فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

سورة الصف:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا في السماوات وَمَا في الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}
رُوي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه، فنزلت آية الجهاد فتباطأ بعضهم فنزلت {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} {لم} هي لام الإِضافة داخلة على {ما} الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: (بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام)، وإنما حذفت الألف لأن {ما} واللام أو غيرها كشيء واحد وهو كثير الاستعمال في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلًا قال:
على ما قام يشتمني جرير

والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ومن أسكن في الوصل فلإِجرائه مجرى الوقف {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله:
غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتًا على التمييز، وفيه دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، والمعنى: كبر قولكم ما لا تفعلون مقتًا عند الله، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض، وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا، فقال: أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله.
ثم أعلم الله عز وجل ما يحبه فقال: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا} أي: صافين أنفسهم مصدر وقع موقع الحال {كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} لاصق بعضه ببعض.
وقيل: أريد به استواء نياتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض وهو حال أيضًا {وَإِذْ} منصوب بـ: (اذكر) {قال موسى لِقَوْمِهِ يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِي} بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ {وَقَد تَّعْلَمُونَ} في موضع الحال أي: لم تؤذونني عالمين علمًا يقينًا {أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني {فَلَمَّا زَاغُواْ} مالوا عن الحق {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} من الهداية، أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم، أو فلما اختاروا الزيع أزاغ الله قلوبهم أي: خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.
{وَإِذْ قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ يا بني إسرائيل} ولم يقل: يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه {إِنّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} أي: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة وفي حالٍ تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني: أن ديني التصديق: التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعًا ممن تقدم وتأخر، {بَعْدِى} حجازي وأبو عمرو وأبو بكر وهو اختيار الخليل وسيبويه، وانتصب {مُصَدّقًا} و{مُبَشّرًا} بما في الرسول من معنى الإِرسال {فَلَمَّا جَاءَهُمُ} عيسى أو محمد عليهما السلام {بالبينات} بالمعجزات {قالواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} {ساحر} حمزة وعلي.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} وأيّ: الناس أشد ظلمًا ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإِسلام الذي له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر والسحر كذب وتمويه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} هذا تهكم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: هذا سحر، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه والمفعول محذوف واللام للتعليل، والتقدير: يريدون الكذب ليطفئوا نور الله بأفواههم، أي: بكلامهم {والله مُتِمُّ نُورِهِ} مكي وحمزة وعلي وحفص {مُتِمٌّ نُورِهِ} غيرهم أي: متم الحق ومبلغه غايته {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي: الملة الحنيفية {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدين كُلّهِ} على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام، وعن مجاهد: إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام {وَلَوْ كَرِهَ المشركون}.
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُنجّيكُم} شامي {تُؤْمِنُونَ} استئناف كأنّهم قالوا كيف نعمل؟ فقال: {تؤمنون} وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ولهذا أجيب بقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} ويدل عليه قراءة ابن مسعود {آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا} وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين {بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ} أي: ما ذكر من الإيمان والجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أموالكم وأنفسكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم كان خيرًا حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتفلحون وتخلصون {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: إقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا أقام به كذا قيل: {ذلك الفوز العظيم وأخرى تُحِبُّونَهَا} ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله: {نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي: عاجل، وهو فتح مكة والنصر على قريش: أو فتح فارس والروم، وفي {تُحِبُّونَهَا} شيء من التوبيخ على محبة العاجل، وقال صاحب الكشف معناه: هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها، ثم قال: {نَصْرُ} أي: نصر هي {وَبَشّرِ المؤمنين} عطف على {تُؤْمِنُونَ} لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا- يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك: وقيل: عطف على {قل} مرادًا قبل {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ}.
