فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
قد تقدم القول غير مرة في تسبيح الجمادات، و{العزيز} في سلطانه وقدرته، و{الحكيم} في أفعاله وتدبيره، واختلف الناس في السبب الذي نزلت فيه: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فقال ابن عباس وأبو صالح: نزلت بسبب أن جماعة قالوا: لوددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نفنى فيه، ففرض الله الجهاد وأعلمهم بفضله لديه وأنه يحب المقاتلين في سبيله كالبنيان المرصوص، وكان إذ فرض قد تكرهه قوم منهم، وفر من فر يوم أحد فعاتبهم الله بهذه الآية بسبب أو جماعة من شباب المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب، فنزلت الآية في ذلك. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين لأن جملة منهم كانوا يقولون للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك، فنزلت الآية عتابًا لهم، وحكم هذه الآية باق غابر الدهر، وكل من يقول ما لا يفعل، فهو ممقوت مذق الكلام، والقول الآخر في المنافقين إنما يتوجه بأن يكونوا غير مجلحين بالنفاق فلذلك خوطبوا بالمؤمنين أي في زعمكم وما تظهرون، والقول الأول يترجح بما يأتي بعد من أمر الجهاد والقتال. و(المقت): البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت، وهذا حد المقت فتأمله، و{مقتًا} نصب على التمييز، والتقدير {كبر} فعلكم {مقتًا}، والمراد كبر مقت فعلكم فحذف المضاف إليه ونصب المضاف على التمييز، وهذا كما تريد تفقأ شحم بطنك فتقول: تفقأ بطنك شحمًا، و{أن تقولوا}، يحتمل أن يكون بدلًا من المقدر، ويحتمل أن يكون فاعلًا بـ: {كبر}، وقول المرء ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى، ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت، ثم وكد تعالى الإخبار بمحبته للمقاتلين {صفًا}، ومحبة الله تعالى هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته وهي صفة فعل وليست بمعنى الإرادة، لأن الإرادة لا يصح أن يقع ما يخالفها،
ونحن نجد المقاتلين على غير هذه الصفة كثيرًا، وقال بعض الناس: قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص فيه يتمكن، وهذا ضعيف خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفي التصاف وإنما المقصد الجد في كل أوطان القتال وأحواله، وقصد بالذكر أشد الأحوال وهي الحالة التي تحوج إلى القتال {صفًا} متراصًا، ونابت هذه الحال المذكورة مناب جميع الأحوال، وقضت الآية بأن الذين يبلغ جدهم إلى هذه الحال حريون بأن لا يقصروا عن حال، و{المرصوص} المصفوف المتضام، وقال أبو بحرية رحمه الله: إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجبوا فؤادي ومنه قول الشاعر ابن أبي العنبس الثقفي: مجزوء الكامل:
وبالشعب بين صفائح ** صم ترصص بالجنوب

وقال منذر بن سعيد والبراء وغيره: {المرصوص} المعقود بالرصاص، وهذا يحتمل أن يكون أصل اللفظة، ثم ذكر الله تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم الله تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته و{زاغوا} ف {أزاغ الله قلوبهم}، أي فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيركم العصيان، وقول الباطل إلى مثل حالهم، وقال أبو أمامة: هم الخوارج، وقال سعد بن أبي وقاص: هم الحرورية، المعنى: أنهم أشباههم في أنهم لما {زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، وقوله: {لم تؤذونني} تقرير، والمعنى {تؤذونني} بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم، وهذه كانت أفعال بني إسرائيل، وانظر إنه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة، كما قال الله تعالى: {نسوا الله فأنساهم} [الحشر: 19] وهذا يخالف قوله تعالى: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118] فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80]، و{زاغ} معناه: مال، وصار عرفها في الميل عن الحق، و{أزاغ الله قلوبهم} معناه: طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق، وهذه العقوبة على الذنب بالذنب، وأمال ابن أبي إسحاق: {زاغوا}.
