فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}
هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} إلى قوله: {كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 2 4].
فبعد أن ضربت لهم الأمثال، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2]، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذْ قلتم لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أُسلوب الخطابة.
والظاهر أن الضمير المستتر في {أدلكم} عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين.
ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي {وبشر المؤمنين} [الصف: 13].
والاستفهام مستعمل في العَرض مجازًا لأن العارض قد يسأل المعروضَ عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال: هل لك في كذا؟ أو هل لك إلى كذا؟
والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة.
وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكّاكي في (المفتاح)، وهي غير منحصرة فيما ذكره.
وجيء بفعل {أدلكم} لإِفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة.
وأطلق على العمل الصالح لفظُ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارةَ في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه، وقد تقدم في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} في سورة [البقرة: 16].
ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإِنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح.
وجملة {تؤمنون بالله ورسوله} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويقُ الذي سبقها مما يثير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة.
وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فِعْل {تؤمنون بالله} مع {وتجاهدون} مراد به تجمعون بين الإِيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويهًا بشأن الجهاد.
وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإِيمان وتجديده في كل آن، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإِيمان وشؤونه.
وأما {وتجاهدون} فإنه لإِرادة تجدّد الجهاد إذا استُنفِروا إليه.
ومجيء {يغفر} مجْزومًا تنبيه على أن {تؤمنون} {وتجاهدون} وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمرُ لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر، قاله المبرد والزمخشري.
وقال الفراء: جزم {يغفرْ} لأنه جواب {هل أدلكم}، أي لأن متعلق {أدلكم} هو التجارة المفسرة بالإِيمان والجهاد، فكأنه قيل: هل تتَّجرون بالإِيمان والجهاد يَغفرْ لكم ذنوبكم.
وإنما جيء بالفعلين الأولين على لفظ الخبر للإِيذان بوجوب الامتثال حتى يفرض المأمور كأنه سمع الأمر وامتثله.
وقرأ الجمهور {تنجيكم} بسكون النون وتخفيف الجيم.
وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم، يقال: أنجاه ونَجّاه.
والإِشارة بـ {ذلكم} إلى الإِيمان والجهاد بتأويل المذكور: خير.
و{خير} هذا ليس اسم تفضيل الذي أصله: أخير ووزنه: أَفعل، بل هو اسم لضد الشر، ووزنه: فَعْل.
وجمع قوله: {خير} ما هو خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة.
وقوله: {إن كنتم تعلمون} تعريض لهم بالعتاب على تولّيهم يوم أُحُد بعد أن قالوا: لو نعلم أيَّ الأعمال أحب إلى الله لَعَمِلْنَاه، فندبوا إلى الجهاد فكان ما كان منهم يوم أُحُد، كما تقدم في أول السورة، فنزلوا منزلة من يُشَك في عملهم بأنه خير لعدم جريهم على موجَب العلم.
والمساكن الطيبة: هي القصور التي في الجنة، قال تعالى: {ويجعل لك قصورًا} [الفرقان: 10].
وإنما خُصّت المساكن بالذكر هنا لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم، فوعدوا على تلك المفارقة الموقتة بمساكن أبدية.
قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} إلى قوله: {ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [التوبة: 24] الآية.
{وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}.
عطف على جملة {يغفر لكم ويدخلكم} [الصف: 12] عطفَ الاسمية على الفعلية.
وجيء بالاسمية لإِفادة الثبوت والتحقق.
ف {أُخرى} مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: {لكم} من قوله: {يغفر لكم}.
والتقدير: أخرى لكم، ولك أن تجعل الخبر قوله: {نصر من الله}.
وجيء به وصفًا مؤنثًا بتأويل نعمة، أو فضيلة، أو خصلة مما يؤذن به قوله: {يغفر لكم ذنوبكم} [الصف: 12] إلى آخره من معنى النعمة والخصلة كقوله تعالى: {وأخرى لم تقدروا عليها} في سورة [الفتح: 21]
ووصف أخرى بجملة {تحبونها} إشارة إلى الامتنان عليهم بإعطائهم ما يحبون في الحياة الدنيا قبل إعطاء نعيم الآخرة.
وهذا نظير قوله تعالى: {فلنولينك قبلة ترضاها} [البقرة: 144].
و{نصر من الله} بدل من {أُخرى}، ويجوز أن يكون خبرًا عن {أخرى}.
