فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

سورة الجمعة:
قوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين} يعني: العرب، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في [البقرة: 78] {رسولًا} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {منهم} أي: من جنسهم ونسبهم.
فإن قيل: فما وجه الامتنان في أنه بعث نبيًا أميًا؟
فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: لموافقة ما تقدَّمت البشارة به في كتب الأنبياء.
والثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب لموافقتهم.
والثالث: لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله.
وما بعد هذا في سورة [البقرة: 129].
إلى قوله تعالى: {وإن كانوا من قَبْلُ}، أي: وما كانوا قبل بعثته إلا في {ضلال مبين} بَيِّن، وهو الشرك.
قوله تعالى: {وآخرين منهم} فيه قولان:
أحدهما: وبعث محمدًا في آخرين منهم، أي: من الأميين.
والثاني: ويعلم آخرين منهم، ويزكِّيهم.
وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال:
أحدها: أنهم العجم، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبير، وهي رواية ليث عن مجاهد.
فعلى هذا إِنما قال: (منهم)، لأنهم إِذا أسلموا صاروا منهم، إذ المسلمون يد واحدة، وملَّةٌ واحدة.
والثاني: أنهم التابعون، قاله عكرمة، ومقاتل.
والثالث: جميع من دخل في الإسلام إِلى يوم القيامة، قاله ابن زيد، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والرابع: أنهم الأطفال، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {لما يلحقوا بهم} أي: لم يلحقوا بهم.
قوله تعالى: {ذلك فضل الله} يعني: الإسلام والهدى {والله ذو الفضل العظيم} بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلًا، فقال تعالى: {مثل الذين حُمِّلوا التوراة} أي: كُلِّفوا العمل بما فيها {ثم لم يحملوها} أي: لم يعملوا بموجبها، ولم يؤدُّوا حقها {كمثل الحمار يحمل أسفارًا}، وهي جمع سفر.
والسِّفْر: الكتاب، فشبَّههم بالحمار لا يعقل ما يحمل، إذ لم ينتفعوا بما في التوارة، وهي دالَّة على الإيمان بمحمدٍ وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه {بئس مثل القوم} ذم مثلهم، والمراد ذمُّهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد {والله لا يهدي القوم الظالمين} أنفسهم بتكذيب الأنبياء.
قوله تعالى: {إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله} وذلك أن اليهود، قالوا: نحن ولد إسرائيل الله، ابن ذبيح الله، ابن خليل الله، ونحن أولى بالله عز وجل من سائر الناس، وإِنما تكون النبوة فينا.
فقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام {قل} لهم إن كنتم {أولياء لله فتمنَّوا الموت} لأن الموت خير لأولياء الله من الدنيا.
وقد بيَّنا هذا وما بعده في [البقرة: 94] إلى قوله تعالى: {قل إِن الموت الذي تفرُّون منه} وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمدًا، وكانوا يكرهون الموت، فقيل لهم: لابد من نزوله بكم بقوله تعالى: {فإنه ملاقيكم} قال الفراء: العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل: (من) و(الذي) فمن أدخل الفاء هاهنا ذهب (بالذي) إِلى تأويل الجزاء.
وفي قراءة عبد الله {إِن الموت الذي تفرُّون منه ملاقيكم} وهذا على القياس، لأنك تقول: إن أخاك قائم، ولا تقول: فقائم، ولو قلت: إن ضاربك فظالم، لجاز، لأن تأويله: إن من يضربك فظالم.
وقال الزجاج: إنما جاز دخول الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء.
ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله تعالى: {تفرُّون منه} كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره {فإنه ملاقيكم} وتكون {فإنه} استئنافًا بعد الخبر الأول.
قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة} وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر، ولم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، كان إِذا جلس على المنبر أذَّن بلال على باب المسجد، وكذلك كان على عهد أبي بكر، وعمر، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين على دارٍ له بالسُّوق، يقال لها (الزوراء) وكان إذا جلس أذَّن أيضًا.
قوله تعالى: {للصلاة} أي: لوقت الصلاة.
وفي {الجمعة} ثلاث لغات.
ضم الجيم والميم، وهي قراءة الجمهور.
وضم الجيم مع إسكان الميم، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وعكرمة، والزهري، وابن أبي ليلى، وابن أبي عبلة، والأعمش.
وبضم الجيم مع فتح الميم، وبها قرأ أبو مجلز، وأبو العالية، والنخعي، وعدي بن الفضل عن أبي عمرو.
قال الزجاج: من قرأ بتسكين الميم، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين.
وأما فتح الميم، فمعناها: الذي يجمع الناس، كما تقول: رجل لُعَنَة: يكثر لعنة الناس، وضُحَكَة: يكثر الضحك.
وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال.
أحدها: لأن فيه جُمع آدم.
روى سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري ما الجمعة؟» قلت: لا.
قال: «فيه جُمع أبوك»، يعني: تمام خلقه في يوم.
والثاني: لاجتماع الناس فيه للصلاة.
والثالث: لاجتماع المخلوقات فيه، لأنه اليوم الذي منه فرغ من خلق الأشياء.
وفي أول من سماها بالجمعة قولان.
أحدهما: أنه كعب بن لؤي سماها بذلك، وكان يقال ليوم الجمعة: العَروبة، قاله أبو سلمة.
وقيل: إِنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه.
