فصل: تعلق العلم بالتقوى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تعلق العلم بالتقوى:

ذهب البعض إلى التلازم بين العلم والتقوى: تلازمًا شرطيًا، بمعنى: أن العلم متعلق بالتقوى، فمتى حدثت التقوى حدث العلم وترتب عليها اعتمادًا على قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله}.
يقول القرطبي:إن الآية وعد من الله بأن من اتقاه علَّمه،أي: يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يُلقى إليه.
ويقول الصابوني: العلم نوعان: كسبي ووهبي.
أما الأول: فيكون تحصيله بالاجتهاد والمثابرة والمذاكرة.
وأما الثاني: فطريقه التقوى، والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} وهذا العلم يسمى العلم اللدني: {وآتيناه من لدنا علما} [الكهف 65]، وهو العلم النافع الذي يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده المتقين، وعليه أشار الإمام الشافعي بقوله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني أن العلم نور ** ونور الله لا يهدى لعاص

لكن الزركشي رحمه الله خالف هذا، فقال وأما قول الله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} فظن بعض الناس أن التقوى سبب التعليم، والمحققون على منع ذلك؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل واتقوا الله يعلمكم الله ولا قال فيعلمكم الله..... وإنما أتى بواو العطف، وليس فيه ما يقتضي أن الأول سبب للثاني، وإنما غايته الاقتران والتلازم، كما يقال: زرني وأزورك، وسلم علينا ونسلم عليك... ونحوه مما يقتضي اقتران الفعلين، والتقارض من الطرفين، كما لو قال عبد لسيده: اعتقني ولك عليّ ألف، أو قالت امرأة لزوجها: طلقني ولك ألف، فإن ذلك بمنزلة قولها: بألف، أو على ألف.
وحينئذ يكون متى علّم الله العلم النافع اقترنت به التقوى بحسب ذلك، ونظير الآية قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
ولا أظن أن هناك خلافًا على العلم اللدني، لقوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65].
فالعلم الوهبي علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة في الأثر: «من علم بما علم ورثّه الله علم ما لم يعلم».
هذا....وإن كان العلم الوهبي لا يختلف عليه أحد إلا أن سياق الآية في شأن تعليم المسلمين الضوابط الحافظة للديون، ولا علاقة لها بالعلم اللدني.
ولعل من أقحم هذا الأمر نظر إلى ورود قوله تعالى: {ويعلمكم الله} عقب قوله تعالى: {واتقوا الله} وهذا بعيد- كما أرى-.
أما جملة: {والله بكل شيء عليم} فقد ختمت بها الآية، وهي مكونة من مبتدأ وخبر، ووضع بينهما الجار والمجرور {بكل شيء} لأن ما سبق كان تعليمًا للمسلمين قواعد، وأصول الضبط، فأحاط المبتدأ والخبر {الله عليم} بكل شيء يتعلق بالديون، وقدم الجار والمجرور على الخبر لأن الآية في شأن التعليم والتوجيه ووضع الضوابط فقدم كل ذلك على الخبر، ولو كان السياق في تمجيد الله تعالى لقيل: والله عليم بكل شيء.
وهذا الختام تذكير للمسلمين بأن ما وضعه الله تعالى من ضوابط إنما جاء من علم محيط بما قد ينشأ في النفوس من ريب عند ترك هذه الضوابط، أو مخالفتها مما يحتم عليهم الأخذ بها والإذعان لكل جزئياتها.

.الفصل الرابع: الإيقاع داخل الآية:

