فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الممتحنة:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم) (بسم الله) اسم ملك لا أصل لملكه عند حدث ولا نسل له، فعله يرث، ملك لاستظهر بجيش وعدد، ولا يتعزز بقوم وعدد، ملك للخلق بأجمعهم- لكنه اختار قوما لا لينتفع بهم- بل لنفعهم، ورد آخرين وأذلهم بمنعهم ووضعهم.
قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا قي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}.
قال صلى الله عليه وسلم: «أعدى عدوِّك نَفْسُك التي بين جنبيك» وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: «عادِ نَفْسَك فليس لي في المملكة مُناَزعٌ غيرها» فَمَنْ عادَى نَفسَه فقد قام بحقِّ الله، ومَنْ لم يعادِ نفسه لَحِقَتْه هذه الوصمة. وأصلُ الإيمانِ الموالاةُ والمعاداةُ في الله ومَنْ جَنَحَ إلى الخارجين عن دائرة الإسلام انحاز إلى جانبهم.
قوله جل ذكره: {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَنَ يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
أنا أعلم {بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} من دقائقِ التصنُّع وخَفِيَّات الرياء.
{وَمَآ أَعْلَنتُمْ} من التزيُّن للناس.
{بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} من الاستسرار بالزَّلة، {وَمَآ أَعْلَنتُمْ}، من الطاعة والبِرِّ.
{بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} من الخيانة {وَمَآ أَعْلَنتُمْ} من الأمانة.
{بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} من الغِلِّ والغِشِّ للناس، {وَمَآ أَعْلَنتُمْ} من الفضيحةِ للناس.
{بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} من ارتكاب المحظورات، {وَمَآ أَعْلَنتُمْ} من الأمر بالمعروف.
{بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} من تَرْكِ الحشمة مني وقلة المبالاة باطِّلاعي، وما أعلنتم من تعليم الناسِ ووَعْظِهمْ.
{وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} فقد حاد عن طريق الدين، ووَقَعَ في الكفر.
قوله جل ذكره: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالْسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلاَدُكُمْ}.
إنْ يَظْفَروا بكم وصادَفوكم يكونوا لكم أعداء، ولن تَسْلَموا من أيديهم بالسوءِ ولا من ألسنتهم بالذمِّ وذكْرِ والقبيح.
{وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ}: ولن يَنْفَعَكم تَوَدُّدُكُم إليهم، ولا ما بينكم وبينهم من الأرحام. ثم عقوبة الآخرةَ تُدْرِكُكُم.
وكذلك صفة المخالِف، ولا ينبغي للمرء أن يتعطَّش إلى عشيرته- وإن داهَنَتْه في قالةٍ، ولا أن ينخدعَ بتغريرها- وإنْ لا يَنْتَه في حالة.
قوله جل ذكره: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ والْبغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قول إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شيء}.
أي لكم قُدْوَةٌ حسنة بإبراهيم ومَنْ قبله من الأنبياء حيث تبرَّؤوا من الكفار من أقوامهم؛ فاقْتَدُوا بهم.. إلاَّ استغفار إِبراهيم لأبيه- وهو كافر- فلا تقتدوا به.
ولاَ تَسْتَغْفِروا للكفار. وكان إبراهيمُ قد وعده أبوه أنه يُؤمِن فلذلك كان يستغفر له، فَلَمَّا تَبَيّنَ له أنه لن يُؤمِنَ تَبرَّأ منه.
ويقال: كان منافقًا.. ولم يَعْلَمْ إبراهيم ذلك وقتَ استغفاره له.
ويقال: يجوز أنه لم يعلم في ذلك الوقت أنَّ الله لا يغفر للكفار.
والفائدةُ في هذه الآية تخفيفُ الأمر على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتعريفهم أنَّ مَنْ كانوا قبلهم حين كَذَّبوا بأنبيائهم أهلكهم الله، وأنهم صبروا، وأنه ينبغي لذلك أن يكونَ بالصبرِ أمرُهم.
قوله جل ذكره: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
أخبر أنهم قالوا ذلك.
ويصحُّ أن يكون معناه: قولوا: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}.
وقد مضى القول في معنى التوكل والإنابةُ.
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}
ربَّنا لا تُظْفِرهم بنا، ولا تُقَوِّهم علينا.
والإشارة في الآية: إلى الأمرِ بِسُنَّةِ إبراهيم في السخاء وحُسْنِ الخُلُقِ والإخلاصِ والصدقِ والصبرِ وكلِّ خصلةٍ له ذَكَرَها لنا.
