فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة أشارت إلى الأميين الذين يتعالى عليهم اليهود، الّذين رأوا فيما أنزل اللّه عليهم من كتب، وبما بعث فيهم من رسل- أنهم قد اختصّوا بفضل اللّه، من دون الناس جميعا، وقد جاءت الآيات لتبطل زعمهم هذا، فقد بعث اللّه في الأميين رسولا، وأنزل عليه كتابا يتلوه عليهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم إنه سبحانه، لم يجعل هذا الفضل، وتلك الرحمة إلى العرب وحدهم، بل جعل ذلك للأميين جميعا من العرب وغير العرب- ثم جاء قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ} الآية- جاء مخزيا اليهود، ومبطلا ادعاءهم، بأنهم قد استأثروا بفضل اللّه.. ونعم، إن اللّه قد ساق إليهم فضلا، وأنزل إليهم التوراة فيها هدى ونور.. ولكن ليس كلّ من كانت بين يديه نعمة، مستفيدا منها، بل إنه كثيرا ما تكون النعمة نقمه حين لا تجد من يحفظها، ويرعاها حقّ رعايتها..
إنها تكون حينئذ أشبه بالغيث يقع على الأرض السبخة فلا تستجيب له، ولا تتفاعل معه، وسرعان ما يفسد، ويتحول إلى ماء آسن، ينبث في أحشائها الهوامّ والديدان..
وهؤلاء اليهود، قد حمّلوا التوراة، وكلّفوا العمل بها، ولكنهم لم يحسنوا العمل، بل اختلفوا فيها، وتأولوها تأويلا فاسدا.. فكان مثلهم في هذا كمثل الحمار، يحمل كتبا، تثقل ظهره، وتصبح علة ملتصقة به، دون أن يفيد منها شيئا..
وفي تشبيه اليهود- حملة التوراة- بالحمار الذي يحمل أسفارا، ما يكشف عن طباع هؤلاء القوم، وعن بلادة حسّهم، وعن قبولهم الهوان والذلّة، وأنهم في هذه الدنيا أشبه بالحمر، يسخرها الناس للحمل والركوب.. فالحمار من بين حيوانات الركوب جميعا، أكثرها هوانا على الناس، وأخسّها مطية للركوب..
لا يتخذه كرام الناس مركبا لهم.. وفي هذا يقول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به ** إلّا الأذلّان عير الحىّ والوتد

