فصل: سؤال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سؤال:

فإن قلت: لم شرط الارتهان في السفر مع عدم الكاتب ولا يختص به سفر دون حضر وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه إلى أجل، ولم يكن ذلك في سفر ولا عند عدم كاتب.
قلت ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة دون الحضر، ولكن لما كان السفر مظنة لإعواز الكاتب.
والإشهاد أمر الله تعالى به على سبيل الإرشاد إلى حفظ الأموال لمن كان على سفر بأن يقيم التوثيق بالارتهان مقام الكتابة والإشهاد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال السعدي:

وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم، لاشتمالها على العدل والمصلحة، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه. اهـ.

.فصل في أن نفقة الرهن على الذي يركب ويشرب:

قال القرطبي:
روى البخاريّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظَّهْرُ يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا ولبن الدرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» وأخرجه أبو داود وقال بدل «يشرب» في الموضعين: «يحلب».
قال الخطّابيّ: هذا كلام مُبْهم ليس في نفس اللفظ بيانُ مَن يركب ويحلب، هل الراهن أو المرتهِن أو العدل الموضوع على يده الرهن؟.
قلت: قد جاء ذلك مبيَّنا مفسَّرًا في حديثين، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك؛ فروى الدارقطنيّ من حديث أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدَّرّ يشرب وعلى الذي يشرب نفقته» أخرجه عن أحمد بن عليّ بن العلاء حدّثنا زياد بن أيوب حدّثنا هشيم حدّثنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة.
وهو قول أحمد وإسحاق: أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة. وقال أبو ثور: إذا كان الرّاهِن ينفق عليه لم ينتفع به المرتَهِن. وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدامُ العبد.
وقاله الأوزاعيّ والليث.
الحديث الثاني خرّجه الدارقطنيّ أيضًا، وفي إسناده مقال ويأتي بيانه من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذِئب عن الزهريّ عن المَقْبُريّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَق الرهنُ ولصاحبه غُنْمه وعليه غُرْمه» وهو قول الشافعي والشعبيّ وابن سِيرين، وهو قول مالك وأصحابه.
قال الشافعي: منفعة الرهن للراهن، ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خَلاَ الإحفاظ للوثيقة.
قال الخطابي: وهو أولى الأقوال وأصحها، بدليل قوله عليه السلام: «لا يغلق الرهن مِن صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه» قال الخطابي: وقوله: «من صاحبه» أي لصاحبه.
والعرب تضع مِن موضع اللاّم؛ كقولهم:
أمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لمْ تُكَلَّمِ

قلت: قد جاء صريحًا لصاحبه فلا حاجة للتأويل.
وقال الطحاوي: كان ذلك وقتَ كون الرِّبا مباحًا، ولم يُنْه عن قرض جَرَّ منفعة، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حرّم الربا بعد ذلك.
وقد أجمعت الأُمَّة على أن الأمَة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها؛ فكذلك لا يجوز له خدمتها.
وقد قال الشعبيّ: لا ينتفع من الرهن بشيء.
فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عنده ذلك إلا وهو مَنْسُوخ.
وقال ابن عبد البر وقد أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن.
ولا يخلو من أن يكون احتلابُ المرتَهِن له بإذن الراهن أو بغير إذنه؛ فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحتلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» ما يردّه ويقضي بنسخه.
وإن كان بإذنه ففي الأُصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغَرَر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يُخْلق، ما يردّه أيضًا؛ فإنّ ذلك كان قبل نزول تحريم الرِّبا. والله أعلم.
وقال ابن خويز منداد: ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان: إن كان من قرض لم يجز، وإن كان من بيع أو إجَارَة جاز؛ لأنه يصير بائعًا للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدّة معلومة فكأنه بيع وإجارة، وأما في القرض فلأنه يصير قرضًا جرّ منفعةً؛ ولأن موضوع القرض أن يكون قُرْبَةً، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك رِبا. اهـ.

.فصل في نَماء الرهن:

قال القرطبي:
نَماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسِّمَن، أو كان نَسْلًا كالولادة والنتاج؛ وفي معناه فَسِيل النخل، وما عدا ذلك من غلّة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه.
والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأُمهات، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار؛ لأنها ليست تبعًا للأُمهات في الزكاة ولا هي في صُوَرها ولا في معناها ولا تقوم معها، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج. والله أعلم بصواب ذلك. اهـ.