{وَإِذْ قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}
المعنى: واذكر يا محمد إذ قال عيسى، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لكفار قريش، وحكي عن موسى أنه قال: {يا قوم} [الصف: 5] وعن عيسى أنه قال: {يا بني إسرائيل} من حيث لم يكن له فيهم أب، و{مصدقًا}، حال مؤكدة، {ومبشرًا} عطف عليه، وقوله تعالى: {يأتي من بعدي}، وقوله: {اسمه أحمد} جملتان كل واحدة منهما في موضع خفض على الصفة لرسول، و{أحمد} فعل سمي به، ويحتمل أن يكون أفعل كأسود، وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص، وليست على حد قولك جاءنا أحمد لأنك ها هنا أوقعت الاسم على مسماه، وفي الآية إنما أراد: اسمه هذه الكلمة، وذكر أبو علي هذا الغرض ومنه ينفك إعراب قوله تعالى: {يقال له إبراهيم} [الأنبياء: 60]، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: {بعديَ} بفتح الياء، وقوله تعالى: {فلما جاءهم بالبينات}، الآية يحتمل أن يريد {عيسى}، وتكون الآية وما بعدها تمثيلًا بأولئك لهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون التمثيل قد فرغ عند قوله: {اسمه أحمد}، ثم خرج إلى ذكر {أحمد} لما تطرق ذكره، فقال مخاطبة للمؤمنين، {فلما جاء} أحمد هؤلاء الكفار {قالوا هذا سحر مبين}، و{البينات} هي الآيات والعلامات، وقرأ جمهور الناس: {هذا ساحر} إشارة إلى ما جاء به، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش وابن وثاب: {هذا سحر} إشارة إليه بنفسه، وقوله تعالى: {ومن أظلم} تعجيب وتقرير أي لا أحد أظلم منه، و(افتراء الكذب) هو قولهم: {هذا سحر}، وما جرى مجرى هذا من الأقوال التي هي اختلاق وبغير دليل، وقرأ الجمهور: {يُدعى} على بناء الفعل للمفعول، وقرأ طلحة بن مصرف {يدعي} بمعنى ينتمي وينتسب ومن ذلك قول الشاعر ساعدة بن عجلان الهذلي: الكامل:
فرميت فوق ملاءة محبوكة ** وأبنت للأشهاد حزة أدعي

والمعنى على هذه القراءة إنما هو إشارة إلى الأنبياء عليهم السلام لما حكي عن الكفار أنهم قالوا: {هذا ساحر}، بين بعد ذلك أن العقل لا يقبله، أي وهل أظلم من هذا الذي يزعم أنه نبي ويدعي إلى الإسلام وهو مع ذلك مفتر على ربه وهذا دليل واضح لأن مسالك أهل الافتراء والمخرقة إنما هي دون هذا وفي أمور خسيسة، وضبط النقاش هذه القراءة: {يُدَّعى} بضم الياء وفتح الدال المشددة على ما لم يسم فاعله، والضمير في {يريدون} للكفار، واللام في قوله: {ليطفئوا} لام مؤكدة، دخلت على المفعول لأن التقدير: (يريدون أن يطفئوا) وأن مع الفعل بتأويل المصدر فكأنه قال: يريدون إطفاء، وأكثر ما تلتزم هذه اللام المفعول إذا تقدم تقول لزيد: ضربت ولرؤيتك قصدت، و{نور الله} هو شرعه وبراهينه.