والثاني: أول من سماها بذلك الأنصار، قاله ابن سيرين.
قوله تعالى: {فاسعَوا إلى ذكر الله} وفي هذا السعي ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه المشي، قاله ابن عباس.
وكان ابن مسعود يقرؤها {فامضوا} ويقول: لو قرأتها {فاسعَوْا} لسعَيت حتى يسقط ردائي.
وقال عطاء: هو الذهاب والمشي إلى الصلاة.
والثاني: أن المراد بالسعي: العمل، قاله عكرمة، والقرظي، والضحاك، فيكون المعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له، والاشتغال بالطهارة ونحوها.
والثالث: أنه النية بالقلب، قاله الحسن.
وقال ابن قبيبة: هو المبادرة بالنية والجدّ.
وفي المراد {بذكر الله} قولان.
أحدهما: أنه الصلاة، قاله الأكثرون.
والثاني: موعظة الإمام، قاله سعيد بن المسيب.
قوله تعالى: {وذروا البيع} أي: دعوا التجارة في ذلك الوقت.
وعندنا: أنه لا يجوز البيع في وقت النداء، ويقع البيع باطلًا في حق من يلزمه فرض الجمعة، وبه قال مالك خلافًا للأكثرين.
فصل:
تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر، إذا كان المؤذن صَيِّتًا، والريح ساكنة.
وقد حدَّه مالك بفرسخ، ولم يحدّه الشافعي.
وعن أحمد في التحديد نحوهما.
وتجب الجمعة على أهل القرى.
وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على أهل الأمصار.
ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافًا للشافعي.
ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين.
وعن أحمد: أقله خمسون.
وعنه: أقله ثلاثة.
وقال أبو حنيفة: تنعقد بثلاثة والإمام، والعدد شرط في الجمعة وقال أبو حنيفة في إِحدى الروايتين: يصح أن يخطب منفردًا.
وهل تجب الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان.
وعندنا: تجب على الأعمى إذا وجد قائدًا، خلافًا لأبي حنيفة.
ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين، خلافًا لأبي حنيفة.
وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إِذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان.
وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة.
وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف: لا تجوز إلا في موضع واحد.
وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافًا لأكثرهم، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة، وبه قال الشعبي، والنخعي، خلافًا للأكثرين.
والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة.
وقال أبو حنيفة: يكره.
ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال.
وقال أبو حنيفة: يجوز.
وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن أحمد روايتان.
ونقل عن أحمد: أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد.
وقال أبو حنيفة: يجوز لكل سفر.
وقال الشافعي: لا يجوز أصلًا.
والخطبة شرط في الجمعة.
وقال داود: هي مستحبة.
والطهارة لا تشترط في الخطبة، خلافًا للشافعي في أحد قوليه.
والقيام ليس بشرط في الخطبة، خلافًا للشافعي.
ولا تجب القعدة بين الخطبتين، خلافًا له أيضًا.
ومن شرط الخطبة: التحميد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والموعظة.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يخطب بتسبيحة.
والخطبتان واجبتان.
وأما القراءة في الخطبة الثانية، فهي شرط، خلافًا للشافعي.
والسُّنَّة للإمام إذا صعِد المنبر، واستقبل الناس: أن يسلِّم، خلافًا لأبي حنيفة، ومالك.
وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان.
ويحرم على المستمع دون الخاطب، خلافًا للأكثرين.
ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة، وبعد الفراغ منها، خلافًا لأبي حنيفة.
ويستحب له أن يصليَ تحية المسجد والإمام يخطب، خلافًا لأبي حنيفة، ومالك.
وهل يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر، فيه عن أحمد روايتان.
قوله تعالى: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي: إِن كان لكم علم بالأصلح {فإذا قضيت الصلاة} أي: فرغتم منها {فانتشروا في الأرض} هذا أمر إباحة {وابتغوا من فضل الله} إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى: {وذروا البيع} وقال الحسن، وابن جبير: هو طلب العلم.
قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة} سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قَدِمَتْ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا إثنا عشر رجلًا، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم في (الصحيحين) من حديث جابر بن عبد الله، قاله الحسن: وذلك أنهم أصابهم جوع.
وغلاء سعر، فلما سمعوا بها خرجوا إليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم التهب عليهم الوادي نارًا» قال المفسرون: كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي، قال مقاتل: وذلك قبل أن يسلم.
قالوا: قَدِمَ بها من الشام، وضرب لها طبل يُؤذن الناس بقدومها.
وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير.
قال جابر بن عبد الله: كانت التجارة طعامًا.
وقال أبو مالك: كانت زيتًا.
والمراد باللهو: ضرب الطبل.
و {انفضوا} بمعنى: تفرَّقوا عنك، فذهبوا إليها.
والضمير للتجارة.
وإنما خصت برد الضمير إِليها، لأنها كانت أهم إليهم، هذا قول الفراء، والمبرد.
وقال الزجاج: المعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوًا انفضوا إليه، فحذف خبر أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف.
وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة {انفضوا إليهما}.
على التثنية، وعن ابن مسعود، وابن أبي عبلة {انفضوا إليه} على ضمير مذكر {وتركوك قائمًا} وهذا القيام كان في الخطبة {قل ما عند الله} من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل، ويبتدئ من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته، ويُقبل على خدمته. اهـ.