والمراد به النصر العظيم، وهو نصر فتح مكة فإنه كان نصرًا على أشد أعدائهم الذين فتنوهم وآذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وألَّبوا عليهم العرب والأحزاب.
وراموا تشويه سمعتهم، وقد انضم إليه نصر الدين بإسلام أولئك الذين كانوا من قبل أئمة الكفر ومساعير الفتنة، فأصبحوا مؤمنين إخوانًا وصدق الله وعده بقوله: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} [الممتحنة: 7] وقوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} [آل عمران: 103].
وذكر اسم الجلالة يجوز أن يكون إظهارًا في مقام الإِضمار على احتمال أن يكون ضمير التكلم في قوله: {هل أدلكم} [الصف: 10] كلامًا من الله تعالى، ويجوز أن يكون جاريًا على مقتضى الظاهر إن كان الخطاب أُمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير {قل}.
ووصف الفتح بـ {بقريب} تعجيل بالمسرة.
وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الإِخبار بالغيب.
{قَرِيبٌ وَبَشِّرِ}.
يجوز أن تكون عطفًا على مجموع الكلام الذي قبلها ابتداء من قوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} [الصف: 10] على احتمال أن ما قبلها كلام صادر من جانب الله تعالى، عطفَ غرض على غرض فيكون الأمر من الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين.
ولا يتأتى في هذه الجملة فرضُ عطف الإِنشاء على الإِخبار إذ ليس عطف جملة بل جملة على جملة على مجموع جُمل على نحو ما اختاره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} الآية في أوائل سورة [البقرة: 25] وما بيَّنه من كلام السيد الشريف في حاشية الكشاف.
وأما على احتمال أن يكون قوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم} إلى آخره مسوقًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: {هل أدلكم على تجارة} بتقدير قول محذوف، أي قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم، إلى آخره، فيكون الأمر في {وبشر} التفاتًا من قبيل التجريد.
والمعنى: وأُبشّرُ المؤمنين.
وقد تقدم القول في عطف الإِنشاء على الإِخبار عند قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} في أوائل سورة [البقرة: 25].
والذي استقر عليه رأيي الآن أن الاختلاف بين الجملتين بالخبرية والإِنشائية اختلاف لفظي لا يؤثر بين الجملتين اتصالًا ولا انقطاعًا لأن الاتصال والانقطاع أمران معنويان وتابعان للأغراض فالعبرة بالمناسبة المعنوية دون الصيغة اللفظية وفي هذا مقنع حيث فاتني التعرض لهذا الوجه عند تفسير آية سورة البقرة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في التجارة:
وقد ذكرها الله تعالى في ستَّة مواضع.
الأَوّل: تجارة غُزَاة المجاهدين بالرُّوح، والنفْس، والمال: {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إِلى قوله: {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم}.
الثاني: تجارةُ المنافقين في بَيْع الهدى بالضَّلالة: {اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ}.
الثالث: تجارة قراءة القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} إِلى قوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}.
الرّابع: تجارة عُبّاد الدّنيا بتضييع الأَعمال، في استزادة الدرهم والدّينار: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا}.
الخامس: في معاملة الخَلْق بالبيع والشِّرَى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ}.
السّادس: تجارة خواصّ العباد بالإِعراض عن كلّ تجارة دنيويّة: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}.
وهى لغةً: التَّصرّف في رأْس المال؛ طلبًا للرّبح.
تجَر يَتْجُرُ فهو تاجر.
والجمع تَجْر- كصاحب وصَحْب- وتُجّار وتِجَار.
وليس في الكلام تاءٌ بعده جيم غيرها.
ويقال: هو تاجر بكذا: أي حاذِق، عارف لوجه المكتسب منه.
ويقال: نِصف البركة في التجارة.
وقيل، نعم الشيءُ التجارة، ولو في الحجارة.
ويروى في الكلمات القدسيّة: من تاجَرَنِي لم يخسر.
وأُوحي إِلى بعض الأَنبياءِ: قل لعبيدي: تاجروني تربحوا عليّ؛ فإِني خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأَربح عليكم.
وفي الحديث: الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة.
وقال الشاعر:
خُذوا مال التجار وسوّفوهم ** إِلى وقت فإِنهمُ لئام

وليس عليكم في ذاك إِثْمٌ ** فإِن جميع ما جَمَعوا حرام

. اهـ.