فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقولونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}
في الآية الأولى إنكار على الذين يقولون ما لا يفعلون، وفي الآية الثانية بيان شدة غضب الله ومقته على من يكون كذلك، ولكن لم يبين هنا القول المغاير للفعل المنهي عنه، والمعاتبون عليه والمستوجب لشدة الغضب إلا أن مجيء الآية الثالثة بعدهما يشعر بموضوع القول والفعل، وهو الجهاد في سبيل الله.
وقد اتفقت كلمة علماء التفسير على أن سبب النزول مع تعدده عندهم: أنه حول الجهاد في سبيل الله من رغبة في الإذن لهم في الجهاد ومعرفة أحب الأعمال إلى الله، ونحو ذلك.
وقد بين القرآن في عدة مواضع أن موضع الآيتين الأولى والثانية فيما يتعلق بالجهاد وتمنيهم إياه.
من ذلك قوله تعالى عنهم: {وَيَقول الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20].
ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77].
ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} [الأحزاب: 15].
ففي الآية الأولى تمنوا نزول سورة يؤذن فيها بالقتال، فلما نزلت صار مرضى القلوب كالمغشي عليه من الموت.
وفي الثانية: قيل لهم كفوا أيديكم عن القتال، فتمنوا الإذن لهم فيه، فلما كتب عليهم رجعوا وتمنوا لو أخروا إلى أجل قريب.
وفي الثالثة: أعطوا العهود على الثبات وعدم التولي، وكان هد الله مسئولا، فلما كان في أحد وقع ما وقع وكذلك في حنين، ويشهد لهذا أيضًا قوله تعالى: {وَإِذْ قالت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقولونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} [الأحزاب: 13- 15] الآية.
ففي هذا السياق بيان لعتابهم على نقض العهد، وهو معنى: لم تقولون ما لا تفعلون سواء بسواء، ويقلل هذا أن الله تعالى امتدح طائفة أخرى منهم حين أوفوا بالعهد وصدقوا ما عاهدوا الله عليه في قوله تعالى: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
ثم بين الفرق بين الفريقين بقوله بعدها {لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْرًا}
[الأحزاب: 24- 25] الآية، وذلك في غزوة الأحزاب.
فتبين بهذا أن الفعل المغاير للقول هنا هو عدم الوفاء بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل فاستوجبوا العتاب عليه، كما تبين أن الذين وفوا بالعهد استوجبوا لثناء على الوفاء، وقد استدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في عهد أو وعد أو أمر أو نهي.
ففي الأمر والنهي كقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44].
وكقوله عن نبي الله شعيب لقومه: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
وفي العهد قوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
ومن هذا الوجه، فقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى عليه في عدة مواضع، منها في سورة هود عند قول شعيب المذكور.
ومنها عند قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] في سورة مريم.
وبحث فيها الوفاء بالوعد، والفرق بين الوعد والوعيد، والوفاء بالوعد والخلف في الوعيد، وعقد لها مسألة، وساق آيتي الصف هناك.
قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوص}.
اختلف علماء التفسير في المراد بالبنيان المرصوص، فنقل بعضهم عن الفراء: أنه المتلاحم بالرصاص لشدة قوته، والجمهور: أنه المتلاصق المتراص المتساوي.
والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء لا في تلاحمه بالرصاص، وعدم انفكاكه ولا تساويه وتراصه، لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن وجه الشبهة المراد هنا هو عموم القوة والوحدة.
قال الزمخشري: يجوز أن يريد استواء بنائهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. اهـ.
ويدل لهذا الآتي:
أولًا قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121].
فالمقاعد هنا هي المواقع للجماعات من الجيش، وهي التعبئة حسب ظروف الموقعة، كما فعل صلى الله عليه وسلم في وضع الرماة في غزوة أحد حماية لظهورهم من التفا العدو بهم لطبيعة المكان، وكما فعل في غزوة بدر ورصهم سواهم بقضيب في يده أيضًا لطبيعة المكان.
وهكذا، فلابد في كل وقعة من مراعاة موقعها، بل وظروف السلاح والقاتلة.
وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسره وأجنحة، ونحو ذلك فيكون وجه الشبهة هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب كما فعل الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من لموقع فلم يرقه، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها صلى الله عليه وسلم وغيَّر الموقع من مكان المعركة.
وثانيًا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 45- 46].
فذكر تعالى من عوامل النصر: الثبات عند اللقاء، وذكر الله والطاعة، والامتثال، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة، فتكون حملة رجل واحد، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، وامتجح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص.
وقد جاءت السنة بهذا التشبيه للتعاون في قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا».
فهو يبين المراد من وجه الشبه في البنيات المرصوص هنا، وقد أثر عن أبي موسى رضي الله عنه قوله لأصحابه: الزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.
وعن أكثم بن صيفي: أقلوا الخلاف على أمرائك، وإن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونون إلى الالتزام بهذا التوجيه القرآني الكريم، إزاء قضيتهم العامة مع عدوهم المشترك، ولاسيما، وقد مر العالم الإسلامي بعده تجارب في تاريخهم الطويل وكان لهم منها أوضح العبر، ولهم في هذا المنهج القرآني أكبر موجب لاسترجاع حقوقهم والحفاظ على كيانهم، فضلًا عن أنه العمل الذي يحبه الله من عباده، وبالله تعالى التوفيق.
{وَإِذْ قال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)}
قول موسى عليه السلام: لم تؤذونني؟ لم يبين نوع هذا الإيذاء وقد جاء مثل هذا الإجال في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قالواْ} [الأحزاب: 69].
وأحال عليه ابن كثير في تفسيرهن وساق حديث البخاري أنه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وأن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يومًا وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وأن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرآه عريانًا أحسن ما خلق الله عز وجل وبرأه مما يقولون إلى آخر القصة.
ونقله غيره من المفسرين عندها، وعلى هذا يكون إيذاؤهم إياه إيذاء شخصيًا بادعاء العيب فيه خلقة، وهذا وإن صح في آية الأحزاب لقوله تعالى: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قالوا}، فإنه لا يصح في آية الصف هذه لأن قول لهم. {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} مما يثير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي، ويرشح له قوله تعالى بعده مباشرة: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}.
أي فلما زاغوا بما آذوا به موسى، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال، وقد آذوه كثيرًا في ذلك كما بينه تعالى في قوله عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55].
