فصل: الكناية في قوله: {ولا تسأموا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الكناية في قوله: {ولا تسأموا}:

لقد انتقل الشارع إلى غرض آخر، غرض عام للتشريع، يؤكد ضرورة الكتابة- كَبُرَ الدَّين أم صغر، بحجة أن الدين الصغير لا يستحق، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل، والحياء، أو الكسل وقلة المبالاة، ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلًا وجدانيًا وتعليلا علميًا.
والساْم في لغة العرب يعني: الكسل والتهاون والملل في تكرير فعل ما، أو الملل مما يكثر فعلًا كان أو اسمًا.
وعليه ففي الفعل كناية عن صفة؛ لأن المراد من السأم هو الكسل، إلا أنه كُنِّي به عنه؛ لأنه وقع في القرآن صفةً للمنافقين.
وقيل: كُني بالسأم عن الكسل؛ لأنه صفة المنافق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقول المؤمن كسلت».
وكأن النهي هنا نهي عن أثر السأم، وهو ترك الكتابة؛ لأن السآمة تحصل للنفس عن غير اختيار، فلا يُنهى عنها في ذاتها.
وعليه، فإن الأمر بالكتابة آكد من ذي قبل؛ لأن الصغير والكبير من الديون داخل في دائرة النهي.
كما يلحظ في دلالة الكناية هنا التحرز من وصف المؤمنين بصفةٍ التصقت بالمنافقين، وهي الكسل؛ فحين قال الله تعالى في وصف المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] آثر أن يجنب المؤمنين وصفهم بالصفة التي اشتهر بها المنافقون؛ تكريمًا لهم، فقال: {ولا تسأموا} بدلًا من- ولا تكسلوا.
وهذا الفعل- تسأموا- قد يرد لازمًا، وقد يتعدى بحرف الجر، وقد يتعدى بنفسه، وذلك نحو {وهم لا يسأمون} [فصلت 38]، ونحو {لا يسأم الإنسان من دعاء الخير} [فصلت 49] وقد يتعدى بنفسه كما هو في الآية هنا {ولا تسأموا أن تكتبوه}.
ودوران الفعل بين اللزوم، والتعدي بحرف، والتعدي بنفسه يشير إلى دورانه بين القوة والضعف، وهذا يعني أن السأم في الآية سأم شديد، فنهي عن هذا السأم الشديد الناتج من كثرة الكتابة، أو من قلة الدين.
وأوقع الفعل على المفعول المؤول دون الصريح، فقال: {ولا تسأموا أن تكتبوه} دون كتابته، إيماءً إلى أن كتابته تكون مرة واحدة، وتنتهي مهمة التوثيق، أما إضمار المكتوب، وعدم إظهاره في {أن تكتبوه} فللإشارة إلى ثقله على النفوس، ورغبتها في إخفائه، وعدم الكشف عنه، أو أن الضمير يُذكِّر المتعاملَين بالديْن وبالحق معًا؛ إذ يمكن إرجاعه إلى كل منهما، أي ولا تسأموا أن تكتبوا الحق، وهذا من الإيجاز البديع.

.وجه التعبير بالصغير والكبير:

التعبير بهما يفيد الإحاطة والشمول لكل دين، وقد بدأ بالصغير؛ لأنه الأقرب إلى التهاون والكسل في كتابته، فأراد تعميم الكتابة، فبدا بما يمكن الكسل فيه.
ولفظ الصغير والكبير يستعملان في الأجسام ولا يستعملان في الأعداد، فالأعداد يستعمل معها القليل والكثير والاستعمال هنا من قبيل الاستعارة كما قال الراغب، وأبو هلال.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن التعبير بهما هنا يعني على أي حال وكأن لا فرق، حتى أنهم فسروا هذا بذاك لكنني أرى في هذا الاستعمال ما يصرف الذهن إلى شيء آخر غير المال، إن العبارة تصرف الذهن إلى الحق، وإلى {الدَّيْن}، وهي أمور ألصق بالصغر والكبر منها بالكثرة والقلة.
إعادة لفظ {الأجل}:
ذكر الأجل في أول الآية، وأعيد ذكره هنا في شبه جملة وقعت حالًا من الهاء في جملة: {تكتبوه} والمعنى {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا} مستقرًا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به.
فالضمير في {أجله} عائد إلى المدين، أي الأجل الذي ضربه للدائن لأنه أعلم بموعد سداده، وقدرته على هذا السداد، فجعل الأجل وتحديده من خصائصه؛ حتى لا يكون له عذر عند حلوله.
وتكرار ذكر الأجل؛ لأن السياق سياق سأم من الكتابة، مما يُشعر بالتهاون في الضوابط السابقة، فأعيد التنصيص على الأجل؛ لبيان أنه لا فرق بين ما سبق وما هو لاحق، فالحق أحق أن يتبع.

