فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تقدّم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقولونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} روى الدَّارِمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سَلاَم قال: قَعَدَنا نَفَرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى لعملناه؛ فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} حتى ختمها.
قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.
قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سَلاَم.
قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الأوزاعي وقرأها علينا محمد.
وقال ابن عباس قال عبد الله بن رَوَاحة: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه.
فلما نزل الجهاد كرهوه.
وقال الكلبي: قال المؤمنون يا رسول الله، لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لسارعنا إليها؛ فنزلت {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فمكثوا زمانًا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؛ فدلهم الله تعالى عليها بقوله: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} الآية.
فابْتُلُوا يوم أُحُد ففرّوا؛ فنزلت تعيّرهم بترك الوفاء.
وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: اللهم اشهد! لئن لقينا قتالًا لنُفْرِغَنّ فيه وُسْعَنا؛ ففروا يوم أُحُد فعيّرهم الله بذلك.
وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وأبْلَيْنا ولم يفعلوا.
وقال صُهيب: «كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته.
فقال رجل يا نبيّ الله، إني قتلت فلانا، ففرح النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك.
فقال عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عَوْف: يا صُهيب، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلانا! فإن فلانا انتَحَل قتله؛ فأخبره فقال: أكذلك يا أبا يحيى؟ قال نعم، والله يا رسول الله؛ فنزلت الآية في المنتحِل»
.
وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين؛ كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا؛ فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا.
الثانية: هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجلٍ قد قرءوا القرآن؛ فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتْلُوه ولا يَطُولَنّ عليكم الأمد فتَقْسُوَ قلوبكم كما قستْ قلوب من كان قبلكم.
وإنا كنا نقرأ سورةً كنا نشبهها في الطُّول والشدة بـ: (براءة) فأنْسيتها؛ غير أني قد حفِظت منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديًا ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب».
وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المُسبِّحات فأنسيتها؛ غير أني حفظت منها {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} فَتُكْتَب شهادةً في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة.
قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدِّين.
أما قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} فثابت في الدِّين لفظًا ومعنىً في هذه السورة.
وأما قوله: شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة فمعنىً ثابتٌ في الدّين؛ فإن من التزم شيئًا لزمه شرعًا.
والملتَزَم على قسمين: أحدهما النذر، وهو على قسمين، نذرُ تقرّب مبتدأ كقوله: لله عليّ صلاة وصوم وصدقة، ونحوه من القُرَب.
فهذا يلزم الوفاء به إجماعًا.
ونذرُ مباحٍ وهو ما علّق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعليّ صدقة، أو عُلّق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شرّ كذا فعليّ صدقة.
فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: يلزمه الوفاء به.
وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه الوفاء به.
وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتناول ذمّ من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط.
وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القُرْبة مما هو من جنس القربة.
وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل.
قلنا: القرب الشرعية مَشَقّات وكُلَف وإن كانت قربات.
وهذا تكلّف التزام هذه القربة بمشقة لجَلْب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سَنَن التكليف ولا زال عن قصد التقرب.
قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدًا فلا يخلو أن يكون منوطًا بسبب كقوله: إن تزوّجت أعنتُك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا.
فهذا لازم إجماعًا من الفقهاء.
وإن كان وعدًا مجرّدًا فقيل يلزم بتعلقه.
وتعلقوا بسبب الآية، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أيّ الأعمال أفضل أو أحبّ إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وهو حديث لا بأس به.
وقد روي عن مجاهد أن عبد الله بن رَوَاحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أقْتل.
والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر.
قلت: قال مالك: فأما العِدَة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يَهَب له الهبة فيقول له نعم؛ ثم يبدو له ألاّ يفعل فما أرى ذلك يلزمه.
وقال ابن القاسم: إذا وعَد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدّى إليكم؛ فإن هذا يلزمه.
وأما أن يقول نعم أنا أفعل؛ ثم يبدو له، فلا أرى عليه ذلك.
قلت: أي لا يقضى عليه بذلك؛ فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنَعَم.
وقد أثنى الله تعالى على من صَدَق وعده ووَفى بنذره فقال: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] وقد تقدم بيانه.
الثالثة: قال النَّخَعِيّ: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]، {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
وخرّج أبو نُعيم الحافظ من حديث مالك بن دِينار عن ثُمَامة أن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلة أسْرِيَ بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قُرضت وَفَت. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون» وعن بعض السلف أنه قيل له: حدِّثْنا؛ فسكت.
ثم قيل له: حدِّثنا.
فقال: أتروْنني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله!
الرابعة: قوله تعالى: {لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله.
أما في الماضي فيكون كذبًا، وأما في المستقبل فيكون خُلْفًا، وكلاهما مذموم.
وتأول سفيان بن عُيَينة قوله تعالى: {لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون.
فعلى هذا يكون الكلام محمولًا على ظاهره في إنكار القول.
الخامسة: قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} قد يحتج به في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي.
و(أن) وقع بالابتداء وما قبلها الخبر؛ وكأنه قال: قولكم ما لا تفعلون مذموم، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف.
الكسائي: (أن) في موضع رفع؛ لأن {كَبُرَ} فعلٌ بمنزلة بئس رجلًا أخوك.
و{مَقْتًا} نصب بالتمييز؛ المعنى كبر قولهم ما لا يفعلون مقتًا.