هذا الخسف مربوط برمّته ** وذا يشجّ فلا يرثى له أحد

ولا يفترنّ أحد بما يبدو في ظاهر الأمر من أحوال اليهود، ومن ظهور بعض العلماء فيهم، ومن تمكنهم من كثير من المرافق العاملة في الحياة فهذا كلّه ثمن للهوان الذي استساغوا طعامه، تماما كما يزيّن بعض الحمير أحيانا بألوان من الزينة، بما يصطنع له من سرج القطيفة، ولجم الفضة، فلا يرفع ذلك من قدره، ولا يخرجه من بني جنسه.. فهو {الحمار} أيّا كانت الحلية التي يتحلّى بها..
وإنه لو وضع أعلم اليهود، علمه تحت نظر فاحص دارس، لما رأى منه الناظر إليه إلّا غباء وجهلا، وإن هذا العلم مهما بلغ لا يعدو أن يكون ثوبا اختطفه، أو سرقه، أو ألقى به عليه غيره، ممن لا يريد أن يظهر في الناس بهذا العلم، الذي كثيرا ما يكون منحرفا، مصادما للعقائد، والأخلاق.
وقوله تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ}- أي بئس هذا المثل، وهو الحمار، مثلا لهؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات اللّه.
وقد وقع الذّمّ على المثل، ولم يقع على المماثل، وفي هذا مبالغة في الذمّ للماثل، لأن الذي وقع عليه الذم إنما استحق الذّم في هذا المقام بسبب من مثل به.. فكأن هذا الشيء المذموم لم يكن مذموما حتى اقترن بهذا الممثّل به، فأصابه منه هذا البلاء الذي استوجب ذمّه.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}- إشارة إلى أن هؤلاء القوم إنما تخبطوا في الضلال، وعموا عن الانتفاع بما في التوراة التي يحملونها، لأنهم كانوا ظالمين، معتدّين حدود اللّه، فتركهم اللّه في ظلمات يعمهون.
قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}..
الذين هادوا، هم اليهود، وأصله من الهود، وهو الرجوع برفق، وسمى اليهود يهودا، لأنهم رجعوا إلى اللّه تائبين، بعد أن عبدوا العجل، كما جاء في في قوله تعالى على لسان موسى {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ} [156: الأعراف]..
ثم لزمهم هذا الاسم، ولعنهم اللّه وهم معروفون به..
فالخطاب في الآية الكريمة موجّه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، بأمر ربه، ليقول لهم: إن صحّ ما زعمتموه، من أنكم أولياء للّه من دون الناس، وأن اللّه سبحانه وتعالى قد اختصكم بالفضل والإحسان، حتى لقد قلتم إنكم أبناء اللّه وأحباؤه- إن صحّ زعمكم هذا، فتمنّوا الموت واطلبوه، إن كنتم صادقين فيما تزعمون.. فإن هذا الموت سيصير بكم إلى اللّه الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأبناؤه وأحباؤه.. والولي إنما يشتاق إلى لقاء وليّه، والابن إنما يسعى إلى لقاء أبيه، والحبيب إنما يشوقه لقاء من أحب.. فلم لا تتمنون الموت، ولا تطلبونه، وهو السبب الذي يصلكم اتصالا مباشرا باللّه، الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأحباؤه من دون الناس! إن هذا ادعاء كاذب منكم، ونفاق تنافقون به أنفسكم، إذ لو كنتم مؤمنين بما تزعمون، لما فزعتم من الموت، ولما حرصتم على الحياة هذا الحرص الذي جعل منكم أجبن الناس، وأشدهم فرارا من لقاء العدو..
وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [96: البقرة]..
وهذا لا يكون إلا من إنسان يرى الموت نهاية لوجوده، أو يرى أن وراء الموت أهوالا تنتظره، بما قدمت يداه من آثام..
قوله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
هو بيان للعلّة التي من أجلها يحرص اليهود على الحياة، ويفزعون من الموت، وأنهم لا يتمنون الموت أبدا، لما يعلمون من أنفسهم أنهم على ضلال، وأنهم لن يجدوا في الآخرة إلا البلاء والهوان.. شأنهم في هذا شأن إبليس الذي يعلم أن مصيره إلى عذاب اللّه، وأنه إنما سأل اللّه أن ينظره، وأن يؤخر عنه العذاب الذي توعده به، فرارا من هذا العذاب، ودفعا له من يومه إلى غده.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
أي أن هذا الموت الذي تحذرونه، وتفرون من ملاقاته، هو ملاقيكم حتما، ولن تفروا منه أبدا.. ثم إنّ وراء هذا الموت رجعة إلى اللّه، وحسابا، وعقابا، وسترون أعمالكم المنكرة حاضرة بين أيديكم، وسينزل بكم العذاب الذي أنتم أهل له.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قومًا أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاففٍ في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين.
وقد ضرب الله لهؤلاء مثلًا بحال حمار يحمل أسفارًا لا حظّ له منها إلا الحَمل دون علم ولا فهم.
ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطًَا بأخطاء وضلالات ومتبعًا فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها.
وقال في (الكشاف) عن بعضهم: افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب.
والعرب لا كتاب لهم.
فأبطل الله ذلك بشَبَههم بالحمار يحمل أسفارًا.
ومعنى {حملوا}: عُهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا، يقال: حَمَّلت فلانًا أمر كذا فاحتمله، قال تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} سورة [الأحزاب: 72].