لا شك أن روافد الجمال والبلاغة في اللغة العربية كثيرة، ومن أعلاها: تآلفها الصوتي، وانسجام حروفها وكلماتها وجملها في منظومة تجعل من الكلام وجبة متفاعلة العناصر متآلفة الأجزاء؛ ولذلك كان الشعر ذا مكانة عالية عند العرب؛ لما يفيض به من موسيقي ونغم.
لكن الذي ينبغي الالتفات إليه عند ملاحظة هذه النغمات وتلك التوافقات الموسيقية، هو ملاحظة العلاقة بينها وبين الغرض العام؛ ولذلك يقول أستاذنا محمود توفيق: إن العربية في أي أفق من أفاق البيان بها هي لغة الإيقاع المتجدد. والنغم في اللغة ينبعث من عدة مصادر.. ويجمعها طريقان:
الأول: النغم الصوتي.
والآخر: النغم المعنوي.
ففي النغم الصوتي: تأتيك الموسيقي من خلال أصوات الحروف والحركات داخل الكلمة، ومن اختيار الكلمات واصطفاء موقعها داخل الجملة، كما يأتي من حجم الكلمة والختام بها في الفاصلة.
أما النغم المعنوي: فيأتي من التقابل، والتناظر، والتوازن، والتكافؤ، ورد العجز على الصدر، ومراعاة النظير....... إلى آخر ذلك من علاقات المعاني، ويجمع كل ذلك الانسجام.
والآن فلنحاول أن نرهف السمع إلى ما يبدو من تلك النغمات.
إن البداية تبدو في حجم الجملة داخل الآية، فالجملة العربية وحدة صوتية كبيرة، لها ما يميزها من إيقاع نغمي، وطول هذه النغمة أو قصرها لا شك له دلالته، أو ينبغي أن يكون له دلالته.
ومجموع الجمل في الآية ثلاثٌ وعشرون جملة.
أربع منها طويلة ممتدة، وإحدى عشرة جملة متوسطة الطول، وثماني جمل قصيرة.
وعليه، فالكثرة الكاثرة للجمل المتوسطة والقصيرة، من نحو {فليكتب}، {وليملل الذي عليه الحق} {وليتق الله ربه}.
وهي نغمات تشعرك بالحدة، والحسم، وسرعة اللهجة وعلو الصوت، وكأنها أمور لا تحتمل النقاش أو التأجيل، أو النظر، وهذا يصب في دائرة الإلزام بالكتابة، فالقضية متعلقة بالحقوق من جهة، وبوحدة الصف من جهة أخرى، وهذه قضايا لا تهاون فيها، لذا كانت النبرة عالية وسريعة.
أما من حيث الحروف:
فإن الحروف الثلاثة الكاف، والتاء، والباء في لفظ كتب هي النغمة الشائعة في الآية.
واسمع إلى ذلك:
{فاكتبوه} {وليكتب} {كاتب} {كاتب} {يكتب} {فليكتب} {تكتبوه} {تكتبوها} {كاتب} فهي نغمة لا تكاد تنقطع عن الأذن، ولا ينفك القارئ منها حتى ينتهي من الآية، وهي نغمة موزعة في جنبات الآية من أولها إلى آخرها؛ فلا يكاد القارئ يسمعها إلا وتعاوده مرة أخرى؛ لتشيع هذا الجو من الحفظ، والضمان الموجود في دلالتها.
ودلالة هذه الكلمة في اللغة تفيد جمع الشيء إلى الشيء.
فإذا جمع كل ذلك من النغمات التي ختمت بها الجمل والفواصل لَتَبيَّن ما في الآية من دقَّات عالية الصوت، وكأنها دقات إنذار وتحذير عالي اللهجة من خوض هذا المعترك الخطر، أعني: معترك الديون، ولنسمع سويًا إلى ختام هذه النغمات، أو الجمل والحظ معي آخر كل جملة وخلوها من الامتداد الصوتي أو كما يقول الموسيقيون: القفلات الحادة، لنسمع:
{وليكتب بينكم كاتب بالعدل}.
{فليكتب وليملل الذي عليه الحق}.
{وليتق الله ربه}.
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم}.
{ذلكم أقسط عند الله}.
{وأقوم للشهادة}.
{وأشهدوا إذا تبايعتم}.
{وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم}.
{واتقوا الله}.
{ويعلمكم الله}.
إن هذه النهايات المبنية على كلمات خالية من المد تُشعر بهذا الحزم، والحسم، والقطع؛ لأن الشائع في القرآن الكريم ختمُ الآيات والجمل بكلمة فيها حرف مد في الآخر، أو قبل الآخر نحو: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى1- 2] أو نحو: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون1- 2].
وهذا الامتداد الصوتي له وقع نغمي ممتد، وكل نغمة تناسب الغرض الذي سيقت من أجله، لكن الذي عليه الحال هنا- في آية الدين- يختلف، وقد لاحظتَ هذا في نحو: {بالعدل} {الحق} {رجالكم} {أجله} {ربه} {تبايعتم} {بكم} تلك بعض نهايات الجمل داخل الآية، وهي بلا شك تتوافق مع غرضها العام الداعي إلى ضمان الحقوق، وحفظها، وأخذ المواثيق عليها، وتوعُّد المخالف.
كما أن من روافد النغم في الآية هذه التقابلات بين الألفاظ والجمل.
ففي الألفاظ يُلحظ الطباق بين رجل وامرأتان، وإحداهما والأخرى، وصغيرًا أو كبيرًا، وكذا بين أن تضل- وتُذكر، وفي المقابلة تلحظ أيضًا هذه النماذج:
مثل المقابلة بين جملتي: {لا يستطيع أن يُمل هو} و{فليملل الذي عليه الحق}، وبين جملتي {أن تضل إحداهما} و{فتذكر إحداهما الأخرى}، وبين جملتي {يأبى الشهداء} و{إذا ما دعوا} وبين جملتي: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} و{إن تفعلوا}. حيث يفهم منها المضارة.
وهذه التقابلات بين الجمل والمفردات تعمق المعاني المسكوت عنها في الآية؛ فالآية تضع ضوابط لمنع الخلاف بين المسلمين، وهذا يعني أن النفوس على شفا هذه الهاوية؛ فهي إذًا في وضع متقابل، أو تكاد، ومن ثم جيء بالمعاني لتصور هذا الوضع القائم بين الأطراف، ولترسم طبيعته المضادة في شأن الأموال، والتي من أجلها جاءت الآية لتطمئن، ولتضع الروابط بين هذه المتنافرات؛ حتى لا يؤدي التعامل بالديون إلى المحذور، وهو الخلاف والشقاق. كما أن من روافد النغم في الآية مراعاة النظير:
حيث جمع مع الكلمة الأم- وهي كلمة الكتابة جُمعَ معها بعض الألفاظ التي تمُتُّ بالصلة إلى أسرتها الدلالية؛ وذلك نحو: {علمه} {يملل} {تضل} {تذكر} {أقْوَم} {يعلمكم} {عليم}.
فكل هذه كلمات ذات وشائج، وروابط لا تخفى، وهذا يعني أن أسرة كلمة الكتابة جاءت لتضيف إلى المعنى المفهوم منها قوة وتأصيلًا؛ إذ ليس التوثيق عارضًا، أو ثانويًا، بل هو هدف حُشدت له الألفاظ والتراكيب والصور.