وقوله تعالى: {بأفواههم} إشارة إلى الأقوال أي بقولهم: سحر وشعر وتكهن وغير ذلك، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن والحسن وطلحة والأعرج: {والله متمٌّ} بالتنوين، {نورَه} {نورَه} بالنصب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش: {متمُ نورِه} بالإضافة وهي في معنى الانفصال وفي هذا نظر.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
هذا تأكيد لأمر الرسالة وشد لأزرها كما يقول الإنسان لأمر يثبته ويقويه أنا فعلته، أي فمن يقدر على معارضته فليعارض، والرسول المشار إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {على الدين كله} لفظ يصلح للعموم وأن يكون المعنى أو لا يبقى موضع فيه دين غير الإسلام، وهذا لا يكون إلا عند نزول عيسى ابن مريم، قاله مجاهد وأبو هريرة، ويحتمل أن يكون المعنى أن يظهره حتى لا يوجد دين إلا الإسلام أظهر منه، وهذا قد كان ووجد. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا في الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}
الكلامُ فيهِ كالذي مرَّ في نظيره. {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} رُوِيَ أنَّ المسلمينَ قالوا لو علمنَا أحبَّ الأعمالِ إلى الله تعالى لبذلنَا فيه أموالَنا وأنفسَنا فلما نزلَ الجهادُ كرهوهُ فنزلتْ وما قيل من أن النازل قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا} بيّن الاختلال. وروي أنهم قالوا: يا رسول الله لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه، فنزلت: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة} إلى قوله تعالى: {وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} فولَّوا يومَ أحدٍ. وفيه التزامُ أنَّ ترتيبَ الآياتِ الكريمةِ ليسَ على ترتيبِ النزولِ وقيل لما أخبرَ الله تعالى بثوابِ شهداءِ بدرٍ قالتِ الصحابةُ اللَّهم أشهدْ لئِن لقِينا قتالًا لنُفْرغَن فيهِ وُسعنا ففرّوا يومَ أحدٍ فنزلتْ. وقيلَ إنَّها نزلتْ فيمَنْ يتمدحُ كاذبًا حيثُ كانَ الرجلُ يقول قتلتُ ولم يقتُلْ وطعنتُ ولم يَطعنْ وهكذا، وقيلَ كانَ رجلٌ قد آذَى المسلمينَ يومَ بدرٍ ونكى فيهم فقتَلَهُ صهيبٌ وانتحلَ قتلَهُ آخرُ فنزلتْ في المنتحِلِ. وَقِيلَ نزلتْ في المنافقينَ ونداؤُهم بالإيمانِ تهكمٌ بهم وبإيمانهم وليسَ بذاكَ كما ستعرفُهُ، ولمَ مركبةٌ من اللامِ الجارةِ وما الاستفهاميةِ قد حذفتْ ألفُها تخفيفًا لكثرةِ استعمالِهما معًا كما في عَمَّ وفيمَ ونظائِرِهِما. معنَاها لأيِّ شيءٍ تقولونَ نفعلُ ما لا تفعلونَ من الخيرِ والمعروفِ على أنَّ مدارَ التعبيرِ والتوبيخ في الحقيقةِ عدمُ فعلِهم وإنَّما وجها إلى قولهِم تنبيهًا على تضاعفِ معصيتِهِم ببيانِ أنَّ المنكرَ ليسَ تركَ الخيرِ الموعودِ فقط بلِ الوعدَ بهِ أيضًا، وقد كانُوا يحسبونَهُ معروفًا ولو قيلَ لمَ لا تفعلونَ ما تقولونَ لفُهم منهُ أنَّ المنكرَ هُو تركُ الموعودِ {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} بيانٌ لغايةِ قُبحِ ما فعلوهُ وفرطِ سماجتِه. وكبُرَ من بابِ نِعْمَ وبِئْسَ فيه ضميرٌ مبهمٌ مفسرٌ بالنكرةِ بعدهُ، وأنْ تقولوا هو المخصوصُ بالذمِّ. وقيل قُصدَ فيهِ التعجبُ من غيرِ لفظِهِ وأُسْندَ إلى أنْ تقولوا. ونصبُ مقتًا على تفسيرِهِ دلالةٌ على أنَّ قولهُم ما لا يفعلونَ مقتٌ خالصٌ لا شوبَ فيهِ كبُرَ عندَ من يحقرُ دونَهُ كلُّ عظيمٍ.