وإطلاق الحمل وما تصرف منه على هذا المعنى استعارة، بتشبيه إيكال الأمر بحمل الحِمل على ظهر الدابة، وبذلك كان تمثيل حالهم بحال الحمار يحمل أسفارًا تمثيلًا للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي.
وهو من لطائف القرآن.
و{ثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عُهد إليهم أعجب من تحملهم إياه.
وجملة {يحمل أسفارًا} في موضع الحال من الحمار أو في موضع الصفة لأن تعريف الحمار هنا تعريف جنس فهو معرفة لفظًا نكرة معنى، فصحّ في الجملة اعتبار الحاليَّة والوصف.
وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف، ولذلك ذيل بذم حالهم {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله}.
و {بئس} فعل ذم، أي ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيبًا بآيات الله وهي القرآن.
و {مثل القوم}، فاعل {بئس}.
وأغنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو حَال القوم المكذبين فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإِبهام على شرط التفسير لأنه قد سبقه ما بينه بالمثَل المذكور قبله في قوله: {كمثل الحمار يحمل أسفارًا}.
فصار إعادة لفظ المثل ثقيلًا في الكلام أكثر من ثلاث مرات.
وهذا من تفننات القرآن.
و {الذين كذبوا} صفة {القوم}.
وجملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تذييل إخبارًا عنهم بأن سوء حالهم لا يرجى لهم منه انفكاك لأن الله حرمهم اللطف والعناية بإنقاذهم لظلمهم بالاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب دون نظر، وعلى آيات الله بالجحد دون تدبر.
قال في (الكشاف): وعن بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث، أي آيات من هذه السورة: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [الجمعة: 6].
وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارًا، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)}
أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالًا لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم.
وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شؤونهم أفضل من شؤون غيرهم.
ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا، وفي (الكشاف) افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
وافتتح بفعل {قل} للاهتمام.
و {الذين هادوا}: هم الذين كانوا يهودًا، وتقدم وجه تسمية اليهود يهودًا عند قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا} في سورة [البقرة: 62].
ويجوز أن يكون {هادوا} بمعنى تابوا لقول موسى عليه السلام بعد أن أخذتهم الرجفة: {إنا هدنا إليك} كما تقدم في سورة [الأعراف: 156].
وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد.
وأصل هود هُوُود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علمًا بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم.
وجيء بـ: {إن} الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة [العقود: 18]: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} للإِشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلًا بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعًا على طريقة قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين} [الزخرف: 5] ويفيد ذلك توبيخًا بطريق الكناية.
والمعنى: إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت.
وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه.
والأمر في قوله: {فتمنوا} مستعمل في التعجيز: كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93].
ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموْت رجوع الإِنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضا الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله.
والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تُحَصِّلُ أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما، واختلاف أحوال أهلهما، فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس.
وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} [المائدة: 18].
وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من النهي عن تمني الموت.
وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كَره لقاء الله كره الله لقاءه»، فقالت عائشة: «إنا نكره الموت فقال لها ليس ذلك» الحديث.
وما روي عنه أنه قال: «أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» إلى قوله: «قال موسى فالآن».
ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله، وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم اليهود.
فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذٍ، وهم عامة غلبت عليهم الأوقام والغرور بعد انقراض علمائهم، فهو حكاية عن مجموع قوم، وأما الأَخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معيّنة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء.
فعلى الأول يحمل حال عُمَير بن الحُمَام في قوله:
جَرْيًا إلى الله بغير زاد