قوله جل ذكره: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَّدةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وقفهم في مقتضى قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ} عند حدِّ التجويز.. لا حُكْمًا بالقَطْعِ، ولا دَفْعَ قلبٍ باليأس.. ثم أمَرَهم بالاقتصاد في العداوة والولاية معهم بقلوبهم، وعرَّفهم بوقوع الأمر حسب تقديره وقدرته، وَجَرَيانِ كلِّ شيءٍ على ما يريد لهم، وصَدَّق هذه الترجية بإيمان مَنْ آمَنَ منهم عند فتح مكة، وكيف أسلم كثيرون، وحصل بينهم وبين المسلمين مودةٌ أكيدة.
قوله جل ذكره: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عِنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
أمَرَهُم بشدة العداوة مع أعدائهم على الوجه الذي يفعلونه، وأمّا من كان فيهم ذا خُلُقٍ حَسَنٍ، أو كان منه للمسلمين وجهُ نَفْع أو رِفْقٍ- فقد أمَرَهم بالملاينة معه. والمُؤلَّفَةُ قلوبهم شاهدٌ لهذه الجملة، «فِإِنَّ الله يحب الرِّفق في جميع الأمور»
قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ}.
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يمتحنهن باليمين، فَيَحْلِفَنَّ إنَّهن لم يخرجن إلاَّ لله، ولم يخرجن مغايظةً لأزواجهن، ولم يخرجن طمعًا في مالٍ.
وفي الجملة: الامتحانُ طريقٌ إلى المعرفة، وجواهرُ الناس تتبيَّن بالتجربة. ومَنْ أقْدَمَ على شيءٍ من غير تجربة تَحَسَّى كأسَ الندم.
{وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}.
لا توافِقوا مَنْ خالَفَ الحقَّ في قليل أو كثير.
قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا النبي إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيَهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
إذا جاءك النساء يبايعنك على الإسلام فطالِبْهُنَّ وشارِطْهُنَّ بهذه الأشياء:
تَرْك الشِّرك، وترك السرقة والزنا وقتل الأولاد والافتراء في إلحاق النَّسبِ، وألا يعصينك في معروفٍ؛ فلا يخالفنك فيما تأمرهن به، ويدخل في ذلك تَرْكُ النياحةِ وشقُّ الجيوب ونَتْفُ الشَّعْرِ عند المصيبة وتخميش الوجوه والتبرُّجُ وإظهارُ الزينة.. وغير ذلك مما هو من شعائر الدِّين في الجملة.
قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}.
الذين غضب الله عليهم هم الكفار. يئسوا من الآخرة كما يئِسَ أصحاب القبور أن يعودوا إلى الدنيا ويُبْعثوا (بعد ما تبينوا سوء منقلبهم).
ويقال: كما يئس الكفار حين اعتقدوا أن الخَلْقَ لا يُبْعَثُون في القيامة. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ:
قوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة حِينَ كَتَبَ إلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَنْتَصِحُ لَهُمْ فِيهِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقال: «أَنْتَ كَتَبْت هَذَا الْكِتَابَ؟ قال: نَعَمْ، قال: وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قال: أَمَا وَاَللَّهِ مَا ارْتَبْت فِي اللَّهِ مُنْذُ أَسْلَمْت وَلَكِنِّي كُنْت امْرَأً غَرِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانَ لِي بِمَكَّةَ مَالٌ وَبَنُونَ فَأَرَدْت أَنْ أُدَافِعَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، فَقال عُمَرُ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقال اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنِّي غَافِرٌ لَكُمْ».
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قولهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَعْنَى مَا قَدَّمْنَا.
قال أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ مَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ لَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ؛ لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ كَمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ وَيَسْتَبِيحُ إظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ إذَا صَدَرَ عَنْهُ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِكْفَارَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْإِكْفَارَ لَاسْتَتَابَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا لَمْ يَسْتَتِبْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قال عُلِمَ أَنَّهُ مَا كَانَ مُرْتَدًّا.
وَإِنَّمَا قال عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ عُمَرَ مِنْ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَقال: «مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقال اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَجَعَلَ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ قَتْلِهِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَمَا ظَنَنْتَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مُسْتَحِقًّا لِلنَّارِ إذَا كَفَرَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ، وَإِنْ أَذْنَبُوا لَا يَمُوتُونَ إلَّا عَلَى التَّوْبَةِ؛ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ وُجُودَ التَّوْبَةِ إذَا أَمْهَلَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَقْتَطِعُهُ بِهِ عَنْ التَّوْبَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ، وَإِنْ أَذْنَبُوا فَإِنَّ مَصِيرَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ فِي إظْهَارِ الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مَعَ خَوْفِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَكَذَلِكَ قال أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ قال لِرَجُلٍ: «لَأَقْتُلَنَّ وَلَدَك أَوْ لَتَكْفُرَنَّ» أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ إظْهَارُ الْكُفْرِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقول فِيمَنْ لَهُ عَلَى رِجْلٍ مَالٌ فَقال: (لَا أَقِرُّ لَك حَتَّى تَحُطَّ عَنِّي بَعْضَهُ) فَحَطَّ عَنْهُ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحَطُّ عَنْهُ وَجُعِلَ خَوْفُهُ عَلَى ذَهَابِ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحَطِّ، وَهُوَ فِيمَا أَظُنُّ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قولنَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْأَهْلِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْهِجْرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ لِأَجْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِهِمْ، فَقال: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} الْآيَةَ.
