ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود {بعوضة} في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].
وتأتي {ما} على ستة معان منها: التوكيد، ويسميه بعضهم صلة، وبعضهم زائدة، والأُولى أولى؛ لأنه ليس في القرآن حرف إلا وله معنى، والنحاة إنما يقولون زائدة، يقصدون أنها لا تؤثر على إعراب الجملة، ولا يقصدون خلوها من المعنى، أو إنها يمكن الاستغناء عنها.
والذي ينبغي الوقوف عليه هنا أن السياق يستدعي هذا التوكيد؛ لأن إعراض الشهداء عن الشهادة كثير، بل إن المسلم ليتهرب منها؛ خشية الوقوع في الزلل أو النسيان، أو معاداة أحد المتداينين إن شهد عليه، ومن أجل كل ذلك كان التوكيد هنا حسنًا؛ ليعلم أن شهادته ضمان للحقوق، ودفع للشبهات، وإغلاق لأبواب الشقاق....ولكن هل يمكن ملاحظة النفي في ما هنا؟
إن ملاحظة النفي هنا مقبول أيضًا؛ لأن المعنى حينئذ هو أن: على الشهداء الإدلاء بشهادتهم، حتى وإن لم توجه إليهم الدعوة للشهادة؛ لأن فيها إحقاقًا للحق.
كما أن من دلالة {ما} المفهومة من خلال السياق هنا أنها تومئ إلى الإسراع في تلبية الدعوة، دون تأجيل أو تسويف، فكأنها تدل على الحينية، وتخصيص المستقبل الكامن في {إذا}، فإن قيل: ولا يأب الشهداء إذا دعوا، جاز أن يلبوا اليوم أو غدًا أو بعد أسبوع.
أما حين يقال: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} فيعني وجوب أن تكون الإجابة للدعوة في حينها، وفي ذلك تعجيل بحفظ الحقوق، وإيحاء للشهود بخطورة الأمر، ووجوب حسمه في حينه.
ويؤيد هذا أن الآيات التي جاءت فيها {ما} غالبًا ما تدل على ربط الفعل بالزمن الحاضر العاجل دون تأخير، وذلك في مثل:
1- {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} [الأنبياء:45].
2- {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} [فصلت:20].
3- {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92] وغير ذلك كثير.
وأيضًا من الدلالات التي يمكن فهمها أنهم في أي وقت يدعون فيه للشهادة فعليهم التلبية؛ وذلك لأن {ما} تحمل معنى الوقت، وهذه من أوجه دلالتها، كما قال ابن هشام في نحو قوله تعالى: {ما دمت حيًا} [مريم 31] أصله: مدة دوامي حيًا.. وفي نحو: {كلما أضاء لهم مشوا فيه} [البقرة 20].
أي: كل وقت إضاءة، واستدل ابن مالك على مجيئها للزمان.
أما اصطفاء الفعل {دعوا} فيشير إلى الرفق، واللين والتودد إلى الشهداء؛ لأنهم لايبتغون من شهادتهم إلا رضى الله تعالى؛ لذلك حملت من الترغيب ما يجذبهم إليها، ولو كانت الشهادة شهادة أداء لأمروا بالحضور؛ إذ ليس هناك غيرهم.