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا قالواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 93].
فها هم يؤخذ الميثاق عليهم ويرفع فوقهم الطور، ويقال لهم: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا} فكله يساوي قوله: {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ}، لأن قد هنا للتحقيق، ومع ذلك يؤذونه بقولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ويؤذونه بأن أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم، ولذا قال لهم: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين}.
وقد جمع إيذاء الكفار لرسول الله مع إيذاء قوم موسى لموسى في قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السماء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153] الآية.
ومن مجموع هذا يتبين أن الإيذاء المنصوص عليه هنا هو في خصوص الرسالة، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه، وفي ما جاء به فبرأه الله مما قالوا في آية الأحزاب وعاقبهم على إيذائه فيما أرسل به إليهم بزيغ قلوبهم، والعلم عند الله تعالى.
وقوله: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}، تقدم كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه على هذا المعنى في سورة الروم، عند الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} [الروم: 10] الآية.
وقال: إن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه، وسارق هذه الآية {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} وقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [البقرة: 10] وأحال على سورة بني إسرائيل على قوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وقرأ} [الإسراء: 46].
وعلى سورة الأعراف على قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} [الأعراف: 101].
ومما يشهد لهذا المعنى العام بقياس العكس قوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] وأمثالها.
ومما يلفت النظر هنا إسناد الزيغ للقلوب في قوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}.
وأن والهداية أيضًا للقلب كما في قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] ولذا حرص المؤمنين على هذا الدعاء: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] فتضمن المعنيين، والعلم عند الله تعالى.
{وَإِذْ قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قالوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ يا بني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ}.
قوله تعالى: {وَإِذْ قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ يا بني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَد}.
ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عيسى فذكرها معه، مما دل بمفهومه أنه لم يبشر به إلا عيسى عيه السلام، ولكن لفظ عيسى مفهوم لقب ولا عمل عليه عند الأصوليين، وقد بشرت به صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء، ومنهم موسى عليه السلام ومما يشير إلى أن موسى مبشرًا به قول عيسى عليه السلام في هذه الآية: مصدقًا لما بين يدي، والذي بين يديه هي التوراة أنزلت على موسى.
وقد جاء صريحًا التعريف به صلى الله عليه وسلم وبالذين معه في التوراة في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة} [الفتح: 29] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة} [الفتح: 29].
وجاء وصفهم في الإنجيل في نفس السياق، في قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ} [الفتح: 29] إلى آخر السورة.
وجاء النص في حق جميع الأنبياء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قال أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قال فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
قال ابن كثير: قال ابن عباس ما بعث الله نبيًا غلا أخذ عليه العهد لئن بعث وهو حيي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهمك أحياء ليتبعنه وينصرنه. اهـ.
وجاء مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عنه صلى الله عليه وسلم: فقال: أشهد أن رسول الله وأن الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، وما قاله أيضًا: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. في حديث طويل ساقه ابن كثير، وعزاه إلى أحمد رحمه الله.
وكذلك دعوة نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ} [البقرة: 129].
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي التي رأت»
وقد خص عيسى بالنص على البشرى به صلى الله عليه وسلم أنه آخر أنبياء بني إسرائيل، فهو ناقل تلك البشرى لقومه عما قبله.
كما قال: {مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} ومن قبله ناقل عمن قبله، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام وأداها إلى قومه.
وقوله تعالى: {اسمه أَحْمَدُ} جاء النص أنه صلى الله عليه وسلم له عدة أسماء، وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «أن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب»
بهذه المناسب فقد ذكر صلى الله عليه وسلم باسمه أحمد هنا. وباسمه محمد في سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
كما ذكر صلى الله عليه وسلم بصفات عديدة أجمعها ما يعد ترجمة ذاتية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
وسيأتي المزيد من بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] إن شاء الله تعالى.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}
تقدم بيان ذلك للشيخ رحمة الله تعالى عليه عند قوله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16] في سورة الشورى، وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} [الأنبياء: 18] في سورة الأنبياء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}
فسرت التجارة بقوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11].
التجارة: هي التصرف في رأس المال طلبًا للربح كما قال تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282].
وقال تعالى: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة: 24].
والتجارة هنا فسرت بالإيمان بالله ورسوله، وبذل المال والنفس في سبيل الله، فما هي المعارضة الموجودة في تلك التجارة الهامة، بينها تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفي بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 111]، فهنا مبايعة، وهنا بشرى وهنا فوز عظيم.
وكذلك في هذه الآية: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيب} [الصف: 12- 13].
وقد دل القرآن على أنه من فاتته هذه الصفقة الرابحة فهو لا محالة خاسر، كما في قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].
حقيقة هذه التجارة أن رأس مال الإنسان حياته ومنتهاه مماته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» والعرب تعرف هذا لبيع في المبادلة كما قول الشاعر:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم ** إن شربت الحلم بعدك بالجهل