وَقال: {قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قال أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}.
وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ} الْآيَةَ؛ وَقولهُ: {وَاَلَّذِينَ مَعَهُ} قِيلَ فِيهِ: الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي إظْهَارِ مُعَادَاةِ الْكُفَّارِ وَقَطْعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِقولهِ: {إنَّا بُرَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}.
فَهَذَا حُكْمٌ قَدْ تَعَبَّدَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ وَقولهُ: {إلَّا قول إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} يَعْنِي فِي أَنْ لَا يَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الدُّعَاءِ لِلْأَبِ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ إبْرَاهِيمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ لَهُ الْإِيمَانَ وَوَعَدَهُ إظْهَارَهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَافِقٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيم فِي كُلِّ أُمُورِهِ إلَّا فِي اسْتِغْفَارٍ لِلْأَبِ الْكَافِرِ.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ قال قَتَادَةُ: يَعْنِي بِإِظْهَارِهِمْ عَلَيْنَا فَيَرَوْا أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ، وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُسَلِّطُهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَنَا.
بَابُ صِلَةِ الرَّحِمِ الْمُشْرِكِ قال اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ.
رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أُمٍّ لَهَا مُشْرِكَةٍ جَاءَتْنِي أَأَصِلُهَا؟ قال: «نَعَمْ صِلِيهَا» قال أَبُو بَكْرٍ: وَقولهُ: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إذْ لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ قِتَالِنَا، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِقولهِ: {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ}.
وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ؛ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قولهِ: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} قال: نَسَخَهَا قولهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الْآيَةَ.
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالوا: كَانَ مِمَّا شَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك إلَّا رَدَدْتَهُ عَلَيْنَا فَرَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ عَلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَاءَ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرْجِعَهَا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: {إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الْآيَةَ.
قال عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك}، قالتْ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قال لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ بَايَعْتُك كَلَامًا» يُكَلِّمُهَا بِهِ وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمُبَايَعَةِ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قال: لَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَمَنْ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ يَرُدُّونَهُ.
وَرَوَى الْحُكْمُ عَنْ مُقْسِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كَانَ فِي الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَهُوَ رَدٌّ إلَيْهِمْ، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ فَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ تُسْأَلُ مَا أَخْرَجَكِ؟ فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ هَرَبًا مِنْ زَوْجِهَا وَرَغْبَةً عَنْهُ رُدَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ أُمْسِكَتْ وَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْلُو الصُّلْحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَانَ خَاصًّا فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَيْهِمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ بَدِيًّا عَامًّا ثُمَّ نُسِخَ عَنْ النِّسَاءِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ.
وَقولهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا هَاجَرْنَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى امْتِحَانَهُنَّ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ غَيْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَضْرَتِهِمْ وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ لَا حَقِيقَةُ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ، وَهُوَ مِثْلُ قول إخْوَةِ يُوسُفَ: {إنَّ ابْنَك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا} يَعْنُونَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَرَقَ فِي الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى إلَى قولهِ: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}؟، وَإِنَّمَا حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ؛ وَهُوَ مِثْلُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ قَدْ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِالْحُكْمِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَحَمْلِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَقَدْ أَلْزَمَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبُولَ قول مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِيمَانُ وَالْحُكْمَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَصْدِيقِ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ حَالِهِ، مِثْلُ الْمَرْأَةِ إذَا أَخْبَرَتْ عَنْ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا وَحَبَلِهَا، وَمِثْلُ الرَّجُلِ يَقول لِامْرَأَتِهِ: (أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْتِ) أَوْ قال: (إذَا طَهُرْتِ) فَيَكُونُ قولهَا مَقْبُولًا فِيهِ، وَقال عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ} فَقال عَطَاءٌ: مَا عَلِمْنَا إيمَانَهُنَّ إلَّا بِمَا ظَهَرَ مِنْ قولهِنَّ؛ وَقال قَتَادَةُ: امْتِحَانُهُنَّ مَا خَرَجْنَ إلَّا لِلدِّينِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ.
بَابُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ قال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الْآيَةَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَزَوْجُهَا بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارَانِ، وَحَكَمَ اللَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِقولهِ: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ}.
وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِهَا بِأَنْ تَكُونَ مَعَهُ حَيْثُ أَرَادَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قولهُ: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}؛ وَقولهُ: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَمَا اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ رَدَّ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبُضْعَ وَبَدَلَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قولهُ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بَاقِيًا لَمَا جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قولهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ، فَنَهَانَا أَنْ نَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً، فَقال أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ: قَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَقال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَهُوَ قول الثَّوْرِيِّ وَقال مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: إنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ.
وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا حُكْمَ لِلدَّارِ عِنْدَهُ.
قال أَبُو بَكْرٍ: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَلِيٍّ قال: إذَا أَسْلَمَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة قَبْلَ زَوْجِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ.
وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ السَّفَّاحِ بْن مَطَرٍ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ قال: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ نَصْرَانِيٌّ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ نَصْرَانِيَّةٌ فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُسْلِمَ، فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي النَّصْرَانِيِّ تُسْلِمُ امْرَأَتُهُ قالوا: إنْ أَسْلَمَ مَعَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: إذَا أَسْلَمَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ، وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلُهُ وَقال إبْرَاهِيمُ: إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: إذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا فَهِيَ أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا. قال أَبُو بَكْرٍ: حَصَلَ اخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ؛ فَقال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ. وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَمَتَى اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارُ فَصَارَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَانَتْ، وَقال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبَى الزَّوْجُ الْإِسْلَامَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
وَهَذَا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَام وَقال آخَرُونَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قولهُ: هِيَ امْرَأَتُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ. وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهَا. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ مِنْهُ بِإِسْلَامِهَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إذَا أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الزَّوْجُ، فَقال أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ حَتَّى يَعْرِضَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ، وَقالوا: إنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ اعْتِبَارُ الْحَيْضِ إنَّمَا أَرَادُوا بِهِ الْحَرْبِيِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقال أَصْحَابُنَا: إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ، وَخَرَجَ إلَيْنَا أَيُّهُمَا كَانَ وَبَقِيَ الْآخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقول وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ قولهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، قال أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: (نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ كَانَ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي الشِّرْكِ وأباحهن لَهُمْ بِالسَّبْيِ) وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قولهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: (كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ فَإِتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ) وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّبَايَا: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ».
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُسْبَ زَوْجُهَا مَعَهَا، فَلَا يَخْلُو وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهَا أَوْ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا أَوْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ إسْلَامَهَا لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فِي الْحَالِ؛ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ بِدَلَالَةِ أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ إذَا بِيعَتْ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ.
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ رَجُلٌ عَنْ أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَكُنْ انْتِقال الْمِلْكِ إلَى الْوَارِثِ رَافِعًا لِلنِّكَاحِ، فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ إلَّا اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ فَإِنْ قِيلَ: اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ امْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ، فَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ مَا ذَهَبْت إلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إمَّا بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالذِّمَّةِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ حَرْبِيًّا كَافِرًا، فَأَمَّا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقِيمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ لَنَا بِمَا رَوَى يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ، وَقَدْ كَانَتْ زَيْنَبُ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ زَوْجُهَا بِمَكَّةَ مُشْرِكًا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيقَاعِ الْفُرْقَةِ فَيُقال: لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قال: (رَدَّهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ)؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنَّهَا لَا تَحِيضُ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي سِتِّ سِنِينَ، فَسَقَطَ احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رَوَى خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ تُسْلِمُ قَبْلَ زَوْجِهَا أَنَّهَا أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا؛ فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِإِسْلَامِهَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَالِفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ ثَانٍ فَهَذَا يُعَارِضُ حديث دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهَا زَوْجَةً لَهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ، وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ عَقْدٍ ثَانٍ، وَفِي حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْإِخْبَارُ عَنْ حُدُوثِ عَقْدٍ ثَانٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إخْبَارٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَالثَّانِيَ إخْبَارٌ عَنْ مَعْنًى حَادِثٍ قَدْ عَلِمَهُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقولهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَحديث يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَ وَهُوَ حَالٌّ.
فَقُلْنَا: حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَكَحديث زَوْجِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِإِخْبَارِهِ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ عَلِمَهَا، وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ حَالٍ أُخْرَى.