وقولهُ تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا} بيانٌ لِما هو مرضيٌّ عنده تعالى بعد بيانِ ما هو ممقوتٌ عندهُ. وهذا صريحٌ في أنَّ ما قالوه عبارةٌ عن الوعدِ بالقتالِ لا عما تقولهُ الممتدحُ أو انتحلَهُ المنتحِلُ أو ادَّعاهُ المنافقُ وأنَّ مناطَ التعبيرِ والتوبيخِ هو إخلافُهم لا وعدُهم كما أشيرَ إليهِ. وقرئ {يقاتَلُونَ} بفتح التاء ويُقتلون، و{صفًا} مصدرٌ وقعَ موقعَ الفاعلِ أو المفعولِ ونصبُهُ على الحاليةِ منْ فاعلِ {يقاتلونَ} أي صافِّينَ أنفسَهُم أو مصفوفِينَ. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} حالٌ من المستكنِّ في الحالِ الأُولى أي مشبهينَ في تراصِّهِم من غيرِ فُرجةٍ وخللٍ ببنيانٍ رُصَّ بعضُهُ إلى بعضٍ ورُصفَ حتى صار شيئًا واحدًا. وقوله تعالى: {وَإِذْ قال موسى لِقَوْمِهِ} كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبله من شناعة تركِ القتالِ و{إذْ} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلام بطريقِ التلوينِ. أيْ واذكُرْ لهؤلاءِ المعرضينَ عن القتالِ وقتَ قول مُوسى لبني إسرائيلَ حينَ ندبَهُم إلى قتالِ الجبابرةِ بقولهِ: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ التي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين} فلم يمتثلُوا بأمرِهِ وعَصوه أشدَّ عصيانٍ حيثُ قالوا: {قالوا يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون} إلى قولهِ تعالى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} وأصرُّوا على ذلكَ وآذُوه عليهِ الصلاةُ والسلام كلَّ الأذيةِ {يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِي} أي بالمخالفةِ والعصيانِ فيما أمرتكُم بهِ. وقوله تعالى: {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} جملة حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكارِ الإيذاءِ ونفيِ سببِهِ، وقدْ لتحقيقِ العلمِ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على استمرارِهِ أي والحالُ أنكم تعلمونَ علمًا قطعيًا مستمرًا بمشاهدةِ ما ظهر بيديَّ من المعجزاتِ القاهرةِ التي معظمُها إهلاكُ عدوِّكُم وإنجاؤُكم من ملكتِهِ أنِّي رسولُ الله إليكُم لأرشدَكم إلى خيرِ الدُّنيا والآخرةِ ومن قضيةِ علمكم بذلكَ أن تبالغُوا في تعظيمي وتسارعُوا إلى طاعتِي.
{فَلَمَّا زَاغُواْ} أي أصرُّوا على الزيغِ عن الحقِّ الذي جاءَ به موسَى عليهِ السلام واستمرُّوا عليهِ {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} أيْ صرفَها عن قبولِ الحقِّ والميلِ إلى الصوابِ لصرفِ اختيارِهِم نحو الغيِّ والضلالِ. وقولهُ تعالى: {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} اعتراضٌ تذييليُّ مقررٌ لمضمونِ ما قبله من الإزاغةِ، ومؤذنٌ بعلتِهِ أيْ لا يهدِي القومَ الخارجينَ عن الطاعةِ ومنهاجِ الحقِّ المُصرِّين على الغَوايةِ هدايةً موصلةً إلى البغيةِ، لا هدايةً موصلةً إلى ما يوصل إليها فإنها شاملةٌ للكُلِّ والمرادُ بهم إما المذكورونَ خاصَّة، والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم بالفسقِ وتعليلِ عدمِ الهدايةِ بهِ. أو جنسِ الفاسقينَ وهم داخلونَ في حُكمه دخولًا أوليًا وأيًّا ما كانَ فوصفُهم بالفسقِ ناظرٌ إلى ما في قولهِ تعالى: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} وقولهِ تعالى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} هذا هُو الذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ ويرتضيهِ الذوقُ السليمُ. وأما ما قيلَ بصددِ بيانِ أسبابِ الأذيةِ من أنهم كانُوا يؤذونَهُ عليهِ الصلاةُ والسلام بأنواعِ الأذَى من انتقاصِهِ وعيبِهِ في نفسِهِ وجحودِ آياتِهِ وعصيانِهِ فيما تعودُ إليهِم منافعُهُ وعبادتِهِم البقرَ وطلبِهِم رؤيةَ الله جهرةً والتكذيبِ الذي هو تضييعُ حقِّ الله وحقِّه فممَّا لا تعلقَ له بالمقامِ.