وحال جعفر بن أبي طالب يوم مُوتَةَ وقد اقتحم صَفّ المشركين:
يَا حَبَّذا الجنةُ واقترابها

وقول عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمان مغفرة ** وضربة ذات فَرْغٍ تقذف الزبدا

المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونة الجزاء الأحسن والمغفرة التامة.
وعلى الثاني يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في تأويل قوله: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» إن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله فليس شيء أحبَّ إليه مما أمَامَه فأحَب لقاء الله.
وقول موسى عليه السلام لملَك الموت: فالآن.
{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)}
اعتراض بين جملتي القولين قصد به تحديهم لإِقامة الحجة عليهم أنهم ليسوا أولياء لله.
وليس المقصود من هذا معذرة لهم من عدم تمنيهم الموت وإنما المقصود زيادة الكشف عن بطلان قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] وإثبات أنهم في شك من ذلك كما دل عليه استدلال القرآن عليهم بتحققهم أن الله يعذبهم بذنوبهم في قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم}
وقد مرّ ذلك في تفسير سورة العقود (18).
(والباء في بما قدمت أيديهم) سببية متعلقة بفعل {يتمنونه} المنفي فما قدمت أيديهم هو سَبب انتفاء تمنيهم الموت ألقى في نفوسهم الخوف مما قدمت أيديهم فكان سبب صرفهم عن تمنّي الموت لتقدم الحجة عليهم.
و(ما) موصولة وعائدة الصلة محذوف وحذفه أغلبي في أمثاله.
والأيدي مجاز في اكتساب الأعمال لأن اليد يلزمها الاكتساب غالبًا.
وَمَصْدَقُ {ما قدمت أيديهم} سيئاتهم ومعاصيهم بقرينة المقام.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة وما ذكرتُه هنا أتم مما هنالك فاجمع بينهما.
والتقديم: أصله جعل الشيء مقدَّمًا، أي سابقًا غيرَه في مكان يقعوه فيه غيره.
واستعير هنا لما سلف من العمل تشبيهًا له بشيء يسبِّقه المرء إلى مكان قبل وصوله إليه.
وجملة {والله عليم بالظالمين}، أي عليم بأحوالهم وبأحوال أمثالهم من الظالمين فشمل لفظ الظالمين اليهود فإنهم من الظالمين.
وقد تقدم معنى ظلمهم في الآية قبلها.
وقد وصف اليهود بالظالمين في آيات كثيرة، وتقدم عند قوله تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} [البقرة: 140] والمقصود أن إحجامهم عن تمنّي الموت لما في نفوسهم من خوف العقاب على ما فعلوه في الدنيا، فكني بعلم الله بأحوالهم عن عدم انفلاتهم من الجزاء عليها ففي هذا وعيد لهم.
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}
تصريح بما اقتضاه التذييل من الوعيد وعدم الانفلات من الجزاء عن أعمالهم ولو بَعُد زمان وقوعها لأن طول الزمان لا يؤثر في علم الله نسيانًا، إذ هو عالم الغيب والشهادة.
وموقع هذه الجملة موقع بدل الاشتمال من جملة {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [الجمعة: 6]، وإعادة فعل {قل} من قبيل إعادة العامل في المبدل منه كقوله تعالى: {تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا} في سورة [العقود: 114].
ووصف {الموت} بـ: {الذي تفرون منه} للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ كقول علقمة:
إن الذين ترونهم إخوانكم ** يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا

وأطلق الفرار على شدة الحذر على وجه الاستعارة.
واقتران خبر (إن) بالفاء في قوله: {فإنه ملاقيكم} لأن اسم (إن) نُعِت باسم الموصول والموصول كثيرًا ما يعامل معاملة الشرط فعومل اسم (إن) المنعوت بالموصول معاملة نعته.
وإعادة {إِنّ} الأولى لزيادة التأكيد كقول جرير:
إن الخليفةَ إن الله سربله ** سِربال مُلْككٍ به تُزْجى الخَواتِيم

وتقدم عند قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا} في سورة [الكهف: 30]. وفي سورة الحج أيضًا.
والإِنباء بما كانوا يعملون كناية عن الحساب عليه، وهو تعريض بالوعيد. اهـ.