.التحريض بالخبر في جملة: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}:

هذه جملة تحريضية، جاءت بعد تتابع الأوامر والنواهي، وكأنها علمت أن النفوس قد زادت عليها الأعباء فجاءت بما يقويها ويشد من أزرها، وهذه الجملة مكونة من مبتدأ وهو {ذلكم}، وعدة أخبار معطوف بعضها على بعض.
ولنقف أولًا على هذا المبتدأ وهو {ذلكم} حيث تكون منة ذا، واللام، وكم.
أما {ذا}.
فهي اسم إشارة والإشارة هنا تعود إلى أقرب مذكور، وهو: الكتابة، وقيل: الكتابة والاستشهاد، وجميع ما تقدم مما يحصل به الضبط.
ومعلوم أن اسم الإشارة يفيد وضوح المشار إليه حتى كأن المخاطب ينظر إليه، أوأن اسم الإشارة هنا يعيد أطراف المعاملة إلى رؤية ما وضع من ضوابط مرة أخرى، ليتبينوا ما فيه، وكأنها مراجعة أخيرة للدين ومن هو الذي عليه الحق ومن هو صاحب الحق، ومتى السداد....إلخ.
إنها مراجعة سريعة، أو نظرة أخيرة للأمر جملة قبل انفضاض الموقف... كل ذلك مفهوم من قوله: {ذلكم}.
وجيء بالام في {ذلكم} تنبيها على صعوبة تحقق كل هذه الضوابط: من كتابة الدين على يد كاتب، وشهود عدول، وتحديد موعد السداد... وغير ذلك من الضوابط الدالة على ندرة تحققها كاملة.
ثم خوطب المؤمنون جميعًا فجيء بكاف الخطاب، والميم الدالة على الجمع؛ ليكون الأمر أشبه بالإعلان العام غير المحصور في فئة دون فئة، مما يستدعي التريث قبل الإقدام عليه من كل إنسان يفكر في الاستدانة، فالأمر لن يخل من عناء، وإعلام الناس بأنه مدين.
ثم جاء الخبر الأول وهو: أقسط عند الله:وعن أبي عبيدة: قسط: جار، وقسط: عدل، وأقسط بالألف: عدل لا غير.
وإيثار لفظ القسط دون العدل هنا لأن القسط هو: العدل البين الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطًا، والميزان: قسطًا لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرًا، وقد يكون من العدل ما يخفى، ولهذا قلنا: إن القسط هو النصيب الذي بَيَّنْتَ وجوهه.
وقيل:عند والعندية هنا عندية علم، وتعني التقدير والحكم؛ أي أقسط في قدر الله تعالى وحكمه.
وقيل عند الله ولم يقل عند ربك؛ لأن السياق سياق حكم وميزان، وهو أليق بالجلال منه بالجمال.
وأقوم للشهادة:
وهذان اللفظان أحدث تركيبهما غموضًا عندي من حيث دلالة لفظ أقوم وإضافته إلي الشهادة، ثم علاقة كل ذلك بالقضية الأساسية هنا وهي {ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلي أجله}. أما دلالة لفظ {أقوم} فقيل فيه:يعني: أعون على إقامة الشهادة. وقيل: أصح وأحفظ. وقيل: أثبت لها وأعون عن إقامتها.
كما قيل إنها: أثبت للشاهد إذا وضع خطهُ ثم رآه تذكر به الشهادة؛ لاحتمال أنه لو لم يكتبه؛ أن ينساه كما هو الواقع غالبًا.
وأصله من قول القائل:أقمته من عوجه: إذا سَّويته فاستوي، وإنما كان الكتب أعدل عند الله تعالي وأصوب لشهادة الشهود علي ما فيه؛ لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري.. فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم؛ لاجتماع شهادتهم علي ما حواه الكتاب.
وإذا اجتمعت شهادتهم علي ذلك كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام مع غير ذلك من الأسباب.
وهذا يفتح الباب لمعني آخر، وهو أن هناك من يشهد فقط ولا يكتب، فلما قيل: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا}، فهم منه أن الشهادة حينئذٍ تكون علي مكتوب؛ فلا يتخللها نسيان أو ضلال، أو اختلاف بين الشاهدين.
