فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

سورة الجمعة مدنية وآيها إحدى وعشرة آية.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم}
وقد قرئ الصفات الأربع بالرفع على المدح.
{هُوَ الذي بَعَثَ في الأميين} أي في العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون. {رَسُولًا مّنْهُمْ} من جملتهم أميًا مثلهم. {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته} من كونه أميًا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم. {وَيُزَكّيهِمْ} من خبائث العقائد والأعمال. {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} القرآن والشريعة، أو معالم الدين من المنقول والمعقول، ولو لم يكن له سواه معجزة لكفاه. {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لفي ضلال مُّبِينٍ} من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم، وإزاحة لما يتوهم أن الرسول تعلم ذلك من معلم، و{إن} هي المخففة واللام تدل عليها.
{وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ} عطف على {الأميين}، أو المنصوب في {يَعْلَمُهُمْ} وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم الدين، فإن دعوته وتعليمه يعم الجميع. {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون. {وَهُوَ العزيز} في تمكينه من هذا الأمر الخارق للعادة. {الحكيم} في اختياره وتعليمه.
{ذلك فَضْلُ الله} ذلك الفضل الذي امتاز به عن أقرأنه فضله. {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} تفضلًا وعطية. {والله ذُو الفضل العظيم} الذي يستحقر دونه نعيم الدنيا، أو نعيم الآخرة أو نعميهما.
{مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} علموها وكلفوا العمل بها. {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} لم يعملوا بها أو لم ينتفعوا بما فيها. {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَارًا} كتبًا من العلم يتعب في حملها ولا ينتفع بها، ويحمل حال والعامل فيه معنى المثل أو صفة إذ ليس المراد من {الحمار} معينًا. {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله} أي مثل الذين كذبوا وهم اليهود المكذبون بآيات الله الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ويجوز أن يكون الذين صفة للقوم والمخصوص بالذم محذوفًا. {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين}.
{قُلْ يا أَيُّهَا الذين هَادُواْ} تهودوا. {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} إذ كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. {فَتَمَنَّوُاْ الموت} فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة. {إِن كُنتُمْ صادقين} في زعمكم.
{وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي. {والله عَلِيمٌ بالظالمين} فيجازيهم على أعمالهم.
{قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} وتخافون أن تتمنوه بلسانكم مخافة أن يصيبكم فتؤخذوا بأعمالكم. {فَإِنَّهُ ملاقيكم} لاحق بكم لا تفوتونه، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف، وكأن فرارهم يسرع لحوقه بهم. وقد قرئ بغير فاء ويجوز أن يكون الموصول خبرًا والفاء عاطفة. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بأن يجازيكم عليه.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} أي إذا أذن لها. {مِن يَوْمِ الجمعة} بيان لـ: {إِذَا} وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، وكانت العرب تسميه العروبة. وقيل سماه كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه إليه، وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة نزل قباء فأقام بها إلى الجمعة، ثم دخل المدينة وصلى الجمعة في واد لبني سالم بن عوف. {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فامضوا إليه مسرعين قصدًا فإن السعي دون العدو، وال {ذُكِرَ} الخطبة، وقيل الصلاة والأمر بالسعي إليها يدل على وجوبها. {وَذَرُواْ البيع} واتركوا المعاملة. {ذلكم} أي السعي إلى ذكر الله. {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المعاملة فإن نفع الآخرة خير وأبقى. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أديت وفرغ منها. {فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} إطلاق لما حظر عليهم، واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. وفي الحديث: «ابتغوا من فضل الله ليس بطلب الدنيا وإنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله» {واذكروا الله كَثِيرًا} واذكروه في مجامع أحوالكم ولا تخصوا ذكره بالصلاة. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بخير الدارين.
{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب للجمعة فمرت عليه عير تحمل الطعام، فخرج الناس إليهم إلا اثني عشر رجلًا فنزلت. وإفراد التجارة برد الكناية لأنها المقصودة، فإن المراد من اللهو الطبل الذي كانوا يستقبلون به العير، والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته، أو للدلالة على أن الإنفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذمومًا كان الانفضاض إلى اللهو أَولى بذلك. وقيل تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه. {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} أي على المنبر. {قُلْ مَا عِندَ الله} من الثواب. {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فإن ذلك محقق مخلد بخلاف ما تتوهمون من نفعهما {والله خَيْرُ الرزقين} فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين». اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة الجمعة:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}
وقرأ الجمهور: {الملك} بجرّه وجر ما بعده؛ وأبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدّينار الأعرابي: بالرفع على إضمار هو، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة، وكذلك جاء عن يعقوب.