.فصل في أن الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البَيْن:

قال القرطبي:
وتعرّضت هنا ثلاث مسائل تَتِمّة أربع وعشرين.
الأُولى اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البَيْن ونفى التنازع المؤدّي إلى فساد ذات البَيْن؛ لئلا يسوّل له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حدّ له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق؛ ولأجله حرّم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدّي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغُن والتباين.
فمن ذلك ما حرمه الله من الميْسِر والقِمار وشرب الخمر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر} الآية.
فمن تأدّب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدِّين؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [النساء: 66] الآية.
الثانية: روى البخاريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» وروى النسائيّ: عن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها استدانت، فقيل: يا أُم المؤمنين، تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ دينا وهو يريد أن يؤدّيه أعانه الله عليه» وروى الطحاويّ وأبو جعفر الطبريّ والحارث بن أبي أُسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُخيفوا الأنفس بعد أَمْنِها» قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال: «الدّينْ» وروى البخاريّ عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره: «اللهم أني أعوذ بك من الهَمّ والحَزَن والعَجْز والكَسَل والجُبْن والبُخْل وضَلَع الدَّيْن وغَلَبة الرّجال» قال العلماء: ضَلَع الدّيْن هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤدّيه.
وهو مأخوذ من قول العرب: حِمْل مُضْلِع أي ثقيل، ودابة مُضْلِع لا تقوى على الحَمْل؛ قاله صاحب العَيْن.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الدَّيْن شيْن الدِّين» وروي عنه أنه قال: «الديْن هَمٌّ بالليل ومَذَلَّةً بالنهار» قال علماؤنا: وإنما كان شَيْنا ومذَلّة لما فيه من شغل القلب والبال والهَمِّ اللازم في قضائه، والتذلّل للغريم عند لقائه، وتحمّل مِنَّته بالتأخير إلى حين أوانه. وربّما يَعد من نفسه القضاء فيُخلف، أو يحدِّث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث؛ إلى غير ذلك. ولهذا كان عليه السَّلام يتعوّذ من المأثم والمَغْرَم، وهو الديْن.
فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تتعوّذ من المغرم؟ فقال: «إن الرجل إذا غَرِم حدّث فكذِب ووعد فأخلف» وأيضًا فربما قد مات ولم يقضِ الدين فيرتهن به؛ كما قال عليه السَّلام: «نَسْمَة المؤمن مرتهنة في قبره بدَيْنه حتى يُقضى عنه». وكل هذه الأسباب مَشائن في الدِّين تذهب جماله وتنقص كماله. والله أعلم.
الثالثة: لما أمر الله تعالى بالكتْب والإشهاد وأخذ الرّهان كان ذلك نَصًّا قاطعًا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، وردًا على الجَهَلة المتصوّفة ورِعَاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم؛ ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرّض لِمَنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلَمَتهم، وهذا الفعل مذموم مَنْهِي عنه.
قال أبو الفرج الجَوْزِيّ: ولست أعجب من المتزهِّدين الذين فعلوا هذا مع قِلَّة علمهم، إنما أتعجّب من أقوام لهم عِلم وعقل كيف حَثّوا على هذا، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل.
فذكر المُحَاسِبيّ في هذا كلامًا كثيرًا، وشيّده أبو حامد الطُّوسِيّ ونصره. والحارث عندي أعذر من أبي حامد؛ لأن أبا حامد كان أفقه، غير أن دخوله في التصوّف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه.
قال المحاسِبي في كلام طويل له: ولقد بلغني أنه: لما توفي عبد الرحمن بن عَوْف قال ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك.
فقال كَعْب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن؟ كَسَب طَيِّبًا وأنفق طيبًا وترك طيبًا. فبلغ ذلك أبا ذَرٍّ فخرج مُغضَبًا يريد كعبًا، فمرّ بلَحْي بعير فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعبًا؛ فقيل لكعب: إن أبا ذَرٍّ يطلبك. فخرج هاربًا حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر.
فأقْبَلَ أبو ذرّ يقصّ الأثر في طلب كَعْب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربًا من أبي ذرّ، فقال له أبو ذرّ: يابن اليهودية، تزعم ألاّ بأس بما تركه عبد الرّحمن! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلاَّ من قال هكذا وهكذا» قال المحاسبي: فهذا عبد الرّحمن مع فضله يوقف في عَرْصَة {يوم} القيامة بسبب ما كسبه من حلال؛ للتّعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يَحبُو في آثارهم حَبْوًا، إلى غير ذلك من كلامه.
ذكره أبو حامد وشيّده وقوّاه: بحديث ثعلبة، وأنه أعطِي المال فمنع الزكاة. قال أبو حامد: فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده، وإن صرف إلى الخيرات؛ إذْ أقل ما فيه اشتغال الهِمّة بإصلاحه عن ذكر الله.
فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلاَّ قدر ضرورته، فما بقي له درهمٌ يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى. قال ابن الجوزِيّ: وهذا كله خلاف الشرع والعقل، وسوءُ فهم المراد بالمال، وقد شرفه الله وعظّم قدره وأمر بحفظه، إذّ جعله قُوامًا للآدميّ وما جعل قِوَامًا للآدميّ الشريف فهو شريف؛ فقال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].
ونهى جلّ وعزّ أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، قال لسعد: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس» وقال: «ما نفعني مال كمال أبي بكر» وقال لعمرو بن العاص: «نِعم المال الصالح للرجل الصالح» ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه: «اللَّهُمَّ أكثر ماله وولده وبارك له فيه».
وقال كعب: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله.
فقال: «أمسِك عليك بعض مالك فهو خير لك» قال الجوزِيّ: هذه الأحاديث مُخرّجة في الصحاح، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوّفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوَكّل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقًا كثيرًا اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعزّ، وأن سلامة القلب من الإفتتان به تَقل، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر؛ فلهذا خيف فتنته.
فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البُلْغَة من حلها فذلك أمر لابد منه، وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نُظِر في مقصوده؛ فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادّخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أُثِيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات.
وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمةً لحسن مقاصدهم بجمعه؛ فحرصوا عليه وسألوا زيادته.
ولما أقطع النبيّ صلى الله عليه وسلم الزّبِير حُضْر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمي سوطه، فقال: «أعطوه حيث بلغ سوطه» وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه: اللَّهُمَّ وسع عليّ.
وقال إخوة يوسف: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65].
وقال شعيب لموسى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27].
وإن أيّوبَ لما عوفِي نُثِرَ عليه رِجْلٌ من جَراد مِن ذهب؛ فأخذ يَحْثِي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له: أما شَبِعْتَ؟ فقال: يا رب فقير يشبع من فضلك؟ وهذا أمر مَرْكُوز في الطباع.
وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كَعْب وأبي ذَرّ فمحال، من وضع الجهّال وخفيت عدم صحته عنه للُحُوقه بالقوم.
وقد روى بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت؛ لأنّ في سنده ابن لَهِيعَة وهو مطعون فيه. قال يحيى: لا يحتج بحديثه. والصحيح في التاريخ أن أبا ذرّ توفي سنة خمس وعشرين، وعبد الرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذرّ سبعَ سنين.
ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة: إنا نخاف على عبد الرحمن! أو ليس الإجماع منعقدًا على إباحة جمع المال من حِلِّه، فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أوَ يأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه؟ هذا قلة فهم وفقه.
ثم أينكر أبو ذرّ على عبد الرحمن، وعبد الرحمن خير من أبي ذرّ بما لا يتقارب؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يَسْبرُ سيرَ الصحابة؛ فإنه قد خلّف طلحة ثلاثمائة بُهار في كل بُهار ثلاثة قناطير، والبُهار الحِمل، وكان مال الزبير خمسين ألفًا ومائتي ألف، وخلف ابن مسعود تسعين ألفًا، وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلّفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد.
وأما قوله: إن عبد الرحمن يَحْبُوا حَبْوًا يوم القيامة فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة؛ أفترى من سبَق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بَدْر والشُّورَى يحبو؟ ثم الحديث يرويه عُمارة بن زَاذَان؛ وقال البخاريّ: ربما اضطرب حديثه.
وقال أحمد: يروى عن أنس أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، وقال الدارقطني: ضعيف.
وقوله: تركُ المال الحلال أفضلُ من جمعه ليس كذلك، ومتى صَحّ القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء.
وكان سعيد بن المسيب يقول: لا خير فيمن لا يطلب المال؛ يقضي به دَيْنَه ويصون به عِرضه؛ فإن مات تركه ميراثًا لمن بعده.
وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار، وخلف سفيان الثوري مائتين، وكان يقول المال في هذا الزمان سلاح.
وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء؛ وإنما تحاماه قوم منهم إيثارًا للتشاغل بالعبادات، وجمع الهمّ فقنعوا باليسير.
فلو قال هذا القائل: إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم.
قلت: ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى. اهـ.