وعليه؛ فالشهادة علي شيء مكتوب أقوم من الشهادة التي تعتمد علي الذاكرة وحدها؛ لأن تتابع الأيام يُنسي، مما يترتب عليه عوج في الشهادة، أو نسيان بعضها، أو اختلاف بين الشاهدين، ويترتب علي كل ذلك ضياع الحقوق وبزوغ الخلاف.
يقول القرطبي {وأقوم للشهادة}، دليل علي أن الشاهد، إذا رأي الكاتب ولم يذكر الشهادة لا يؤديها؛ لما دخل عليه من الريبة، ولا يؤدي إلا ما علم، لكنه يقول:هذا خَطّي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه.
قال ابن المنذر أكثر من يُحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة.
واحتج مالك على جواز ذلك بقوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف 81].
وقال بعض العلماء:
لمَّا نَسَب الله تعالى الكتابة إلى العدول جعلهم يشهدون على خطهم، وإن لم يذكروا.
ذكر ابن المبارك عن معمر عن بن طاووس عن أبيه: يُشهد على شهادة فينساها؟
قال: لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك، أو خط يده.
قال ابن المبارك: استحسنت هذا جدًا.
وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد، لكن الثابت أن الإمام مالك رحمه الله كان يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه... ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل، والتزوير.
وعليه، فإذا كان هناك شك في الشهادة خرجت الشهادة عن وجهها، وفي القرآن الكريم: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة:108].
وبعد:
فإن الهدف الأسمى من كل هذه الضوابط سلامة الصدر بإحقاق الحق، وذلك من خلال الكتابة، والشهادة، فكأن الكتابة وحدها لاتكفي، والشهادة وحدها لا تكفي، فلابد من اجتماع الأمرين، حتى نصل إلى نفي الريب: {وأدنى ألا ترتابوا} فالعقول تنسى، وقد تغضب فتكتم، وقد تمالئ فتجور، وما يمنعها من كل ذلك إلا الكتابة والشهادة.
قوله تعالى: {وأدني ألا ترتابوا}.
والدنو هو القرب: من دنا يدنو؛ أي أقرب إلي عدم الارتياب، والارتياب شك مع تهمه، فإنك تقول إني مرتاب في فلان، إذا شككت في أمره، واتهمته، والارتياب أمر قلبي، ومع ذلك استخدم معه لفظ {أدني}، وهو مخصوص بالقرب المكاني؛ لأنه: لا يكون إلا في المسافة بين شيئين.
وفي ذلك إخراج للمعنوي، وهو الارتياب في صورة المحسوس؛ لأن هذا المعنوي يترك أثاره علي الحواس من غضب ونحو ذلك.
ويبقي السؤال:
هل بعد كل هذه الضوابط لا تنتفي الريبة انتفاءً كاملًا؛ فيقال: {وأدني ألا ترتابوا}، ولا يقال وانفي للريبة؟
إن هذا يعطي معنيً مهمًا، وهو أنه بالرغم من كل هذه الضمانات إلا أن نفس الإنسان تظل في قلق وتوجس من ضياع هذا المال؛ فهي بعد كل هذا تقترب من الضمان، لكنها لا تحصل على الضمان التام.
ولما كان قائل هذا الكلام هو خالق تلك النفس، كان لابد من فهم طبيعة هذه النفوس وعلاقاتها بالمال، فهي علاقة ذات خصوصية شديدة، بحيث لا تطمئن إلا بوجود المال في حوزتها، أما إذا كان في حوزة الغير فمهما أعطيت من ضمانات؛ فإنها لا تنفك عن الريب، وخوف الضياع.
حذف المفضل عليه:
حُذف المفضل عليه في الجمل الثلاث؛ إذ التقدير: ذلكم أقسط عند الله من عدم الكتابة.
وأقوم للشهادة من عدم التحيّز في الشهود.
وأدنى إلى عدم الريبة من ترك كل هذا.
وحسن حذف المفضل عليه لكون أفعل الذي للتفضيل وقع خبرًا، وتقديره: الكتب أقسط، وأقوم، وأدنى من عدم الكتب.
ووجه الحسن هنا هو اختزال التفضيل في تلك الألفاظ الثلاثة، حتى لا ينصرف الذهن إلا إليها، فيقبل على الأمر والنهي إقبال المحب الموقن بحكمة ما وضع من ضوابط،وأنه في صالحه.