فصل:
وَإِنَّمَا قال أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُهَاجِرَةِ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الزَّوْجِ الْحَرْبِيِّ؛ لِقوله تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}، فَأَبَاحَ نِكَاحَهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِدَّةٍ، وَقال فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ، فَحَظَرَ الِامْتِنَاعَ مِنْ نِكَاحِهَا؛ لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ.
وَالْكَوَافِرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرِّجَالَ، وَظَاهِرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الرِّجَالُ؛ لِأَنَّهُ فِي ذِكْرِ الْمُهَاجِرَاتِ.
وَأَيْضًا أَبَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَطْءَ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ، وَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ بِعِدَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ» وَالْمَعْنَى فِيهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ.
وقوله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}؛ قال مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: يَعْنِي رَدَّ الصَّدَاقِ، وَاسْأَلُوا أَهْلَ الْحَرْبِ مَهْرَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا صَارَتْ إلَيْهِمْ، وَلْيَسْأَلُوا هُمْ أَيْضًا مَهْرَ مَنْ صَارَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً مِنْهُمْ؛ وَقال الزُّهْرِيُّ: فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ إذَا ذَهَبَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَهَا زَوْجٌ مُسْلِمٌ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ صَدَاقَ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِمَّا يَرُدُّونَ، وَأَنْ يَرُدُّوا إلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ}: مِنْ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْهَا.
وَرَوَى زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قال: كَانَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي القرآن: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} خَرَجَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ} قال: لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ. {فَعَاقَبْتُمْ} وَأَصَبْتُمْ غَنِيمَةً. {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قال: عَوِّضُوا زَوْجَهَا مِثْلَ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ.
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: يُعْطَى مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ يَقْسِمُونَ غَنِيمَتَهُمْ. وَقال ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، قال: إنْ فَاتَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ إلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ يَأْتِ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ تَأْخُذُونَ مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْكُمْ فَعَوِّضُوهُمْ مِنْ فَيْءٍ إنْ أَصَبْتُمُوهُ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مُخَالِفَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُمْ يُعَوَّضُونَ مِنْ صَدَاقٍ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ رَدُّهُ مِنْ صَدَاقٍ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ إذَا كَانَ هُنَاكَ صَدَاقٌ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَدَاقٌ رُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي رَدِّ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَتَعْوِيضِ الزَّوْجِ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ ثَابِتِ الْحُكْمِ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ.
فَإِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قال: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ جَاءَتْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسْلَمَتْ أَيُعَوَّضُ زَوْجُهَا مِنْهَا شَيْئًا لِقولهِ تَعَالَى فِي الْمُمْتَحَنَةِ: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}؟ قال: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَهْلِ عَهْدِهِ، قُلْت: فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ الْآنَ مِنْ أَهْلِ عَهْدٍ؟ قال: نَعَمْ، يُعَاضُ فَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي القرآن وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ نَسْخُهَا؟ قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقولهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَبِقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ».
وقوله تَعَالَى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُلْحِقْنَ بِأَزْوَاجِهِنَّ غَيْرُ أَوْلَادِهِنَّ. وَقِيلَ: إنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ قَذْفُ أَهْلِ الْإِحْصَانِ، وَالْكَذِبُ عَلَى النَّاسِ، وَقَذْفُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الْكَذِبِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ ذَلِكَ.
وقوله تَعَالَى: {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ}، رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قال: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لَا يَنُحْنَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نِسَاءً أَسْعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسْعِدُهُنَّ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا إسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا جَلَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا جَنَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا» وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْن حوشب عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ} قال: «النَّوْحُ».
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قالتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ}.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «نُهِيَتْ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ صَوْتِ لَعِبٍ وَلَهْوٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ عِنْدَ نَغْمَةٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ».
قال أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ طَاعَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَعْرُوفٌ، وَتَرْكُك النُّوحَ أَحَدُ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ نَبِيَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَعْرُوفٍ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ فِي النَّهْيِ عَنْ عِصْيَانِهِ إذَا أَمَرَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لِئَلَّا يَتَرَخَّصَ أَحَدٌ فِي طَاعَةِ السَّلَاطِينِ إذَا لَمْ تَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَطَ فِي طَاعَةِ أَفْضَلِ الْبَشَرِ فِعْلَ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قولهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ لَمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ».
وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَطَاعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاس ذَامًّا»، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمُخَاطَبَةِ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك}؛ لِأَنَّ بَيْعَةَ مَنْ أَسْلَمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ الْمِحْنَةِ فِي قوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَمْتَحِنُ الْمُهَاجِرَةَ الْآنَ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
آخِرُ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ. اهـ.