{يا أيّها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أَنْصَارُ الله} أي: أنصار دينه {أَنصَارًا لِلَّهِ} حجازي وأبو عمرو {كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ للحواريّن من أنصاري إلى الله} ظاهره تشبيه كونهم أنصارًا بقول عيسى {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} ولكنه محمول على المعنى، أي: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} ومعناه: من جندي متوجهًا إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريين وهو قوله: {قال الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي: نحن الذين ينصرون الله، ومعنى {مَنْ أَنصَارِى} من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله والحواريون أصفياؤه، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلًا، وحواري الرجل صفيه، وخالصه من الحور وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها {فَئَامَنَت طَّائِفَةٌ مّن بَنِي إسرائيل} بعيسى {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} به {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ عَلَى عَدُوِهِمْ} فقوينا مؤمنيهم على كفارهم {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} فغلبوا عليهم والله ولي المؤمنين والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

{لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} في سببها ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن عباس: أن جماعة قالوا: وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى الله فنعمله، ففرض الله الجهاد فكرهه قوم فنزلت الآية والآخر أن قومًا من شبان المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا، ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب، فنزلت الآية زجرًا لهم. والثالث أنها نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: نحن معكم ومنكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك وهذا ضعيف، لأنه خاطبهم بقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ} إلا أن يريد أنهم آمنوا بزعمهم، وفيما يُظهِرون. ومع ذلك فحكم الآية على العموم في زجر من يقول ما لا يفعل {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} كان بعض السلف يستحي أن يعظ الناس لأجل هذا الآية ويقول: أخاف من مقت الله، والمقت هو البغض لريبة أو نحوها، وانتصب مقتًا على التمييز وأن تقولوا فاعل، وقيل: فاعل كبر محذوف تقديره: كبر فعلكم مقتًا وأن تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر ابتداء مضمر {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن القتال، وقال بعض الناس: قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان، لأن التراص فيه يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان. قاله ابن عطية وهذا ضعيف، خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفس التراص، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} المرصوص هو الذي يُضم بعضُه إلى بعض. وقيل: هو المعقود بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ.
{وَإِذْ قال موسى لِقَوْمِهِ يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِي} كانوا يؤذونه بسوء الكلام ويعصيانه وتنقيصه وانظر في الأحزاب {لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى} [الأحزاب: 69] {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} هذا إقامة حجة عليهم وتوبيخ لهم، وتقبيح لإذايته مع علمهم بأنه رسول الله، ولذلك أدخل قد الدالة على التحقيق {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} هذه عقوبة على الذنب بذنب، وزيغ القلب هو ميله على الحق.
{وَإِذْ قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ يا بني إِسْرَائِيلَ} إنما ق لموسى يا قوم، وقال عيسى يا بني إسرائيل، لأنه لم يكن له فيهم أب {مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} معناه مذكور في [الأحزاب: 41] في قوله مصدقًا لما معكم {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ} عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة أحمد حكماء علماء أتقياء أبرار {اسمه أَحْمَدُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لي خمسة أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي بعدي» وأحمد مشتق من الحمد، ويحتمل أن يكون فعلًا سمي به، أو يكون صفة سمي بها كأحمد، ويحتمل أن يكون بمعنى حامد أو بمعنى محمود كمحمد {فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات} يحتمل أن يريد عيسى أو محمدًا عليهما الصلاة والسلام ويؤيد الأول اتصاله بما قبله، ويؤيد الثاني قوله: وهو {يدعى إِلَى الإسلام} لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} ذكر في [التوبة: 32].
{تُؤْمِنُونَ بالله} الآية تفسير للتجارة المذكورة، قال الأخفش: هو عطف بيان عليها {يَغْفِرْ لَكُمْ} جزم في جواب تؤمنون لأنه بمعنى الأمر، وقد قرأه ابن مسعود {آمنوا} و{جاهدوا} على الأمر؛ لأنه يقتضي التحضيض {وأخرى تُحِبُّونَهَا} ارتفع {أخرى} على أنه ابتداء مضمر تقديره: ولكم نعمة أخرى، أو انتصب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره: ويمنحكم أخرى {نَصْرٌ مِّن الله} تفسير لأخرى فهو بدل منها {وَبَشِّرِ المؤمنين} قال الزمخشري عطف على تؤمنون بالله؛ لأنه في معنى الأمر.
{كونوا أَنصَارَ الله} جمع ناصر وقد غلب اسم الأنصار على الأوس والخزرج، سماهم الله به وليس ذلك المراد هنا {كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ} هذا التشبيه محمول على المعنى لأن ظاهره: كونوا أنصار الله كقول عيسى، والمعنى: كونوا أنصار الله كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وقد ذكر في [آل عمران: 52] معنى الحواريين وأنصاري إلى الله {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} قيل: إنهم ظهروا بالحجة، وقيل: إنهم غلبوا الكفار بالقتال بعد رفع عيسى عليه السلام، وقيل: إن ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة الصف مدنية، وقيل مكية وآيها أربع عشرة آية.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}
سبق تفسيره.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فأنزل الله: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا} فولوا يوم أحد فنزلت. و{لَمْ} مركبة من لام الجر وما الاستفهامية والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر لكثرة استعمالها معًا واعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه.
{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقولواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} المقت أشد البغض ونصبه على التمييز للدلالة على أن قولهم هذا مقت خالص {كَبُرَ} عند من يحقر دونه كل عظيم، مبالغة في المنع عنه.
{إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا} مصطفين مصدر وصف به. {كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} في تراصهم من غير فرجة، حال من المستكن في الحال الأولى. والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه.
{وَإِذْ قال موسى لِقَوْمِهِ} مقدرًا باذكر أو كان كذا. {يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِي} بالعصيان والرمي بالأدرة. {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} بما جئتكم من المعجزات، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه، {وَقَدْ} لتحقيق العلم. {فَلَمَّا زَاغُواْ} عن الحق. {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب. {والله لاَ يَهْدِى الفاسقين} هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة.
{وَإِذْ قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ يا بني إسرائيل} ولعله لم يقل {يَا قَوْم} كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لأنه لا نَسب له فيهم. {إِنّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّرًا} في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة وتبشيري {بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي}. والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإِرسال لا الجار لأنه لغو إذ هو صلة للرسول فلا يعمل. {بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام، والمعنى أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه، فذكر أول الكتب المشهورة الذي حكم به النبيون والنبي الذي هو خاتم المرسلين. {فَلَمَّا جَاءهُم بالبينات قالواْ سِحْرٌ مُّبِينٌ} الإِشارة إلى ما جاء به أو إليه، وتسميته سحر للمبالغة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي هذا {ساحرًا} على أن الإِشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} أي لا أحد أظلم ممن يدعى إلى الإِسلام الظاهر حقيته المقتضي له خبر الدارين فيضع موضع إجابته الافتراء على الله بتكذيب رسوله وتسميته آياته سحرًا فإنه يعم إثبات المنفي ونفي الثابت وقرئ: {يدعى} يقال دعاه وادعاه كلمسه والتمسه. {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} أي يريدون أن يطفئوا، واللام مزيدة لما فيها من معنى الإِرادة تأكيدًا لها كما زيدت لما فيها من معنى الإضافة تأكيدًا لها في لا أبا لك، أو {يُرِيدُونَ} الافتراء {لِيُطْفِئُواْ}. {نُورَ الله} يعني دينه أو كتابه أو حجته. {بأفواههم} بطعنهم فيه. {والله مُتِمُّ نُورِهِ} مبلغ غايته بنشره وإعلائه، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بالإضافة. {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} إرغامًا لهم.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} بالقرآن أو المعجزة. {وَدِينِ الحق} والملة الحنيفية. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} ليغلبه على جميع الأديان. {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وقرأ ابن عامر{تُنجِيكُم} بالتشديد.
{تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} استئناف مبين للتجارة وهو الجمع بين الإِيمان والجهاد المؤدي إلى كمال عزهم، والمراد به الأمر وإنما جيء بلفظ الخبر إيذانًا بأن ذلك مما لا يترك. {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني ما ذكر من الإِيمان والجهاد. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كنتم من أهل العلم إذ الجاهل لا يعتد بفعله.
{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، أو لشرط أو استفهام دل عليه الكلام تقديره أن تؤمنوا وتجاهدوا، أو هل تقبلون أن أدلكم يغفر لكم، ويبعد جعله جوابًا لهل أدلكم لأن مجرد دلالته لا توجب المغفرة {وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً في جنات عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم} الإِشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة.
{وأخرى تُحِبُّونَهَا} ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي {تُحِبُّونَهَا} تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل، وقيل {أخرى} منصوبة بإضمار يعطيكم، أو تحبون أو مبتدأ خبره: {نَصْرٌ مّن الله} وهو على الأول بدل أو بيان وعلى قول النصب خبر محذوف، وقد قرئ بما عطف عليه بالنصب على البدل، أو الاختصاص أو المصدر. {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} عاجل. {وَبَشّرِ المؤمنين} عطف على محذوف مثل: قل يا أيها الذين آمنوا {وَبَشّرِ}، أو على {تُؤْمِنُونَ} فإنه في معنى الأمر كأنه قال: آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون وبشرهم يا رسول الله بما وعدتهم عليهما آجلًا وعاجلًا.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله}
وقرأ الحجازيان وأبو عمرو بالتنوين واللام لأن المعنى كونوا بعض أنصار الله. {كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى إِلَى الله} أي من جندي موجهًا إلى نصرة الله ليطابق قوله تعالى: {قال الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} والإِضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لما بينهما من الاختصاص، والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم كما قال عيسى ابن مريم، أو كونوا أنصارًا كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله}. والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلًا من الحور وهو البياض. {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إَسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} أي بعيسى. {فَأَيْدَّنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} بالحجة وبالحرب وذلك بعد رفع عيسى. {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} فصاروا غالبين.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليًا عليه مستغفرًا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه». اهـ.