.الفصل الخامس: إعادة التركيب:

بعد هذا التحليل، وبعد الوقوف أمام العناصر بأشكالها المختلفة؛ من كلمات وجمل، وتراكيب، وصور، وعلاقة كل ذلك بالغرض العام، والسياق الكلي، والجزئي، وبعد رؤية النص من خلال السورة، وموقعه، وعلاقاته المتشابكة، ونغماته، وربط كل ذلك بغرض الآية الكلي.
بعد كل هذا يبقى إعادة جمع هذه العناصر من منظور آخر؛ ليكتمل المنهج الكلي.
وذلك بالنظر إلى الأسلوب الذي بنيت عليه هذه الآية: أعني الأسلوب الأعلى، والأكثر شيوعًا، والذي هو عمود الآية ومحورها، ثم النظر إلى علاقات الأساليب الأخرى به، وكيف انعطفت عليه انعطاف الفرع على الأصل، وكيف دارت في فلكه، وتجمعت حوله؟
والذي لا يخفى بعد التحليل أن الأسلوب المهيمن على الآية هو: الأمر بالكتابة.
فهو عمود الآية، وقطب رحاها، ومحور بنيانها؛ فإنك تلحظه صريحًا ومفهومًا.
فهو مثلًا صريح في نحو:
{إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}.
{وليكتب بينكم كاتب بالعدل}.
{ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله}.
{فليكتب}.
{ولا تسأموا أن تكتبوه}.
{فليس عليكم جناح ألا تكتبوها}.
وهو مفهوم في نحو:
{وليملل الذي عليه الحق}؛ لأن الإملال للكتابة.
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم}؛ أي: على المكتوب.
{ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}؛ أي: إلى توثيق الكتابة...... وغير ذلك كثير.
أما الأساليب وعلاقاتها بأسلوب الأمر بالكتابة فتتضح فيما يلي:
1- بين النداء والأمر: {يا أيها الذين آمنوا} {فاكتبوه}.
فعلاقة الأمر بالنداء جد وثيقة؛ إذ إن الأمر بعد النداء من مظاهر العظمة، كما قال الإمام في آية: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44].
يقول: ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت.
ذلك لأن النداء توطئة للأمر، وفتح للعقول، حتى تستقبله استقبال المتوثب للامتثال، فهو في الأصل تنبيه:
2- بين الشرط والأمر:
وكلاهما قيد ولكن الملاحظ أن أسلوب الشرط في الآية قد اقترن بأسلوب الأمر في أكثر من موضع نحو: {إذا تداينتم} {فاكتبوه} ونحو: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا} {فليملل}.
ونحو: {وأشهدوا إذا تبايعتم}.
وكأن هناك صلة رحم بين كل منهما، وامتزاج؛ مما أباح تقديم كل منهما على الآخر، مع أن الأصل تقدم الشرط.
3- بين الأسلوب الخبري والأمر:
تكاد تكون أساليب الخبر في الآية استرواحًا بعد الأوامر، أو استنهاضًا للهمم، لِتُواصل سماع التكاليف من جديد، بعد الأوامر في: {واستشهدوا}.
والأمر المفهوم من النهي في: {ولا تسأموا أن تكتبوه} حيث قيل: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا}.
فكأن الإخبار بذلك لقبول الأمر أيضًا.
4- بين الأمر والنهي:
إن أسلوب النهي هو الوجه الآخر لأسلوب الأمر- غالبًا-؛ فالنهي عن شيء أمرٌ بضده، أو العكس في الغالب؛ فقوله: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} نهيٌ أريد به الأمر؛ أي: فليكتب كما علمه الله.
والنهي في قوله: {ولا يبخس منه شيئًا} أمرٌ بالوفاء، كانه قيل له: لتكتبه كاملًا.
والنهي في قوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} أمرٌ بتلبية الدعوة؛ كأنه قيل: وليلبِّ الشهداء الدعوة.
والنهي في قوله: {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد} أمرٌ بضده، والمعنى: أحسنوا إلى الكاتب والشهيد... وهكذا.
ومن هنا تتبين علاقة الأساليب بأسلوب الأمر، وأنها تتصل به من خلال السياق اتصالًا وثيقًا؛ لتكوّن في الختام منظومةً واحدة دافعة إلى اتجاه واحد وهو حفظ الحقوق، وإغلاق أبواب الشقاق قبل أن تفتح.