وقيل: هو حال.
والمقت والمَقَاتة مصدران؛ يقال: رجل مَقِيت وممقوت إذا لم يحبه الناس.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي يصفُّون صفًا: والمفعول مضمر؛ أي يصفُّون أنفسهم صفًا.
{كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} قال الفرّاء: مرصوص بالرَّصاص.
وقال المبرّد: هو من رصصت البناء إذا لا أمْتَ بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة.
وقيل: هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض.
والتراصّ التلاصق؛ ومنه وتراصُّوا في الصف.
ومعنى الآية: يحبّ مَن يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء.
وقال سعيد ابن جبير: هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوّهم.
الثانية: وقد استدلّ بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة.
المهدَوِيّ: وذلك غير مستقيم، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة.
ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات.
الثالثة: لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو في رسالة يرسلها الإمام، أو في منفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها.
وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين: أحدهما أنه لا بأس بذلك إرهابًا للعدوّ، وطلبًا للشهادة وتحريضًا على القتال.
وقال أصحابنا: لا يبرز أحد طالبًا لذلك، لأن فيه رياءً وخروجًا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدوّ.
وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر؛ كما كانت في حروب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بَدْر وفي غَزْوة خَيْبر، وعليه دَرَج السلف.
وقد مضى القول مستوفى في هذا في (البقرة) عند قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195]. اهـ.

.قال الألوسي:

{سَبَّحَ للَّهِ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}
الكلام فيه كالكلام المار في نظيره، والنداء بوصف الإيمان في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
على ما عدا القول الأخير في سبب النزول ظاهر، وعليه قيل: هو للتهكم بأولئك المنافقين وبإيمانهم، و{لَمْ} مركبة من اللام الجارة.
وما الاستفهامية قد حذف ألفها على ما قال النحاة للفرق بين الخبر والاستفهام ولم يعكس حرصا على الجواب، وقيل: لكثرة استعمالهما معا فاستحق التخفيف وإثبات الكثرة المذكورة أمر عسير، وقيل: لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه، وبين بأن قولك.
لم فعلت؟ مثلا المستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة والفعل والعلة مدلول اللام والفعل مدلول ما لأنها بمعنى أي شيء، والمفيد لذلك المجموع، وعند عدم الحرف المسئول عنه الفعل وحده وهو كما ترى، والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟ا على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجه إلى قولهم تنبيهًا على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد أيضًا، وقد كانوا يحسبونه معروفًا، ولو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود.
{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
بيان لغاية قبح ما فعلوه، و{كَبُرَ} من باب بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، و{أَن تَقولواْ} هو المخصوص بالذم، وجوز أن يكون في {كَبُرَ} ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله سبحانه: {لِمَ تَقولونَ} [الصف: 2] أي كبر هو أي القول مقتًا؛ و{أَن تَقولواْ} بدل من المضمر أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل: قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كما في قوله:
وجارة جساس أبأنا بنابها ** كليبًا غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، وأسند إلى {أَن تَقولواْ} ونصب {مَقْتًا} على تفسيره دلالة على أن قولهم: {مَا لاَ يَفْعَلُونَ} مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأة أبيه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرًا حتى جعل أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد من أهل اللغة، وقال ابن عطية: المقت البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت، وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت إذا كان يبغضه كل واحد، واستدل بالآية على وجوب الوفاء بالنذر؛ وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا فسكت، فقيل له: حدثنا فقال: وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فاستعجل مقت الله عز وجل، وقوله سبحانه: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} بيان لما هو مرضى عنده سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت عند جل شأنه، وظاهره يرجح أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون ما يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول، ويقتضي أن مناط التوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم وصف مصدر وقع موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، ونصبه على الحال من ضمير {يقاتلون} أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، و{كَأَنَّهُمْ} إلخ حال من المستكن في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهم ببنيان الخ، وهذا ما عناه الزمخشري بقوله: هما أي {صَفَّا} و{كَأَنَّهُمْ} إلخ حالان متداخلان، وقول ابن المنير إن معنى التداخل أن الحال الأولى مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الاتصاف هي هيئة الارتصاص خلاف المعروف من التداخل في اصطلاح النحاة، وجوز أن يكون حالا ثانية من الضمير.
وقال الحوفي: هو في موضع النعت لصفًا وهو كما ترى، والمرصوص على ما قال الفراء.
ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص، ويراد به المحكم، وقال المبرد: رصصت البناء لاءَمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان، والظاهر أن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص من حيث أنهم لا فرجه بينهم ولا خلل، وقيل: المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص، والأكثرون على الأول، وفي أحكام القرآن فيه استحباب قيام المجاهدين في القتال صفوفًا كصفوف الصلاة وأنه يستحب سدّ الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام الصف الأول فالأول، وتسوية الصفوف عدم تقدم بعض على بعض فيها، وقال ابن الفرس: استدل به بعضهم على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراصي إنما يمكن منهم، ثم قال: وهو ممنوع انتهى، ثم إن القتال على هذه الهيئة اليوم من أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية، وأنت تعلم أن للوسائل حكم المقاصد فما يتوصل به إلى تحصيل الاتصاف بذلك مما لا ينبغي أن يتكاسل في تحصيله، وقرأ زيد بن علي {يقاتلون} بفتح التاء، وقرئ {يقتلون}. اهـ.