فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

قوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} أي: وقع النداء لها، والمراد به: الأذان إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، وقوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} بيان لإذا وتفسير لها.
وقال أبو البقاء: إن (من) بمعنى: في، كما في قوله: {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر 40] أي: في الأرض.
قرأ الجمهور: {الجمعة} بضم الميم، وقرأ عبد الله بن الزبير، والأعمش بإسكانها تخفيفًا، وهما لغتان، وجمعها جمع وجمعات.
قال الفراء: يقال: الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها.
وهي صفة لليوم، أي: يوم يجمع الناس.
قال الفراء أيضًا، وأبو عبيد: والتخفيف أخفّ وأقيس، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وحجرة وحجر، وفتح الميم لغة عقيل.
وقيل: إنما سميت جمعة؛ لأن الله جمع فيها خلق آدم، وقيل: لأن الله فرغ فيها من خلق كلّ شيء، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات، وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} قال عطاء: يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة.
وقال الفراء: المضيّ والسعي والذهاب في معنى واحد، ويدلّ على ذلك قراءة عمر بن الخطاب، وابن مسعود: {فامضوا إلى ذكر الله}. وقيل: المراد القصد.
قال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه قصد بالقلوب والنيات، وقيل: هو العمل كقوله: {ومَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19] وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] وقوله: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، ومنه قول زهير:
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم

وقال أيضًا:
سعى ساعيًا غيظ بن مرة بعد ما ** تنزل ما بين العشيرة بالدم

أي: فاعملوا على المضيّ إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه، ويؤيد هذا القول قول الشاعر:
أسعى على جل بني مالك ** كلّ امرئ في شأنه ساعي

{وَذَرُواْ البيع} أي: اتركوا المعاملة به، ويلحق به سائر المعاملات.
قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحلّ الشراء والبيع، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى السعي إلى ذكر الله، وترك البيع، وهو مبتدأ، وخبره {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: خير لكم من فعل البيع، وترك السعي لما في الامتثال من الأجر والجزاء.
وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجبًا للعقوبة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن كنتم من أهل العلم، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي: إذا فعلتم الصلاة وأدّيتموها وفرغتم منها {فانتشروا في الأرض} للتجارة والتصرّف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي: من رزقه الذي يتفضل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب، وقيل: المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر بعمل الطاعات، واجتناب ما لا يحلّ {واذكروا الله كَثِيرًا} أي ذكرًا كثيرًا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيويّ، وكذا اذكروه بما يقرّبكم إليه من الأذكار، كالحمد، والتسبيح، والتكبير، والاستغفار، ونحو ذلك {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به.
{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلاّ اثنا عشر رجلًا في المسجد.
ومعنى {انفضوا إِلَيْهَا}: تفرّقوا خارجين إليها.
وقال المبرد: مالوا إليها، والضمير للتجارة، وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو؛ لأنها كانت أهمّ عندهم، وقيل التقدير: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوًا انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأوّل عليه، كما في قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راضٍ والرأي مختلف