وقول الآخر:
بدلت بالجمة رأسًا أزعرا ** وبالثنايا الواضحات الدردرا

كما اشبرى المسلم إذ تنصرا

فأطلق الشراء على الاستبدال.
تنبيه:
في هذه الآية الكريمة تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في قوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11].
وفي آية إن الله اشترى من المؤمنين، قدم النفس عن المال فقال: {اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} [التوبة: 111]، وفي ذلك سر لطيف.
أما في آية الصف، فإن المقام مقام تفسير وبيان لمعنى التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله.
وحقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة، والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش. وهو أهم من الجهاد بالسلاح، فبالمال يشترى السلاح، وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية، وبالمال يجهز الجيش، ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم، وأعذر معهم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به كما في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} [التوبة: 91] إلى قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ}
[التوبة: 92].
وكذلك من جانب آخر، قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيًا فقد غزا»
أما الآية الثانية، فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة، فقدم النفس لأنها أعز ما يملك الحي، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب، وأحسن ما قيل في ذلك.
أثامن بالنفس النفيسة ربها ** وليس لها في الخلق كلهم ثمن

بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها ** بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن

لئن ذهبت نفس بدنيا أصيبها ** لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن

فالتجارة هنا معاملة مع الله إيمانًا بالله وبرسوله وجهاد بالمال والنفس، والعمل الصالح، كما قيل أيضًا.
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا ** فإنما الربح والخسران في العمل

وفي آية {إِنَّ اللَّهَ اشترى} [التوبة: 111] تقديم بشرى خفية لطيفة بالنصر لمن جاهد في سبيل الله وهي تقديم قوله: {فَيَقْتُلُونَ} بالبناء للفاعل أي فيقتلون عدوهم {وَيُقْتَلُونَ} بالبناء للمجهول، لأن التقديم هنا يشعر بأنهم يقتلون العدو قبل أن يقتلهم ويصيبون منه قبل أن يصيب منهم، ومثل هذا يكون في موقف القوة والنصر والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ}.
في هذه الآية أيضًا إشعار المسلمين بالنصر في قوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] ولكن لم يبين فيها هل كانوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله أم لا؟
وقد جاء ما يدل على أنهم بالفعل أنصار الله كما تقدم في سورة الحشر في قوله تعالى: {للفقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8].
وكذلك الأنصار في قوله تعالى: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100] وكقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] فأشداء على الكفار هو معنى ينصرون الله ورسوله، ثم جاء المثل المضروب لهم التآزر والتعاون في قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} [الفتح: 29] فسماهم أنصارًا، وبين نصرتهم سواء من المهاجرين والأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والعلم عند الله تعالى. اهـ.