وقرأ أبو الدينار وزيد بن عليّ: {القدوس} بفتح القاف؛ والجمهور: بالضم.
{هو الذي بعث} الآية: تقدم الكلام في نظيرها في آل عمران وفي نسبة الأمّي.
{وآخرين}: الظاهر أنه معطوف على {الأمّيين}، أي وفي آخرين من الأمّيين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون.
وقيل: {وآخرين} منصوب معطوف على الضمير في {ويعلمهم}، أسند تعليم الآخرين إليه عليه الصلاة والسلام مجازًا لما تناسق التعليم إلى آخر الزمان وتلا بعضه بعضًا، فكأنه عليه الصلاة والسلام وجد منه.
وقال أبو هريرة وغيره: {وآخرين} هم فارس، وجاء نصًا عنه في صحيح البخاري ومسلم، ولو فهم منه الحصر في فارس لم يجز أن يفسر به الآية، ولكن فهم المفسرون منه أنه تمثيل.
فقال مجاهد وابن جبير: الروم والعجم.
وقال مجاهد أيضًا وعكرمة ومقاتل: التابعين من أبناء العرب لقوله: {منهم}، أي في النسب.
وقال مجاهد أيضًا والضحاك وابن حبان: طوائف من الناس.
وقال ابن عمر: أهل اليمن.
وعن مجاهد أيضًا: أبناء الأعاجم؛ وعن ابن زيد أيضًا: هم التابعون؛ وعن الضحاك أيضًا: العجم؛ وعن أبي روق: الصغار بعد الكبار، وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل، كما حملوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في فارس: {وهو العزيز الحكيم} في تمكينه رجلًا أمّيًا من ذلك الأمر العظيم، وتأييده واختياره من سائر البشر.
{ذلك فضل الله}: أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه.
{مثل الذين حملوا التوراة}: هم اليهود المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، ولم يطيقوا القيام بها حين كذّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي ناطقة بنبوته.
وقرأ الجمهور: {حملوا} مشددًا مبنيًا للمفعول؛ ويحيى بن يعمر وزيد بن عليّ: مخففًا مبنيًا للفاعل.
شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتبًا، فهو لا يدري ما عليه، أكتب هي أم صخر وغير ذلك؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها.
وقال الشاعر في نحو ذلك:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ** بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدى ** بأوساقه أو راح ما في الغرائر

وقرأ عبد الله: {حمار} منكرًا؛ والمأمون بن هارون: {يحمل} بشد الميم مبنيًا للمفعول.
والجمهور: {الحمار} معرفًا، و{يحمل} مخففًا مبنيًا للفاعل، و{يحمل} في موضع نصب على الحال.
قال الزمخشري: أو الجر على الوصف، لأن الحمار كاللئيم في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

انتهى.
وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل، وحملوا عليه.
{وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال، لا في موضع الصفة.
ووصفه بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، والجمل نكرات.
{بئس مثل القوم}.
قال الزمخشري: بئس مثلًا مثل القوم. انتهى.
فخرجه على أن يكون التمييز محذوفًا، وفي بئس ضمير يفسره مثلًا الذي ادعى حذفه.
وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه.
وقال ابن عطية: والتقدير بئس المثل مثل القوم. انتهى.
وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز.
والظاهر أن {مثل القوم} فاعل {بئس}، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله، وهم اليهود، أو يكون {الذين كذبوا} صفة للقوم، والمخصوص بالدم محذوف، التقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثلهم، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة.
روي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتموه أطعناكم، وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا لهم: نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير بن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت: {قل يا أيها الذين هادوا}، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، وإن كان قولكم حقًا فتمنوا أن تنقلوا سريعًا إلى دار كرامته المعدة لأوليائه، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور: {فتمنوا الموت}، بضم الواو؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع: بكسرها؛ وعن ابن السميفع أيضًا: فتحها.
وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو، وهذا كقراءة من قرأ: {تلؤون} بالهمز بدل الواو.
قال الزمخشري: ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيدًا وتشديدًا ليس في لا، فأتى مرة بلفظ التأكيد: {ولن يتمنوه} ومرة بغير لفظه: {ولا يتمنونه}، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه، وأما قوله: إلا أن في لن تأكيدًا وتشديدًا ليس في لا، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان.
وقرأ الجمهور: {فإنه}، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته، فكان إن باشرت الذي، وفي الذي معنى الشرط، فدخلت الفاء في الخبر، وقد منع هذا قوم، منهم الفراء، وجعلوا الفاء زائدة.
وقرأ زيد بن علي: {إنه} بغير فاء، وخرجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر إن هو الذي، كأنه قال: قل إن الموت هو الذي تفرون منه. انتهى.
ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله: {أنه ملاقيكم}، فالجملة خبر إن، ويحتمل أن يكون إنه توكيدًا، لأن الموت وملاقيكم خبر إن.
لما طال الكلام، أكد الحرف مصحوبًا بضمير الاسم الذي لإن.
{إذا نودي}: أي إذا أذن، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر.
وكذا كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة.
وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان، كثر الناس وتباعدت المنازل، فزاد مؤذنًا آخر على داره التي تسمى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضى الله عنه.
فإن قلت: من في قوله: {من يوم الجمعة} ما هي؟ قلت: هي بيان لإذا وتفسير له. انتهى.
وقرأ الجمهور: {الجمعة} بضم الميم؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش: بسكونها، وهي لغة تميم، ولغة بفتحها لم يقرأ بها، وكان هذا اليوم يسمى عروبة، ويقال: العروبة.
قيل: أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة، صلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام.
وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم المدينة، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، في بطن واد لهم، فخطب وصلى الجمعة.
والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله}، وأنه يكون في المشي خفة وبدار.
وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم: إنما تؤتى الصلاة بالسكينة، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل، وليس الإسراع في المشي، كالسعي بين الصفا والمروة؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي.
والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عمومًا، وأنهما فرض على الأعيان.
وعن بعض الشافعية، أنها فرض كفاية، وعن مالك رواية شاذة: أنها سنة.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم» وقالوا: المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم. فلو حضر غيره أجزأتهم. انتهى.
والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها، واختلف الفقهاء في ذلك.
فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري: ستة أميال.
وقيل: خمسة.
وقال ربيعة: أربعة أميال.
وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر.
وقال مالك والليث: ثلاثة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: على من في المصر، سمع النداء أو لم يسمع، لا على من هو خارج المصر، وإن سمع النداء.
وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق: على من سمع النداء.
وعن ربيعة: على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيًا أدرك الصلاة.
وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين: فامضوا بدل {فاسعوا}، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، ولا يكون قرآنًا لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.
وذكر الله هنا الخطبة، قاله ابن المسيب، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور.
وقال الحسن: هي مستحبة، والظاهر أنه يجزئ من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكرًا.
قال أبو حنيفة: لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز، وقال غيره: لابد من كلام يسمى خطبة، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن، والظاهر تحريم البيع، وأنه لا يصح.
وقال ابن العربي: يفسخ، وهو الصحيح.
وقال الشافعي: ينعقد ولا يفسخ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعًا، مفسوخ ورعًا. انتهى.
وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة، ونهوا عن تجارة الدنيا، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة، قاله الضحاك والحسن وعطاء.
وقال ناس غيرهم: من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع، والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة، وفضل الله هو ما يلبسه في حالة حسنة، كعيادة المريض، وصلة صديق، واتباع جنازة، وأخذ في بيع وشراء، وتصرفات دينية ودنيوية؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله.
وقال مكحول والحسن وابن المسيب: الفضل: المأمور بابتغائه هو العلم.
وقال جعفر الصادق: ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت، ويعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة.
وروي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بعير تحمل ميرة.
قال مجاهد: وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درابها، فدخلت بها، فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوه صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر في اثني عشر رجلًا.
قال جابر: أنا أحدهم.
قال أبو بكر غالب بن عطية: هم العشرة المشهود لهم بالجنة، والحادي عشر قيل: عمار.
وقيل: ابن مسعود.
وقيل: ثمانية، قالوا: فنزلت: {وإذا رأوا تجارة}.
وقرأ الجمهور: {إليها} بضمير التجارة؛ وابن أبي عبلة: إليه بضمير اللهو، وكلاهما جائز، نص عليه الأخفش عن العرب.
وقال ابن عطية: وقال إليها ولم يقل إليهما تهممًا بالأهم، إذ كانت سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها.
وتأمّل أن قدّمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولًا على الأبين. انتهى.
وفي قوله: {قائمًا} دلالة على مشروعية القيام في الخطبة.
وأول من استراح في الخطبة عثمان، وأول من خطب جالسًا معاوية.
وقرئ: إليهما بالتثنية للضمير، كقوله تعالى: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما} وتخريجه على أن يتجوّز بأو، فتكون بمعنى الواو، وقد تقدّم غير هذا التخريج في قوله: {فالله أولى بهما} في موضعه في سورة النساء.
وناسب ختمها بقوله: {والله خير الرازقين}، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار، كما تقدم في سبب النزول، وقد ملأ المفسرون كثيرًا من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن. اهـ.