وقولهُ تعالى: {وَإِذْ قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ}
إمَّا معطوفٌ على إذ الأُولى معمولٌ لعاملِهَا، وإما معمولٌ لمضمرٍ عطوف على عاملِها {بَنِي إسرائيل} ناداهُم بذلكَ استمالةً لقلوبِهِم إلى تصديقه في قولهِ تعالى: {إِنّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} فإنَّ تصديقَهُ عليهِ الصلاةُ والسلام إيِّاها من أَقْوى الدَّواعِي إلى تصديقِهِم إيَّاه. وقولهُ تعالى: {وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي} معطوفٌ على مصدقًا أي داعٍ إلى تصديقِه عليهِ الصلاةُ والسلام مثلَه من حيثُ إن البشارةَ بهِ واقعةٌ في التوراة والعاملُ فيهما ما في الرسولِ من مَعْنَى الإرسالِ لا الجارُّ فإنَّه صلةٌ للرسولِ والصلاتُ بمعزلٍ من تضمنِ معنى الفعلِ وعليهِ يدورُ العملُ أي أرسلتُ إليكم حالَ كونِي مصدقًا لما تقدمنِي من التوراة ومبشرًا بمنْ يأتي من بعدِي من رسولٍ {اسمه أَحْمَدُ} أي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، يريدُ أنَّ دينيَ التصديقُ بكتبِ الله وأنبيائِهِ جميعًا ممن تقدمَ وتأخَّر. وقرئ {منْ بعديَ} بفتحِ الياءِ {فَلَمَّا جَاءهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ الظاهرةِ {قالواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} مشيرينَ إلى ما جاءَ به أو إليهِ عليهِ الصلاةُ والسلام وتسميتُه سحرًا للمبالغةِ ويؤيدُه قراءة منْ قرأ {هَذا ساحرٌ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} أيْ أيُّ الناسِ أشدُّ ظُلمًا ممن يُدعى إلى الإسلامِ الذي يوصله إلى سعادةِ الدارينِ فيضعَ موضعَ الإجابةِ الافتراءَ على الله عزَّ وجلَّ بقولهِ لكلامِهِ الذي هو دعاءُ عبادِهِ إلى الحقِّ هذا سحرٌ. أيْ هُو أظلمُ منْ كلِّ ظالمٍ وإنْ لم يتعرضْ ظاهرُ الكلامِ لنفي المُساوِي وقد مرَّ بيانُهُ غيرَ مرةٍ. وقرئ {يُدّعى} يقال دَعَاهُ وادَّعاهُ مثلُ لمسَهُ والتمسَهُ {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي لا يرشدهُم إلى ما فيهِ فلاحُهم لعدمِ توجههم إليهِ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} أي يريدونَ أنْ يطفئُوا دينَهُ أو كتابَهُ أو حجتَهُ النيرةَ. واللامُ مزيدةٌ لما فيهَا من مَعْنَى الإرادةِ تأكيدًا لها، كما زيدَتْ لِما فيها من مَعْنَى الإضافةِ تأكيدًا لها في لاَ أبا لكَ أو يريدونَ الافتراءَ ليطفئُوا نورَ الله {بأفواههم} بطعنِهِم فيه، مثل حالهُم بحالِ من ينفخُ في نورِ الشمسِ بفيه ليطفئَهُ {والله مُتِمُّ نُورِهِ} أي مبلِغُهُ إلى غايتِه بنشرِه في الآفاقِ وإعلائِهِ وقرئ {متمٌّ نورَهُ} بلا إضافة {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} أي إرغامًا لهم والجملة في حيزِ الحالِ على ما بُينَ مرارًا.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى}
بالقرآن أو المعجزةِ {وَدِينِ الحق} والملّة الحنيفيةِ {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} ليُعلِيَه على جميعِ الأديانِ المخالفةِ لهُ ولقد أنجزَ الله عزَّ وعلاَ وعدَهُ حيثُ جعلَهُ بحيثُ لم يبقَ دينٌ من الأديانِ إلا وهُو مغلوبٌ مقهورٌ بدينِ الإسلامِ {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} ذلكَ. وقرئ {هُو الذي أرسلَ نبيَّهُ}. اهـ.