وقيل: إنه اقتصر على ضمير التجارة؛ لأن الانفضاض إليها إذا كان مذمومًا مع الحاجة إليها، فكيف بالانفضاض إلى اللهو، وقيل: غير ذلك {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} أي: على المنبر: ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال: {قُلْ مَا عِندَ الله} يعني: من الجزاء العظيم وهو الجنة {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد، وسماع خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجلها {والله خَيْرُ الرازقين} فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه.
وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله لأيّ شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: «لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم، وفيه الصعقة والبعثة، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له» وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري ما يوم الجمعة»؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: «هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم أفلا أحدّثكم عن يوم الجمعة»، الحديث.
وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلاّ في يوم الجمعة».
وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم، وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها، وفي الساعة التي فيها، وأنه يستجاب الدعاء فيها، وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن خرشة بن الحرّ قال: رأى معي عمر بن الخطاب لوحًا مكتوبًا فيه {إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فقال: من أملى عليك هذا؟ قلت أبيّ بن كعب، قال: إن أبيًا أقرأنا للمنسوخ اقرأها: {فامضوا إلى ذكر الله} وروى هؤلاء ما عدا أبا عبيد عن ابن عمر قال: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلاّ: {فامضوا إلى ذكر الله} وأخرجه عنه أيضًا الشافعي في الأمّ، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
وأخرجوا كلهم أيضًا عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: {فامضوا إلى ذكر الله} قال: ولو كان {فاسعوا} لسعيت حتى يسقط ردائي.
وأخرج عبد بن حميد عن أبيّ بن كعب أنه قرأ كذلك.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} قال: فامضوا.
وأخرج عبد بن حميد عنه أن السعي: العمل، وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب: أن رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فيدعونه ويقومون، فنزلت الآية: {وَذَرُواْ البيع} فحرم عليهم ما كان قبل ذلك.
وأخرج ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} قال: «ليس لطلب دنيا، ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: لم تؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو: عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائمًا إذ قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلًا، أنا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} إلى آخر السورة.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال: جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام، فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلًا وسبع نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارًا» وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى عن جماعة من الصحابة وغيرهم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
مناسبة هذة الآية لما قبلها، هي أن السورة قد بدأت بذكر هذه النعمة العظيمة التي أنعم اللّه بها على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آيات اللّه، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وهذه النعمة العظيمة لا تثمر الثمر الطيب الذي تحمله إلا إذا صادفت من يرعاها، ويعرف قدرها، وإلّا انقلبت هذه النعمة نقمة على أهلها، فحوسبوا على تضييعها، ووقعوا تحت طائلة العقاب الأليم، كما وقع ذلك لليهود الذي حمّلوا التوراة، ثم لم يحملوها، فكان مثلهم مثل الحمار يحمل أسفارا، وقد أوعدهم اللّه سبحانه بما توّعد به الظالمين- فناسب أن يجيء بعد هذا، أن ينبّه المسلمون إلى ما ينبغى أن يكون منهم لرعاية هذه النعمة التي أنعم اللّه بها عليهم، وكان أول ما نبهوا إليه، هو الصّلاة، إذ كانت الصلاة عماد الدين، وكانت الركن الأول من أركانه، بعد الإيمان باللّه.. وإذ كانت صلاة الجمعة أظهر صلاة في أيام الأسبوع، لأنها الصلاة الجامعة، التي لا تصحّ إلا في جماعة- فقد كان الإلفات إليها إلفاتا إلى الصلوات المفروضة كلّها.
وقوله تعالى: {إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} أي إذا جاء وقتها، وأذّن المؤذن بها.
وقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} أي بادروا وأسرعوا إلى ذكر اللّه، أي الصلاة، لأنها تذكّر باللّه، وتصل العبد بربه.. ومن ذكر اللّه في صلاة الجمعة، {الخطبة} وما فيها من عظات تذكر باللّه.
وقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي اتركوا البيع، والشراء، وكلّ ما يشغلكم من عمل.. حتى تفرغوا للصلاة، جسدا، وروحا.
وقوله تعالى: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الإشارة إلى السعى للصلاة، وترك كل ما بين يدى الإنسان من عمل.. فذلك السعى خير من كلّ ما كان يحصّله الإنسان من عمله الذي بين يديه، وذلك مما لا يعلمه، ويعلم قدره إلا أهل العلم، من المؤمنين، المستيقنين من واسع الفضل، وعظيم الإحسان، عند اللّه..
قوله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
هو دعوة إلى العمل، وإلى السعى إليه، كما سعى المؤمنون إلى الصلاة.. فالسعى إلى العمل، أداء لحقّ النفس، وحقّ الأهل والولد، كما أن السعى إلى الصلاة أداء لحق اللّه سبحانه وتعالى، وكلا الحقّين واجب الأداء، فمن قصّر في أحدهما، حوسب عليه حساب المقصّرين.
وفي قوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} دعوة إلى أن يملأ المسلمون وجوه الأرض، سعيا وعملا، وأن يأخذوا بكلّ ما يمكّن لهم منها، ويقيم لهم فيها المقام الكريم، وألا يقصروا جهدهم على جانب منها،
أو في ميدان من ميادينها، بل ينبغى أن يكون لهم في كل ميدان مجال، وفي كل موقع عمل..
وفي الدعوة إلى الانتشار في الأرض بعد الاجتماع بين يدى اللّه في الصلاة- في هذا جمع بين العبادة والعمل، وبين ذكر اللّه والسعى في الأرض.. فقد جاءت الدعوة من اللّه سبحانه لصلاة الجمعة، موجهة إلى من هم مشغولون بالعمل، ساعون لطلب الرزق، وإن كانت الدعوة عامة إلى كل من تجب عليه صلاة الجمعة.. ثم جاء الأمر إلى هؤلاء الذين حضروا الصلاة- أن ينتشروا في الأرض، ويبتغوا من فضل اللّه، بعد أن تزودوا بهذا الزاد الطيب من ذكر اللّه، وبذلك يستقيم لهم الطريق، وتفتح لهم أبواب الرزق الطيب المبارك.
وفي قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}- إشارة إلى هؤلاء المنطلقين للعمل، الساعين إلى الابتغاء من فضل اللّه، أن يذكروا اللّه دائما، وأن يستحضروا جلاله وعظمته، في كل حال، لا في وقت الصلاة.. فـ:في ذلك فلاح أي فلاح، حيث يجد الذاكر للّه سبحانه وتعالى، حارسا يحرسه من وساوس الشيطان، وأهواء النفس، فلا يتعثر، ولا ينحرف، ولا يزلّ.
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
اللهو: ما يشغل الإنسان من هزل الأمور عن جدّها.. والانفضاض: التفرّق في عجلة، وفي غير نظام. اهـ.